(فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به , وجئتك من سبأ بنبأ يقين)(النمل 22)
يبدو أن الهدهد علم بتهديد سليمان له , فحين جاء إليه انتظر على مسافة من سليمان , لا هى بالقريب فيقع تحت طائلته , ولا بالبعيد فلا يسمعه , عبّر الله عنها بقوله 🙁 فمكث غير بعيد ) , ومكث تدل على التوقف والانتظار , وأفهم منها أن الهدهد كان خائفا من سليمان عليه السلام , وهو فى نفس الوقت لديه من الشجاعة قدر كاف لأن يقف بين يدى سليمان لتبرير غيابه بغير إذن , فمكث غير بعيد .
وهناك تحليل آخر ,أن مكث تدل على زمن غياب الهدهد , أو انتظار سليمان لقدومه.
ولكنى يرجح عندى الاحتمال الأول, حيث يدل على الحالة النفسية التى كان عليها الهدهد عند لقاء سليمان , كما أن حرف الفاء المتكرر للعطف, يدل على تعاقب المكث والقول ” فمكث غير بعيد فقال..” , وتكون كلمة بعيد دالة على المسافة , لا على الزمن. والله أعلم .
.. نقل الهدهد إلى سليمان عليه السلام كمية ونوعية من البيانات الهامة والدقيقة , وعلق عليها من واقع إيمانه وثقافته , ثم نفذ خطة سليمان في توصيل كتابه إلى سبأ , وعلمنا الله من الهدهد الكثير , فلنحلل قوله في سورة النمل (22-28) :
● إنه أحاط , أى رأى وشاهد وسمع وفهم وحلّل وقيّم , فهو قد أحاط بالموقف علما ..( فقال أحطت ).
● وهو يعلم ويجزم أن سليمان لم يحط به (.. بما لم تحط به )
● وعلم أن هذه القرية اسمها سبأ ..(.. من سبأ..) وهى قرية بمأرب باليمن
● وهو قد جاء منها بنبأ يذاع لأول مرة عند سليمان …فكلمة (جئتك) تدل على إحضار بيانات وعلم من مكان خارج عن المكان الذى أنت فيه الآن (وهى بخلاف أتيتك) .
و ( النبأ ) هو من ( نبا ) أى أتى من مكان إلى مكان , أما الخبر فهو من العلم أو الإخبار.
فإن أذيع أمرٌ لأول مرة فهو نبأ , أما حين ينقل بعد ذلك فهو خبر .
إذن فالهدهد يعرف أن هذا نبأ يذاع لأول مرة فى هذه المنطقة , ولهؤلاء الناس , وعلى رأسهم سليمان عليه السلام .
● وهو واثق من نفسه ومن النبأ الذى أتى به فيصفه بأنه نبأ يقين إن الهدهد يفرز الأنباء ويدرك منها ماهو يقين .
وقد عاجل الهدهد سليمان بهذه المقدمة المشوّقة لكى يمتص غضبه بسبب غيابه , ولكى يستثير فضول سليمان الذى توعّده بالعذاب الشديد أو الذبح , واستثنى إن جاءه الهدهد بسلطان مبين .
لايجرؤ الهدهد على أن يقول لسليمان عليه السلام (بما لم تحط به ) إلا إن كان متأكدا من أن سليمان لم يحط بهذا , وهو يعلم أن سليمان له جنود من الجن والإنس والطير بما لكل منهم من قدرات , حيث أنه سيحرج منه – على أقل تقدير – إن فاجأه سليمان بأنه يحيط بهذا النبأ علما .. خاصة وسليمان غاضب عليه ومتوعده ..
لذا فالراجح عندى أن الهدهد يعلم يقينا بمايحيط به سليمان وما لم يحط به , أى أنه يعلم ما فى مخّ سليمان , وما ليس فى مخّه , من البيانات ..
ولم يعترض عليه سليمان فيما يخص أنه لم يحط بهذا النبأ , ولكنه أراد التأكد من صحة و يقين النبأ , حيث علّق بقوله ( قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) ويعنى هذا أنه يصدّقه فى مسألة أنّه لم يحط به , ولكنه سينظر فى النبأ ذاته إن صدق الهدهد أم كان من الكاذبين .
ولاعجب فى أن يتعلم الإنسان من مخلوقات أخرى , وبخاصة الطير, فإن ابن آدم قاتل أخيه , علّمه الغراب كيف يوارى سوأة أخيه.
والإنسان يتعلم من مبدأ حياته إلى نهايتها,بعد أن يخرج من بطن أمه (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا , وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة , لعلكم تشكرون)(النحل 78) وهو يتعلم بأمر الله وبما شاء الله (ولا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء)(البقرة 255) ولكن العلم بالتعلُّم , فلا عجب إذن من أن يتعلم سليمان من الهدهد.
ثم يفصّل الهدهد النبأ لنرى كيف أنه أحاط فعلا …..
إنّى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم (النمل23 )
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل فهم لايهتدون (النمل 24) .
ما هى طبيعة النبأ ؟
انقسم النبأ اليقين من وجهة نظر الهدهد إلى نوعين :
● النوع الأول : نبأ يُرى و يُحَسّ وترصده الحواس عن أشياء معلنة , تستطيع أن تراها بعينك وتسمعها بأذنك وتمسكها بيدك , وهى أربعة
- إنى وجدت امرأة : عرف أنها امرأة , فالهدهد يعرف الفارق بين المرأة والرجل .
- تملكهم : عرف العلاقة الإداريّة بينها وبين قومها , فهى لا ترأسهم , ولا تقودهم , ولا تؤمّهم وهى ليست فقط ملكتهم ولكنها تملكهم.
- وأوتيت من كل شئ : اطّلع على مُلكها , وقيّمه , كما أن لديه خبرة فى الأشياء عرف بها كيف يقيّم المُلك .
- ولها عرش عظيم : كذلك هو يقيّم عرشها ويقدّر أنه عظيم , ولديه أيضا خبرة بالعروش , وقدرة على تقييمها .
وكل هذه الأمور الأربعة أمور محسوسة ومدركة بالحواس الخمس , أو ببعضها.
● النوع الثانى : أنباء عن أشياء مخفية عن الحواس , فهى أشياء في عقل أو قلب بعض الناس , فلا تدرك إلا بالعقل , ولا تدرك بالحواس الخمس , وهى :
- وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله : ولا تستطيع من رؤيتك لقوم يسجدون أن تعرف أهم يسجدون لله , أم للشمس , أم نفاقا , أم لماذا, فذلك في نيتهم التى لايمكن الاطلاع عليها من الظاهر , ولكن الهدهد عرف ما فى عقولهم .
- وزين لهم الشيطان أعمالهم : وهى أيضا معلومة لا تُرى ولاتُدرك إلا بالعقل , فهى معلومة عقلية , تكمن فى عقول القوم , ولا تُدرك بالحواس.
- كما أنها تحتاج إلى فقه لدور الشيطان مع الناس , فهو يزين لهم أعمالهم , وليس له عليهم من سلطان , أما الأعمال , فهى أعمال الناس , وهذا من فقه الهدهد .
- فصدهم عن السبيل : كذلك هذه معلومة لا تدرك بالحواس , وإنما بالاطلاع على مخبوء العقول , ومعرفة الهدهد للسبيل الذى هو سبيل الله والحق , وسبيل الجنة , و ما يصد عنه إلا شيطان .
- فهم لايهتدون : أيضا , كيف تعرف أن هؤلاء قوم لا يهتدون , إلا بالاطلاع على مخبوء العقول , وأيضا يفقه الهدهد الهداية من الضلال .
كما عرض الهدهد تسلسل أسباب وخطوات الضلال :
فهو يبدأ من تقديس ما لا ينبغى تقديسه , والسجود لغير الله أى طاعة غيرالله والخضوع والذل لغيره سبحانه , والاطمئنان لغير الله.
بعد ذلك يتدخل الشيطان بتزيين هذه الأعمال وتحليتها فى عيون وقلوب الخاطئين , فيتمسكون بها .
فينتج عن ذلك فورا صدٌّ عن سبيل الله , وبالتالى الضلال فى كل شىء , والبعد عن الصراط المستقيم , واتباع السبل التى تفرق بهم عنه .
فور ذلك لا يهتدى القوم , وحين لا يهتدون , فلا تتوقع منهم أى تصرفات سليمة , ولا نتائج فى صالح أحد , فيصطدم الناس بعضهم ببعض , كل واحد منهم يسير فى فلك وحده .
أما من يمشى على الصراط المستقيم , فإنه لا يصطدم بغيره , تماما كالشمس والقمر , وكالليل والنهار (لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلٌّ فى فلك يسبحون)(يس40).
ولاحظ استخدام الهدهد للفاء فى شرح الأسباب وتتابع الخطوات إلى الضلال والبعد عن الهداية , فور تدخّل الشيطان ( فصدَّهم … فهم ..) ليدل على سرعة تأثير الشيطان على الخاطىء لو أتاح له الفرصة , وجعله يدخل إليه , والأسباب التى بها يضل الناس عن هدى ربهم , وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
إن الهدهد فرز البيانات فرزا نوعيا , وصنّفها فى صنفين , كل صنف فى آية منفصلة , الصنف الأول يدرك بالحواس , والصنف الآخر يدرك بالعقول, بل يدرك بالاطلاع على العقول وما خبىء فيها .
وهذه إشارة أخرى لإمكانيات الهدهد فى الاطلاع على الخبء المادى والمعنوى , وفى الاطلاع على خبء العقول .
ثم فلنحلل تعليق الهدهد على الأنباء.