أشار الله إلى الرجعى في الدنيا وفي الآخرة في سورة العََلَق, وإلى عذاب الآخرة في سورة القلم, وجنات النعيم, ويوم القيامة, وأحوال الكافرين يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون,
ثم ذكر في المزّمّل أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصّة وعذابا أليما, يوم ترجف الأرض والجبال, في يوم يجعل الوادان شيبا, السماء منفطر به.
ثم في المدّثّر ذكر سقر, فهي لا تبقي ولا تذر. لواحة للبشر. عليها تسعة عشر. وأصحاب اليمين وحوارهم مع المجرمين: ما سلككم في سقر, فذكروا أسباب ذلك.
وفي الفاتحة, أعلن عن يوم الدين, حيث الوقوف بين يدي مالكه سبحانه للحساب.
وفي المسد ذكر أحوال أبي لهب – أحد كبار المجرمين- في النار, حيث سيصلى نارا ذات لهب, وامرأته حمالة الحطب, في جيدها حبل من مسد.
ثم بدأ القرآن يوجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيلا في الإعلان عن عقيدة البعث والحساب, فبماذا بدأ؟
لقد بدأ بهزّ كل الثوابت من حول الإنسان , وإعلامه بأن كل شيء سيتغير, وأن بعد هذه الحياة هناك قيامة , وسؤال وحساب وجحيم وجنة.
فكما قال الله وصدق, الإنسان يطغى أن رآه استغنى, ولهذا فإن التربية تبدأ بإعداد الإنسان للتلقّي , لتجهيزه ليتقبّل الدعوة أصلا, ليجلس مستمعا للدرس. فتبدأ بشد انتباهه إلى أن الثوابت المحيطة به في الكون هي في الحقيقة ليست بثوابت أبدا , وإنما ستتغير أحوالها وتتبدّل .
وإن للإنسان مرجعا ومآلا بعد انتهاء حياته , فسوف يقوم بعد الموت للسؤال والحساب عما أحضر من أعمال ,
وإن بعد الدنيا دارين سوف تحتويه إحداهما لا محالة , ويسكنها أبدا.
إن هذا الكون المحيط بنا , والذي نراه منتظما في حركته , بنظام ثابت لا يتغير, إنما سيغير من نظامه وثباته , فتكوّر الشمس (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1), وتنكدر النجوم وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ(2)),
وتسيّر الجبال الثابتة(وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ(3),
وتعطّل السماء عن المطر, والأرض عن إخراج الزرع ,(وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ(4)
وتلك الوحوش الضارية التي لا يتحكم في تصرفاتها إنسان سوف تُحشر حشرا (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ(5)…
أما البحار بمياهها التي تطفيء النار , ستكون هي نفسها نارا تُسجّر.. وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ(6)
والموتي الذين مضوا في التراب , يعاد بناء أجسادهم وتُزوّج نفوسهم بها .. وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ(7)
حتى تلك الطفلة البريئة التي يدفنها أبوها في التراب حيّة , من الخزي والعار الذي يشعر به أنه لم يرزق بذكر, سوف تُسأل (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8)بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9) ,
وتنشر الصحف المسجلة بها أعمال الناس..(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ(10).
والسماء غير محددة الأبعاد , تنزع كصفحة من صفحات الكتاب , وتُطوى كطي السجل للكتب (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ(11).
عند حدوث هذه الحوادث العظيمة , تبدو ظواهر أخرى لم يعهدها الإنسان في الدنيا , فتسعّر الجحيم , وتزلف الجنّة (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ(12)وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ(13), وهما مخلوقان جديدان على الإنسان , الذي يعلم عندئذ ما أحضر من أعمال في حياته
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ(14).
إذن فالمسألة ليست مقصورة على الحياة التي نحياها في الدنيا , وإنما الموضوع له امتداد خطير تنقلب فيه الأوضاع رأسا على عقب , وذلك الإنسان الذي كان يظن أنه حر التصرف , يفعل ما يشاء دون تكليف من أحد , وبلا خوف من رقيب ولا حساب , يوجد من يسجل عليه أعماله في صحف , سوف تنشر يوما ما , وهو آت لا محالة , سوف تعلم كل نفس ما أحضرت لهذا اليوم.
والملاحظ هنا أن الله سبحانه وحتى هذه المرحلة من بيان أحداث القيامة , لم يذكر من الذي سيفعل كل ذلك . كما لم يذكر لمن تسعّر الجحيم ولا لمن ستزلف الجنة , وإنما هو سبحانه يبين أن هذه الأمور ستحدث , وسيعقبها أن النفس ستعلم ما أحضرت. والإنسان الذي يعيش في هذا الكون سوف يقدّم للحساب على أفعاله , في يوم آت لا محالة. فما يفعله اليوم سيُسأل عنه غدا.
والآن , يحتاج هذا الخبر إلى تأكيد : من أتي به ؟ وممن بلغه ؟ وما مدى صدقه؟
فلكي يؤكد الله سبحانه صحة الخبر , فهو يقسم بالخنّس , الجوار الكنّس , وهذه طبقا لما علمناه من الدكتور زغلول النجار , أن النجوم بفقدانها لطاقتها , تنكدر , وتصير بلا ضوء ولا طاقة . ثم إن هناك نجوم خنّس , سوداء معتمة , ذات كثافة غاية في الارتفاع , تجري في الفضاء , فتبتلع أو تكنس الفضاء من النجوم المنكدرة , فتزداد كثافتها أكثر.
(فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ(17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18))
إن من يفعل ذلك ببعض النجوم اليوم , مما توصّل العلم إليه , لهو سبحانه قادر على أن يفعل ذلك غدا بكل النجوم , فإذا هي منكدرة.
إذن فالقول صادق وعليه دليل من العلم والعقل والظواهر الطبيعية الثابتة الدلالة , وهو سبحانه يقسم بالخنّس , الجوار الكنّس , كما يقسم بالليل إذا عسعس , فيتبعه الصبح إذا تنفّس ,إن هذا القسم دليل على صدق الخبر. فعلى أي شيء يقسم؟
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19)ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20)مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21))
إن هذا الخبر هو قول رسول كريم – هو الأمين جبريل-. ذي قوة عند ذي العرش مكين , مطاع ثم أمين , فقد نزل به من عند ذي العرش, فلم يهن ولم يضعف عن حمل كتابه , كما لم يفرّط ولم يبدّل فيه , حيث أنّه أمين.
ثم ما صفة الذي يحدثنا بهذا الخبر؟
إنه ربما يكون مجنونا يهذي , أو أنه ربما يكون قد رآى جبريل مناما , أو أنه يكون قد أخفى بعضا مما رأى أو بخل به , وربما يكون أيضا قد ألقى إليه الشيطان بهذا الخبر. وكل ذلك يحتاج إلى نفي حتى يثق الناس في الخبر. قبل أن يطلب منهم أي تكليف. والقسم السابق يؤكد صدق المقسوم عليه من أحوال القيامة والحساب , ومن الناقل للخبر.
والآن كيف نصدّق الذي يحدثنا بالخبر؟ وما هو دليل صدقه؟ يقول الله سبحانه استكمالا لسورة التكوير:
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ(22)وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ(23)وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(24)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ(25)
لقد أكّدت الآيات على أن من نزل عليه الأمين جبريل هو صاحبهم , الذي عهدوه عاقلا يلجأون إليه في حل ما استعصى عليهم من مشكلات , وما هو بمجنون . والذي يشهد له بالبراءة من الجنون هم أصحابه الذين يعاشرونه ويعاملونه في كل الأحوال , ولو أنه كان مجنونا لعرفوا عنه ذلك .
فبالله عليك لو أن لك صاحبا مجنونا, أما كنت أنت أول العالمين بجنونه وأنت صاحبه , أي تصاحبه في الليل أو في النهار؟
فكانت كلمة (وما صاحبكم بمجنون) حجّة كافية لنفي الجنون عن رسول الله.
وهو قد رأى جبريل بنفسه, بالأفق المبين, وسمعه بأذنيه حيث نقل له الكتاب قولا (إنه لقول رسول كريم) فلا مجال لتهيؤات أو أحلام.
ولم يكتم أو يبخل بما بلغه من خبر السماء , فهو ينقله بأمانة إلى الناس , كما عهده أصحابه يؤدي الأمانات إلى أهلها , فهو صاحبهم الذي عهدوه صادقا أمينا ,
كما أن هذا الكتاب ما هو بقول شيطان رجيم
ثم إن علمتم أنكم لابد محاسبون , وعلمتم بحتمية يوم الحساب , وبأسس الحساب ,وهو الكتاب , ووثقتم في مصدره ونقله بأمانة إليكم , وأن أعمالكم مسجلة عليكم , (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26))
إن هذا السؤال يعبر الله به عن حالتهم النفسية , من الحيرة والخوف من أهوال هذه الأحداث بعد علمهم بها…
ثم ينقذهم الله من الحيرة , فيقول : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(27)) فهو شرف لكل خلق الله , هو أساس تعليمهم وتكليفهم , وتذكيرهم وحسابهم , فيرتاح المستمع إلى أنه وجد وسيلة الإنقاذ.
ثم تبين لهم الآيات , أن هذا الإنقاذ إنما هو اختياري , (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28)) والاستقامة عليه من اختيار الإنسان , فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر , فمن شاء منكم أن يستقيم فليتبعه وليعمل بما فيه, وليعلم أن الله سيساعده بمشيئته …
(وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29))
فليسلم نفسه إلى الله حتى يشاء الله له الهداية. وهو سبحانه يقول: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ(111)الأنعام ,
وهو سبحانه يشاء الهداية لمن يستحقها , ويعمل في سبيل الوصول إليها , بإذن الله , أي بالخطوات التنفيذية التي فرضها الله للوصول إلى الهداية والرشد , (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ(100)) يونس. وهو سبحانه يجعل الرجس على الذين لا يعقلون .
أما الذين يعقلون , فيهديهم ربهم بإيمانهم : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(9)) يونس
ومن لا يستجيب لدعوة الله فيتبع هواه , يضلّه الله , فهو لا يهدي القوم الظالمين: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)) القصص
وملخص هذه الخطوة من سورة التكوير, هو أن الداعية عليه أن يبدأ مع الضالين أو الغافلين أو الكافرين بالتسلسل الآتي حتى يأخذهم من حالهم هذه, إلى الإيمان كخطوة أولى:
● الإعلام بالقيامة حيث تهتز كل الثوابت التي اعتادها الإنسان.
● الإنسان عليه رقابة , وتسجل عليه أعماله.
● الإنسان محاسب على ما يفعل.
● نتيجة هذا الحساب إما جحيم وإما جنّة.
● هناك شواهد في الكون تؤكد حدوث هذه الحوادث , يقسم الله بها على أن ناقل هذا النبأ صادق , ليس بمجنون ولا حالم ولا يخفي الحقائق ولا يقع تحت تأثير الشيطان.
● وهو ينقل عن رسول كريم, ذي قوة , مطاع مكين أمين من عند ذي العرش.
● هذا النبأ هو الذكر , فيه شرف للعالمين , وليس مختصا بعصبية معينة ولا جنسية واحدة .
● التمتع بالفضل, والانتساب لهذا الذكر مسألة اختيارية , لمن شاء منكم أن يستقيم
● هذه المشيئة مقيدة بمشيئة رب العالمين – وهو مالك يوم الدين, ومرسل هذا النبأ وهذا الرسول.
● وكما قال الله في سورة المدّثر: وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ(56) فاتق الله واستغفره , يشأ لك الهداية والتذكرة والاستقامة
وهذه الثوابت الجديدة على من لم يؤمن من قبل , ولم يعلم عن الإيمان شيئا, هذه الثوابت يؤكدها القرآن ويشرّبها في قلوب العباد الباحثين عن الهداية والحق والإيمان.
وتنزل هداية الله خطوة خطوة , حتى ترسخ في القلوب , وتهضمها العقول , وتتفهمها الأذهان. ثم تبرهن على أنها استقرت في القلوب.