.. ولماذا قال يوسف “رأيت” و “رأيتهم” في آية واحدة؟
هل كان يمكن أن يقول: إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر لي ساجدين؟ دون أن يقول رأيتهم؟
إن “رأيت” الأولي تعبر عن الرؤيا , وهي ما يرى النائم
و”رأيتهم” تعبر عن أن يوسف رآهم له ساجدين
أي أن يوسف رأى في المنام أنه رآهم له ساجدين
إن ناسا من جنوب شرق آسيا يسجدون لبوذا , ولكن بوذا لا يراهم له ساجدين , حيث أنه قد مات . ويمكن أن يسجد بعض الناس لأحد , دون أن يراهم , كما يسجد البعض للأصنام ولجثة ميت.
إذن يمكننا أن نقول ما فهمناه من الآية كالآتي:
قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت في المنام أني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر لي ساجدين.
إذن موضوع الرؤيا أنه رآهم ساجدين له.
كان يوسف غلاما,كما سيظهر في القصة بعد ذلك , وفى هذه المرحلة من العمر , وما يسبقها , تتأسس العلاقة بين الأبوين والأبناء , ويؤدى فيها الأبوان أهم دور لهما في التربية , ويتعود الأبناء على الأسلوب الذي سيستمرون عليه طوال حياتهم في العلاقات مع الأبوين.
وهنا يتضح أن يوسف الغلام , يطمئن لأبيه ويحكى له عن رؤيا رآها ,
إذن فالأب يتيح لابنه الفرصة كي يجلس معه ويحكى ما يريد , , فيمثل الأب الجهة التي يلجأ إليها الابن في ما يحيّره , ولا يوجد انفصال بينهما.
لما سمع يعقوب رؤيا يوسف ,علم يقينا أن يوسف سيكون له شأن عظيم يمنحه له الله ,
ولما علمه الله من حقيقة أن الشيطان للإنسان عدو مبين , وأن هذا التميز الذي سيكون فيه يوسف , سوف يكون مدخلا لنزغ الشيطان بينه وبين إخوته, لهذا حذر يعقوب يوسف بادئ ذي بدء , من أن يقصص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيدا.”قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا:
و أوّل يعقوب الأحد عشر كوكبا بإخوة يوسف , والشمس والقمر بأبيه وأمه , كما سيظهر في نهاية القصة : وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا(يوسف 100).
وكون جميع أفراد الأسرة يسجدون في الرؤيا لهذا الغلام , فإن هذا يدل على ما ينتظره من رفعة شأن من الله , ووضع مقدس يهبه له الله سبحانه , ويدل على أن جميع أفراد الأسرة سوف يتطامنون ليوسف ويخضعون له وينقادون ويطيعون , بعد أن يديموا النظر في شأنه , ويصيبهم الذل , بعد أن يصبحوا في حاجة ماسة إليه بعد ضياع عزهم , فيخضعون له , وهذه كلها من معاني السجود الستة في اللغة (إدامة النظر و التطامن والخضوع والطاعة والانقياد والذل) , والسجود لغة ليس بالضرورة عبادة , ولكنه يدل على تسليم واستسلام وقناعة واطمئنان وخضوع وانقياد. يقول الله تعالى ” فاسجدوا لله واعبدوا” , وهذا ينطبق على أمر الله للملائكة بالسجود لآدم , ولسجود يعقوب وزوجه وإخوة يوسف له ” وخروا له سجدا”
.. كانت الرؤيا أن يوسف رآهم له ساجدين , وهذا ما جعل يعقوب يوقن أن يوسف لن يموت كما لن يموت يعقوب ولا أبناؤه قبل أن يرى إخوته وأباه وأمه له ساجدين.
ومن هنا أصر يعقوب على أنهم سيلتقون مهما طال الزمن , وأن أحدا منهم لن يموت قبل ذلك, ولم يفقد الأمل أبدا , وتمسك برأيه هذا بعد أن غاب عنه وادعى إخوته أن الذئب قد أكله , كما أصر على ذلك بعد مرور سنين عددا , حتى بعد أن أخذوا أخاهم إلى مصر واحتُجز فيها. وقال لهم: يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
وحتى حين قال إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون.
إذن كان يعقوب موقنا بتأويل الرؤيا التي رآها يوسف. فقال له:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(6)
وكذلك يجتبيك ربك
الاجتباء هو من “جبا” ومن الجمع في مكان واحد , ومنه الجابية التي يجبى فيها الماء للإبل. وجباية الضرائب والأموال.
والاجتباء اختيار معالي الأمور للمجتبى, وأصله من جبيت الشيء أي حصلته, ومنه جبيت الماء في الحوض .
اجتبى الله يونس بعد أن كان في بطن الحوت , لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم ,فاجتباه ربه فجعله من الصالحين.
وكذلك اجتبي إبراهيم وموسى وعيسى ونوحا. وهم جميعا قد جمعهم الله بعد شتات وبعد فرقة وبعد احتمالات ضياع.
الاجتباء أولا , ثم ” ويعلمك من تأويل الأحاديث , ثم ” ويتم نعمته عليك” ثم ” وعلى آل يعقوب”
شعر يعقوب بأن ابنه يوسف هو النبي القادم من ذرية إبراهيم ,ومن أحفاد إسحاق , فجعل يعامله معاملة خاصة , فيعطيه اهتماما أكبر من إخوته , ويؤهله لما بشّره الله به.
فما هي الكواكب التي رآها يوسف , وما مدلولاتها؟
.. في تفسيرابن كثير:
وقد جاء في حديث تسمية هذه الأحد عشر كوكبا: أتى النبي صلي الله عليه وسلم رجل من يهود يقال له يستانة اليهودي فقال له يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها ؟ قال فسكت النبي صلي الله عليه وسلم ساعة فلم يجبه بشيء ونزل عليه جبريل عليه السلام فاخبره بأسمائها قال نبعث رسول الله صلي الله عليه وسلم إليه فقال ” هل أنت مؤمن إذا أخبرتك بأسمائها ؟ “قال نعم قال “جريان والطارق والديال وذو الكنفات وقابس ووثاب وعموذان والفيلق والمصبح والضروح وذو الفرع والضياء والنور” فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها.
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ” لما رآها يوسف قصها على أبيه يعقوب فقال له أبوه هذا أمر متشتت يجمعه الله من بعد – قال – والشمس أبوه والقمر أمه ” تفرد به الحكم
وقد بحثت عن مدلولات هذه الأسماء في معاجم اللغة , غير أنني لم أجد كل ما بحثت عنه , وهذه بعض النتائج:
- جريان :الماء وغيره
- الطارق :النجم الذي يقال له كوكب الصبح (النجم الثاقب)
- الديال :
- ذو الكنفات :
- قابس :صفة من صفات النار
- وثاب :الظفر
- عموذان :
- الفيلق : ف ل ق =فرجة , وبينونة في الشيء وعلى تعظيم شيء, والفيلق العجب
- المصبح : من الصباح
- الضروح :ض ر ح رمي الشيء- فرس ضروح:النضوح برجله, قوس ضروح- شديدة الدفع للسهم
- ذو الفرع :يفيد الارتفاع والعلوّ والنماء
- الضياء :الشمس
- النور :القمر
وإن صحّ ما ورد عن رسول الله , بأن الشمس إشارة إلى أبيه ,والقمر إشارة إلى أمه , فيكون بذلك الترتيب في أسماء الكواكب ترتيبا تصاعديا , بمعنى أن أباه هو آخر الترتيب , وأمه قبله , ويكون كبيرهم هو ذو الفرع , وأخوه الشقيق هو جريان.
وتكون الكواكب والشمس والقمر, ذات مدلولين , أحدهما كواكب فعلا , محددة , وربما يمكن تحديدها من خلال الحديث المذكور , ومن خلال دراسة مجموعات الكواكب لدى المصريين القدماء
وأتصور أن بحثا تاريخيا في علوم المصريين القدماء , حيث كان علم التنجيم وعلاقة مواضع النجوم والكواكب , وتأثيرها على الزراعة والفيضان والطعام , بحثا مثل هذا لينبغي أن يتم
وفي الواقع, حين قال الله سبحانه: وما أدراك ما الطارق؟ النجم الثاقب, فإنه لا يعتد بقول قائل إن الطارق كوكب, فقد قال الله عنه إنه النجم الثاقب, وهذه بالنسبة لي إشكالية في الحديث المذكور, والله أعلم