( فلما جاءت قيل : أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو , وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين . وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين ).
لقد ردت الملكة على السؤال الذكى , بإجابة ذكية ( أهكذا عرشك )أى بهذا الشكل ؟ فالإجابة القطعية تكون : بلى هو هكذا , أو لا ليس بهذا الشكل , ولكنها قالت : “كأنه هو” وهى بهذه الإجابة تعتبر مرنة جدا حيث أن الإجابة تعنى أنه هكذا , ويزيد إلى أنه يصل إلى المطابقة مع عرشها حتى لكأنه هو.
إذن هى اهتدت لشكله القريب جدا من الأصل , ولكنها ربما لم تكن تتصور أن يأتى العرش بهذه السرعة , فلم تؤكد أنه هو .
والراجح أن سليمان هو القائل ( وأوتينا العلم من قبلها …), وهو تعقيب على رد الملكة . وهوقول لابد مرتبط بنتيجة الاختبار وبقولها , حيث أنه فى نفس الآية.
إن سليمان عليه السلام يبرر بقول الله عنه: (وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين) على سبب عدم اهتداء الملكة بعد, حيث أنها لم يأتها العلم من قبل, وقد أوتي سليمان العلم من قبلها, فهداه الله إليه, ولكن الملكة لم تكن قد أوتيت العلم بعد, أي أنها لم تكن ضالعة في الكفر, وإنما كان كفرها وسجودها للشمس عن جهل وقلة العلم.
ولعله يعنى العلم بأسلوب الاختبار غير المعروف حتى الآن, وبصفة المخ هذه التى إن علمها الإنسان فعليه ألاّ يصل فى رأيه ومناقشاته إلى مرحلة الإصرار والاستكبار , ليكون من المسلمين.
إن أسلوب القرآن فى الدعوة دائما يتجه إلى العقل ويناقشه , ويعرض عليه القضايا المنطقية , مستعملا ما أودع الله فيه من خصائص الإدراك والفهم والقياس والاستنتاج والتفكير , , وما خلق الله من حواس تدخل له البيانات والمعلومات ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا , وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) (النحل 78) فإن أغلق العقل , أو أغلقت مداخله من السمع والبصر , فهنا يأتى الإصرار والاستكبار , كما حدث مع من كفر من قوم نوح وأبى لهب والوليد .
أما إن استعمل الإنسان هذه الحواس والخصائص , فإنه لابد واصل إلى الهداية إلى الله وإلى أن يكون من المسلمين.
وهكذا يكون قول سليمان عليه السلام تحدثا بنعمة الله عليه بأن آتاه العلم من قبل وصول الملكة واختبارها , وبنعمته سبحانه أن جعل سليمان بهذا العلم من المسلمين. كما يكون فرحا بأن وصل إلى ما يرجوه من نتيجة الاختبار بما آتاه الله من علم من قبلها.
والآية التالية 🙁 وصدّها ما كانت تعبد من دون الله , إنها كانت من قوم كافرين ) فيها تبرير لما كانت عليه الملكة من قبل , من عدم الهداية حين كانت تسجد للشمس من دون الله , حيث كانت من قوم كافرين , فقلدتهم تقليدا أعمى , كما يقلد أكثر الناس آباءهم دون تفكير أو مراجعة , وينتقد الله عليهم ذلك ويقول ” أو لو كان آباؤهم لايعقلون شيئا ولايهتدون”(البقرة 170) وفى آية أخرى ” أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون” (المائدة104).
فالذى يحفظ الإنسان من السقوط في خطأ اتباع الآباء دون تفكير :
- أن يعقل الانسان, أى أن يحكّم عقله في موروثاته , (يعقلون) أو..
- أن يعلم أصل المسألة ومن أين جاءت أفعال الآباء(يعلمون) حتى إن وجد لها أصلا أصيلا , اطمأن له , وإلا فلابد من الاعتراض وعدم الاتباع , أو..
- أن يهتدى بواسطة إنسان آخر يجعله الله سببا في هدايته (يهتدون), فيعرض قضية الإيمان عليه , ويبين خطأ معتقدات الآباء
وقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام , من هذا الصنف الذى يراجع معتقدات الآباء على عقله , ويبحث عن الهداية , بعد أن رفع غشاوة الاتباع الأعمى للآباء عن عقله , وخلع غمامة التقليد الأعمى عن عينيه وذلك في قول الله تعالى ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ؟ إنّى أراك وقومك في ضلال مبين ) ( الأنعام 74). فأراه الله ملكوت السموات والأرض , وليكون من الموقنين (وكذلك نُرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين) ( الأنعام 75).
وتلخيصا فقد نتج عن الاختبار أن ملكة سبأ لم تكن قد أوتيت العلم بعد, بل كانت من قوم كافرين , وقلدتهم فيما كانت تعبد من دون الله , فصدها ذلك عن أن تهتدى , ولم تكن من أئمة الكفر الداعين له ,كما لم تكن مصرّة على الكفر , فأراد سليمان أن ينظر هل مازال هناك أمل فى عقلها أن يهتدى , أم أنها وصلت إلى نقطة اللاعودة , فأجرى لها اختبارا بتنكير عرشها وعرضه عليها , بحيث لو تعرّفت عليه كانت من الذين يهتدون , وإلا فهى من الذين لايهتدون , وعلامتهم ألا يتعرّفوا على شىء أصلىّ تم تغيير ملامحه , فإن ثبت عليهم ذلك فلا داعى للمحاولة معهم , ولا بد من تنحيتهم عن سبيل الدعوة حتى يمكن توصيلها إلى الناس , وتركهم بعد ذلك للاختيار.
وهذه خاصية للعقل أمام المنطق والحق بصفة عامة , ولها كما نرى اختبارات خاصة للتعرف عليها .
ثم كيف تحولت الملكة إلى الإسلام ؟
بعد استعراض سليمان لقدراته أمامها ( قيل لها ادخلى الصرح…)
لقد بنى الجن لسليمان صرحا ممردا من قوارير , أى بناء شامخا مصقولا من زجاج بللورى أملس , أرضه وحوائطه وسقفه , ولم تكن الملكة قد رأت أو تصورت , صرحا بهذه الكيفية , وهى التى أوتيت من كل شىء ولها عرش عظيم.
وربما يربط هذا الصرح بين نوعيتى الشياطين التى سخرها الله لسليمان حين طلب من الله أن يهب له ملكا لاينبغى لأحد من بعده , فسخر له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب , والشياطين كل بناء وغواص , وآخرين مقرنين في الأصفاد , وربما كان الغوّاصون يأتون بالرمال المخصوصة التى تصلح لصناعة الزجاج المصقول أو القوارير الممردة من قاع البحر , فيقوم البناءون ببناء الصرح .
وقد يكون قاع البحر في مناطق معينة , يحوى رمالا خاصة , تصلح لصناعة البللور , والكريستال , وتكون هذه إشارات لهذه الثروات
حين رأت الملكة الصرح , وطُلب منها , أو أُمرت أن تدخله ( فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها , قال إنه صرح ممرد من قوارير )
وهى حسبته لجّة من الماء لأن أرضه أيضا كانت من قوارير .
حين رأت الملكة كل هذه الأمور الخارقة للعادة :
● هدهد يلقى إليها بكتاب ويبلغ أخبارها وقراراتها , و..
● عرش يؤتى به قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه , و..
● صرح ممرد من قوارير ,
علمت الملكة أنها أمام ملك له قدرات خارقة , ومسخر له جنود من الجن والانس والطير ..
كما أن سليمان عليه السلام أوصل الملكة إلى حالة من التجرد , ساعدتها على رؤية الحق واتباعه . كيف كان ذلك؟
لقد أخرج سليمان الملكة من مملكتها دون مظاهر العظمة المادية التى كانت عليها , فلا ملأ, ولا مُلك , ولا قوم , ولا أرض , ولا عرش , ولا قوة , ولا بأس شديد.
.. كما جردها من مظاهر الغرور داخل نفسها , فلم يقابلها بنفسه . كما كانت تشعر بالقهر , وهذا ما سيتبين من الفصل التالى.
حين تجردت من كل هذه المظاهر , رجعت إلى نفسها , وأدركت أنها ظلمت نفسها أن كانت تسجد للشمس من دون الله , و…
( قالت رب إنى ظلمت نفسى , وأسلمت مع سليمان رب العالمين )
لقد اعترفت بظلمها لنفسها, وقررت الإسلام لله رب العالمين , الذى أعزها به , فأصبحت مع سليمان الملك .
إذن لقد أخرجها من مملكتها ذليلة , وأوصلها إلى أن صارت صاغرة , ثم وصلت فى نهاية المطاف إلى أن أصبحت (مع سليمان) مسلمة لله , الذى أعزها من ذل الكفر فى الدنيا والخزى يوم القيامة , ومن ذل الجهل بالسجود للشمس من دون الله , إلى السجود لله , كما نصح الهدهد حين قال (ألاّ يسجدوا لله الذى يخرج الخبء ..) , وهى بذلك قد حفظت عرشها بأن أسلمت لله الذى لا إله إلاّ هو ربّ العرش العظيم .
فكانت كل الإجراءات التى أمر بها سليمان فى صالحها , وفى عزتها وحفظها فى الدنيا والآخرة.
لم يقص الله علينا شيئا بشأن قوم سبأ وملئهم , وهل تحولوا إلى الإسلام أم ظلوا على كفرهم , ولكنه سبحانه تركنا نفهمها من أن الملكة نفسها أسلمت , وهى تملكهم ويفوضونها فى الأمر , فالمفهوم ضمنا أنهم سيتبعونها , وستكون هى رسولة نبىّ الله سليمان عليه السلام إلى قومها بعد أن اهتدت
إذن لقد نجحت خطة سليمان ووصل إلى الهدف من أقصر الطرق , دون أن يكرهها فى الدين .
لم يتحدث سليمان عليه السلام فى شأن الدعوة مع ملكة سبأ , إلا بمضمون الرسالة التى ألقاها إليها الهدهد “ألاّ تعلوا علىّ وأتونى مسلمين” ,ثم كانت دعوته بعد ذلك استعراضا للقوة والإمكانيات.
إذن فالقوة والعلم والتقنيات العالية , أدوات نافذة للدعوة , ومن يملكها ويستعرض بها , يلتف الناس من حوله , ويصدقونه .
.. ولو أيد هذا حسن تصرفه وحكمته والتزامه بالعدل والإحسان , كان أقوى دعاية لمبدئه وعقيدته : فالمؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف .
وسليمان عليه السلام هو نبى القوة والعلم والتقنية , ويعلمنا الله به أن قوة الداعية هى تيسير لمهمته , وقوة للدعوة , ونصرة لله ولدينه . لا تكلفه عناء مواجهة المتشددين , ولا عنت الكافرين .
فأين نحن من هذه الأدوات ؟!!
إن القوة العلمية والاقتصادية والسياسية والإدارية للغرب , جعلت الناس يقلدونه في نظامه , بل وفى ملبسه وتصرفاته وعاداته وتقاليده , فلو أن الغرب كان مهتديا إلى الإيمان , لكان الناس أشد اتباعا له , ولم يكن ليحتاج أن يقنعهم بالايمان .
هذا بخلاف إنسان على الحق , ويؤمن بالله , ولديه ما هداه الله من الكتاب والحكمة , ولكنه ضعيف كسول متأخر جاهل , أنى يستجاب له , إنه قدوة سيئة لايحتذى بها في عالم القوة والتقدم . بل هو محسوب على الدعوة .