حيث أنه من سنن الله في خلقه الاختلاف , وأن الله ألهم النفس فجورها وتقواها , فإنه حتما سيكون هناك من يخرج عن الصف , ويقاوم دعوة الهدى والإصلاح. وهو ما تم الإعلان عنه في الفاتحة , بأن الناس ينقسمون أمام الصراط المستقيم إلى من أنعم الله عليهم , والمغضوب عليهم , والضالين.
ومنذ أن قدّر الله سنّة الاختيار لخلقه , وقع إبليس اللعين في المعصية , وخرج عن طاعة الله , فشكّل بداية الخروج من النور إلى الظلمات , ونشأة حزب الشيطان .
وكذلك جعل الله لكل نبي عدوا من المجرمين. وكذا لكل داعية.
فالله علّم بالقلم , ومن القلم التقليم أو التمييز بين شيئين وبين طريقين . فعند وجود طريق الخير لا بد من ظهور الشرّ , وعند وجود الاختيار لابد من وجود البدائل.
ولابد في الدعوة من التعرف على العدو قبل التعرف على الصديق , وقبل التعرف على الضالين.
ولهذا فقد نزلت سورة المسد تحدد العدوّ:
فمن الناس من يصل إلى نقطة اللاعودة , من بعد ما يتبين له الحق , فيرفضه مبدئيا, بل يقف في وجهه ويحاربه ويظاهر عليه . فهذا لا فائدة فيه من البداية , ولا تضيّع معه وقتا , مثل أبي لهب :
قال البخاري إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى “يا صباحاه” فاجتمعت إليه قريش فقال “أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقونى؟ – قالوا نعم قال- فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبا لك فأنزل الله “(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2)سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(3)وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4)فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ(5)) المسد.
إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اشترط أولا علي الناس ومنهم أبو لهب أن يصدقوه, وأخذ منهم التصديق قبل أن يحدثهم عن رسالته ,فاعترفوا له مسبقا بالصدق وعدم الكذب. ثم حين أبلغهم بدعوة الحق , بادره أبو لهب بالتكذيب, وظل يحاربه ويدعو إلى تكذيبه , فنزلت السورة
إن أول عاص محارب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم , لحريّ بأن يصلى نارا ذات لهب , تماما كما أن أول عاص لله في كونه , لحريّ بأن يكون إبليسا , عليه لعنة الله إلى يوم الدين.
وهذا بخلاف أنواع أخرى من الذين لم يصدقوا في البداية:
من لم يصدّق, ولكنه لم يحارب , أو من احتاج إلى شروح وبراهين ليصدّق , أو من كان متعجّبا متشككا , أو من كان خائفا على نفسه ومصالحه , أومن كانت له مصالح مرحلية في الكفر, أو غير ذلك من أصناف الناس. ولكن أبا لهب كان يحارب ويشكك الناس في صدق رسول الله وسلامة عقله صلّى الله عليه وسلم.
فالداعية عليه من البداية أن يكشف أبا لهب وأمثاله من اللهبيين المارقين الذين يعارضون لمجرد المعارضة , رغم علمهم بالحجة والمنطق والبرهان المبين , فيتركهم وشأنهم , ويتجنب المواجهات معهم في المرحلة الأولى, والتي يضيع معها الوقت والجهد دون جدوى , بل يركّز على الذين يريدون وجه الله :
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28))الكهف
ومن سنن الله أن الدعوة لابد أن تواجه بعدو من المجرمين , من شياطين الإنس والجنّ.
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112))الأنعام
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا(31))الفرقان
وحين يحدد العدو من البداية , يحذره الداعية , ويتجنب إضاعة الوقت معه , كما لا يتأثر بمقاومته .
إذن تتلخص هذه المرحلة في تعيين العدو والاعتراف به , وإظهاره , وعدم مهادنته , وعدم التأثر بمقاومته
هذا , وقد تم الكشف عن بقية أعضاء حزب الشيطان وصفاتهم, وبعضها من السور الأولى التي سبقت الإشارة إليها:
ففي العلق: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)
وفي القلم: (فَلَا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ(8)وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9)وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)
وفي المزّمّل: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا(11(
وفي المدّثّر: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11(
وفي الفاتحة: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)
وفي المسد ذكر أبو لهب وامرأته.
وملخص هذه المرحلة هو :
• تعيين وتحديد صفة العدو
• إنذار العدوّ وتهديده بعذاب الله, الذي يتعامل مباشرة مع هؤلاء, بإنذاراته وتهديداته التي تتصاعد حسب جرم المجرمين
• على الدعاة إلى الله في المرحلة الأولى أن يبلغوا كلام الله للناس, ولا يتعرضوا لهم بأكثر من ذلك , والله كفيل بهم.مع عدم طاعة العدو أو ملاينته أو مهادنته.
• التحذير الخاص من أولي النَعْمة , المترفين المنعّمين وأصحاب القوة والعزة والسلطان