إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) (سورة الطور)
إن اسم الله البرّ الرحيم, اسم منفرد في كتاب الله, لم يذكر إلا في سورة الطور, وهو حكاية وحده….
لقد كان المتقون يدعون الله من قبل باسمه الأعظم الذي ينقذهم وقت حلول العذاب, إنه هو البر الرحيم….
يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: برّ الباء والراء في المضاعف أربعة أصول: الصدق، وحكايةُ صَوتٍ، وخِلافُ البَحْرِ، ونبتٌ.
ومن علم الحروف الفواتح الذي هدانا الله إليه, الباء حرف إبداء بعد إخفاء, والراء حرف تكرير, وبرّ, أي شيء بدا بعد خفاء, وتكرر ثم تكرر بالراء المشددة. وهذا يجمع كل الأصول الأربعة التي ذكرها ابن فارس. في تفصيل بنهاية البحث لمن أراد الاستزادة[i]
والبر الذي هو بخلاف البحر,
ولفظة بحر من علم الحروف تبدأ بحرف الباء الذي هو إبداء بعد إخفاء, فيبدو البحر بعد طول سير في الأرض, حتى إن بدا, لا ترى داخله أو نهايته لا في عمقه, ولا في عرضه إلى الشاطئ الآخر, يمثل ذلك حرف الحاء الساكن الخارج من أقصى الحلق, ثم يستمر عمقه أو عرضه يدل عليه حرف الراء الذي يتصف بالتكرير, فيكون بحْرا, أما حين يبدو شاطئه بعد طول خفاء فإنه يكون بَرّا أي بدا بعد إخفاء واستمر بتكرير مضاعف, فيكون برّا.
ورغم أن مساحات البحار والمحيطات أضعاف مساحات الأرض, إلا أن الإنسان يعيش على اليابسة, ويركب البحر مضطرا للصيد أو للسفر, فالأصل عنده الأرض اليابسة.
فإذا كان الإنسان في البحر, فإنه قد يتعرض للأمواج العالية ولاضطراب البحر, فيتمنى أن ينجو إلى البرّ, ظنا منه أنه آمن له.
يقول الله سبحانه: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)[1]
ويقول: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) (يونس)
هنا البر إنقاذ من موج البحر
ويقول سبحانه: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) (الإسراء)
هنا في الإسراء, يبين الله أن الناس في البحر يدعون الله إذا مسهم الضر في البحر, فلا يجدون إلا إياه سبحانه ينجيهم إلى البر, فإذا أنجاهم إليه أعرضوا, وهو لا يأمنون أن يخسف بهم جانب البر, أو يرسل عليهم حاصبا ثم لا يجدوا لهم وكيلا, كما لا يأمنون أن يعيدهم فيه تارة أخرى فيرسل عليهم قاصفا من الريح فيغرقهم بما كفروا, ثم لا يجدوا لهم على الله به تبيعا, وبنو آدم يحتاجون إلى أن يكرمهم الله ويحملهم في البر والبحر, سبحانه, الله كرّمنا يارب, واحملنا في البر والبحر, فأنت البرّ الرحيم.
إذن فالبرّ ليس دائما آمنا, فقد يكون هلاكا, ولكن الناس يظنون ذلك, فما هي شروط البرّ لكي يكون آمنا؟
إن الشرط الأساسي للبرّ لكي يكون آمنا, أن تكون به رحمة ولا يكون هلاكا, ولا يكون ذلك إلا من الله البرّ الرحيم,
والبرّ الرحيم هو اسم الله الأعظم للأمن من كوارث البر, ومن كوارث تسونامي وأمثالها, نسأل الله السلامة.
الله البر الرحيم, الذي تبدو رحمته في الوقت الذي يرجوها الإنسان حين يجد الدنيا وقد هاجمته وعاجلته وأطبقت عليه, فلا يجد أحدا يبدو له ويستمر في الإبداء مصاحبا للإنسان برحمته, إلا الله وحده لا شريك له, فهو يبر عباده في الوقت الذي لا يبرهم أحد ولا شيء, حين يطبق العذاب من فوقهم, إن الله سبحانه هو البر الرحيم
إن الأسماء الحسنى المذكورة مجتمعة لابد وأن لها ارتباط ببعضها, فاسم الله البر لابد وأن يقترن بالرحيم, حين يكون الحديث عن حاجة الإنسان لبر الله له بوعده في الخير, وإنما مثلا من أسماء الله وصفاته أنه صادق الوعد, ولكن هذا الوعد قد يكون لأهل الجنة أو يكون لأهل النار (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا, قالوا نعم) فإذا كان الوعد بعد شعور الإنسان بالحاجة الماسة التي لو لم يدركه الله برحمته هلك, فإنه يدعو الله باسمه الأعظم حينئذ (يا بر يا رحيم)
إن المتقين في سورة الطور, كانوا من قبل يدعون الله في الدنيا, وهم مشفقون من عذابه, غير غافلين عنه, مدركون أن أي أمن دون تأمين الله ووقايته, ليس أمنا, ولكن الأمن كل الأمن هو من البرّ الرحيم سبحانه وتعالى.
[1] الأنعام
[i] البر
برّ الباء والراء في المضاعف أربعة أصول: الصدق، وحكايةُ صَوتٍ، وخِلافُ البَحْرِ، ونبتٌ. (ابن فارس)
الباء إبداء بعد إخفاء, والراء تكرير, وبرّ, أي شيء بدا بعد خفاء, وتكرر ثم تكرر.
وهذا يجمع كل الأصول الأربعة يا ابن فارس رحمك الله وجزاك عنّي خيرا.
فالصدق الذي تعنيه, هو مثل صدق الوعد, أي كأن رجلا وعد بشيء, وكان هذا الشيء وهذا الوعد مخفيّا, فجاء به الرجل صدقا لوعده, فكأنه أبداه بعد إخفاء, وأداه, أي لم يبده ثم يخفه مرة أخرى, ولكنه أبداه وأدّاه, فهو رجلٌ بَرٌّ, وأبرّ يمينه أي أمضاها على الصدق. وحجة مبرورة, أي يظهرها الله عليه أثرا في خلقه وتصرفاته, فلا تكون حجة بإجراءاتها ووقتها وحسب, ولكنها تظل مستمرة الظهور عليه باستمرار بعد عودته منها, وبذلك يبشر رسول الله صلّى الله عليه وسلم, بأن الحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة.
والجواد المبرّ عكس المقرف: (قال ابنُ الأعرابيّ: سألتُ أعرابيّاً: هل تعرفُ الجوادَ المُبِرّ من البطىء المقْرِف؟ قال: نعم، قلت: صفهُما لِي. قال: «أمّا الجواد فهو الذي لُهِز لَهْزَ العَيْر، وأُنِّف تَأنيفَ السَّير، الذي إذا عدَا اسْلَهبَّ، وإذا انتصبَ اتلأَبّ؛ وأما البطىء المقْرِف فالمدلوك الحجَبة، الضَّخمُ الأرنبة، الغليظ الرَّقبَة، الكثير الجَلَبَة، الذي إذا أَمسَكْته قال أرْسِلْني، وإذا إرسَلْته قال أمسِكْني».) فالمقرف هو الذي تنتظر منه الشيء فلا يبديه ولكنه يعكس توقعك منه. ومن الحروف يظهر معناه, ولكن فلنختصر.
ومنه بِرّ الوالدين, فهو يبدو لهم كلما اختفى, ويمضي في متابعتهم باستمرار, من الإبداء بعد الإخفاء ثم الاستمرار ثم الاستمرار بالراء المشددة, والكسرة على باء (بِرّ) تدل على النزول إليهما ولو كانت باء مفتوحة لدلت على خروجه من عندهم.
وأمّا حكايةُ الصَّوتِ فالعرب تقول: «لا يَعْرِفُ هِرّاً من بِرّ»، فالهِرّ دُعاء الغنم، وَالبِرّ الصَّوتُ بها إذا سِيقَتْ، (و) يقال: لا يعرف مَن يكرهُه ممّن يَبرّه. والبَربرة: كثرة الكلامِ والجَلَبَةُ باللِّسان،(ابن فارس) وهو تكرير لصوت الدعاء بالغنم إذا سيقت, وهو يبدو ويمضي في تكرير
والبربرة, إبداء وتكرير, ثم أخفاء فإبداء فتكرير
وربما تكون تسمية البربر لتكرير ظهورهم وخفائهم ثم ظهورهم
والأصل الثالث هو الذي نحن بصدده الآن, وهو البر بخلاف البحر, فالبحر يبدو وكلما دخلت فيه فأنت إلى داخله بحرف الحاء الساكن, ثم باستمرار تكرير الراء, فيكون بحْرا, أما حين يبدو شاطئه بعد طول خفاء فإنه يكون بَرّا أي بدا بعد إخفاء واستمر بتكرير مضاعف, فيكون برّا.
وأما النبت فمنه البرّة, وهي الحنطة, وهو نبات قصير متكرر كثيف التكرير, وهو بالباء المضمومة فيكون لداخل الأرض… متكاثفا.