جريدة الأهرام – الكتاب
42664 السنة 127-العدد 2003 سبتمبر 28 2 من شعبان 1424 هـ الأحد
ما رأيكم في هذا الرأي؟
بقلم: رجاء النقاش
هذا رأي جريء جدا لأحد علماء الدين المسلمين وهو الأستاذ عطية الشيخ. وأنا لا أعرف شيئا عن هذا العالم الفاضل سوي ما كان يصف به نفسه عند توقيعه لمقالاته في مجلة الرسالة القديمة من أنه مفتش في وزارة المعارف. وقد قرأت كل ما كتبه الأستاذ عطية الشيخ في مجلة الرسالة. والرسالة هي موسوعة كبري للثقافة العربية في مختلف جوانبها في النصف الأول من القرن العشرين. وقد كان الأستاذ عطية الشيخ من نجوم هذه المجلة اللامعين في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي, وظل يساهم في تحرير الرسالة حتي توقفت عن الصدور في23 فبراير سنة1953, وكان العدد الأخير منها هو العدد رقم1025 وقد انتظمت هذه المجلة الرائدة في الصدور لمدة عشرين سنة متواصلة, حيث صدر عددها الأول في15 يناير سنة1933
الأستاذ عطية الشيخ ـ من كتاباته ـ كان مهتما بتاريخ مصر الإسلامية, كما كان صاحب اجتهاد في القضايا الدينية المختلفة. والرأي الذي استوقفني لهذا الكاتب المفكر ما كان لي أن أتعرض له وأعيد طرحه الآن, لولا أنه رأي منشور في مجلة معروفة بدفاعها المستمر عن الإسلام الصحيح.
وحرصها الدائم علي أن تكون منبرا لكبار المفكرين الإسلاميين في فترة صدورها, أي في النصف الأول من القرن العشرين. يضاف إلي ذلك أن صاحب المجلة ورئيس تحريرها أحمد حسن الزيات هو مفكر كبير وصاحب مكانة عالية في الثقافة العربية والإسلامية, ولم يطعن عليه أحد في دينه, بل كان علي العكس مرجعا من المراجع التي يعود إليها الباحثون عندما يفكرون في تاريخ الإسلام أو حقيقة العقيدة الدينية. ومن هنا كانت موافقة الزيات علي نشر آراء عطية الشيخ دليلا علي أن الزيات لم يجد في هذه الآراء أي مخالفة أو خروج علي التفكير الديني السليم. بالإضافة إلي ذلك كله فإن الرأي الذي نادي به عطية الشيخ, وهو رأي بالغ الجرأة, قد تم نشره في وقته ولم يعلق عليه أحد من علماء الدين بالرفض والاستنكار, مما يشير إلي أن هذا الرأي كان مقبولا في عصره من الناحية الدينية, ولم يكن هناك ـ علي كاتبه ـ أي حرج في اعلانه والتصريح به. ومن هنا فإن هذا الرأي يصح لنا عرضه من جديد, في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلي مثل هذه الآراء. فماذا قال هذا العالم الجليل؟
في دراسة له عنوانها العلوم الدينية بين القرآن وعلماء الإسلام مجلة الرسالة ـ العدد809 ـ3 يناير1949 يقول في نهاية الدراسة: علوم الإسلام هي الصناعة والزراعة والطب والهندسة وما يتصل بها, أما علوم الكلام والفقه والأصول وما جاراها, فليست من الإسلام في شيء.
وقد كان عطية الشيخ يدرك خطورة ما ينادي به, ولذلك فقد قال في نهاية دراسته:.. وقد بلغت, وما أنا إلا حريص علي نهوض المسلمين, والسلام علي من اتبع الهدي
ولعل الأستاذ عطية الشيخ كان يدرك أن رأيه الذي نادي به سوف يكون صدمة للكثيرين, وأن الموافقة عليه لن تكون سهلة يسيرة, فقال تلك العبارة السابقة مشيرا فيها إلي أنه أدي واجبه أمام ربه وضميره وأهله.
علي أن ما انتهي إليه هذا الباحث الديني الفاضل كان له مقدمات اعتمد عليها واهتم بشرحها, ومن ذلك قوله: إن القرآن الكريم وهو الأصل المتفق عليه للإسلام, والمصدر القطعي الثبوت والدلالة, لم يتعرض للبحوث التي سموها علوم الإسلام إلا بصورة محدودة, حتي أن الصلاة وهي عماد الدين لم تتبين فيه أوقاتها وطريقتها, لا استهانة بها, ولكن لأن أهم أركانها صفاء القلوب, وخشية المعبود, وأما أقوالها وأفعالها فهي يسيرة التناول علي الذكي والغبي, وكذلك الزكاة والصيام والحج, وهي قواعد الإسلام, يشير إليها القرآن اشارات خفيفة تاركا كل تفصيل وتوضيح للروح لا للعقل, وللذمة والضمير, لا للحدود والقياسات. أما البحث في النفوس وخلقتها, والأجنة ونموها, والأمم وتاريخها, والسماء وما بناها, والكون وما يصير إليه, والرزق وما يحصل به, والأمم وكيف تحيا ولماذا تموت, وحسبان الشمس والقمر, وما في الأرض والسماء من قوي وعبر, فهي كل القرآن, وهي موضوع العلم الحديث, ومن يتبحرون فيها هم علماء الدين الذين يخشون الله ويخدمون الأمة ويرفعون شأن الإسلام
ثم يقول المفكر الديني عطية الشيخ بعد ذلك:
إن الأمة أحوج إلي فهم علوم الدنيا من كيمياء وطبيعة ورياضة وطب وهندسة وغيرها من العلوم المشابهة, لأنها علوم تعين علي الحياة وكسب الرزق والقوة وفهم قدرة الله, وهو ما أمر به الدين, بل هذه العلوم مأمور بالبحث فيها بنص القرآن, وما من علم حديث إلا وله آيات تدل عليه, وما أكثر الآيات التي تحض وتأمر بالتعمق في العلوم الكونية. أما ما يسمونه بالعلوم الدينية, بحسب الوضع الذي صارت إليه, فليس لها سلطان في كتاب الله العزيز, أو ماضي السلف الصالح, ولم يفد منها الإسلام إلا الضعف والتفرق والضياع, فيا ليت الذين أهملوا مؤلفات ابن الهيثم, وقانون ابن سينا, ومسائل جبر الخوارزمي.. يا ليت الذين ضيعوا هذا المجد وحاربوه, وجروا وراء الفرق بين المعجزة والكرامة, والإجماع والقياس, والحيض والاستحاضة.. يا ليت هؤلاء يعلمون أن العلوم الأولي, أي الكيمياء والطبيعة والهندسة وغيرها, أقرب إلي الله من الثانية التي يسمونها بالعلوم الدينية. والعلوم الأولي هي أدخل في الإسلام من العلوم الثانية. ولو علموا ذلك لما أصبح المسلمون عبيدا للأوروبيين الذين وقعوا علي ذخائر العرب فانفسح أفقهم العقلي, ووصلوا إلي هذه المخترعات التي أثاروا بها الأرض وعمروها, وحددوا الكواكب وفحصوها, وحللوا العناصر وركبوها, فدانت لهم الأمم وخضعت لهم الشعوب.
تلك خلاصة الرأي الجريء الذي دعا إليه المفكر الديني عطية الشيخ منذ أكثر من خمسين سنة. وأظن أننا بأشد الحاجة إلي التفكير العميق في هذا الرأي الآن وأنا لا أملك الحق في الحكم علي هذا الرأي من الناحية الدينية الخالصة, فهذا أمر متروك لعلماء الدين المتخصصين, ولست منهم, ولكنني أجد في نفسي ميلا شديدا لتأييد هذا الرأي كمسلم عادي يدرك خطورة الحفرة الحضارية التي وقع فيها المسلمون فتأخروا وتخلفوا وأصبحوا يقفون في آخر الصفوف بعد أن كانوا في المقدمة. والعقل والمنطق والتفكير المستقيم يميل إلي الرأي الذي ينادي به العالم الديني عطية الشيخ, ذلك لأن الإسلام في مصدره الأصلي يخلو من أي تعقيدات من تلك التي نسمع عنها كثيرا في هذه الأيام, وخاصة في حياتنا اليومية العادية, فقد أصبحت الفتوي في الدين مهنة من لا مهنة له, وكثر بيننا الفقهاء الذين يراجعون كل تصرفاتنا, من طريقتنا في السلام إلي طريقتنا في الكلام إلي طريقتنا في النظر. وقد وصلت هذه الأمور إلي حد مثير للدهشة, لأنه يؤدي إلي وقف الحال و قلة الأعمال. وأنا أعرف رجلا منع زوجته الطالبة بالسنة النهائية في كلية الهندسة والمتفوقة في كليتها من إكمال دراستها فخرجت من الجامعة قبل أن تحصل علي شهادتها بأمر زوجها الذي يري أن اختلاطها بالطلاب حرام, وكأن هذه الزوجة الطالبة كانت تعيش بين وحوش مفترسة وليس بين اخوة وزملاء. وعندما حاولت أن أناقش هذا الزوج وأن أقول له إن حرمان زوجته المتفوقة في الهندسة هو خسارة له ولأولاده في أسرة المستقبل لم يتقبل كلامي, بل انه فاجأني بتحريمات أخري مثل قوله إن الذين يلبسون البدلة يخالفون الدين, لأن الشرعي عنده هو الجلباب, وكان هذا الكلام بالنسبة لي عجيبا, لأنني لم أسمع من قبل أن هناك فقها خاصا بالترزية! وهذا الكلام وأمثاله يشبه ما كانت تفرضه حكومة طالبان علي المسلمين من غرائب الأمور, ومنه ضرورة اطلاق اللحية, وما كان مفروضا علي جميع النساء بحرمانهن من التعليم والعمل, رغم ما أصبح معروفا من أن أي مجتمع هو بحاجة إلي عمل النساء علي الأقل في مهنة التدريس ومهنة الطب والتمريض. والزوج الذي أشير إليه قد منع دخول أجهزة التليفزيون والراديو والفيديو إلي منزله, رغم أنه لا يشكو من ضائقة مالية, فهو من الناجحين في مهنته التجارية الحرة, ولا أدري كيف يقوم مثل هذا الرجل بتربية أولاده الثلاثة, ولا أستطيع أن أتصور أبدا أن يكون هؤلاء الأطفال خصوما للعصر الذي يعيشون فيه, ولا أعرف كيف يمكنهم أن يواصلوا حياتهم عندما يكبرون وهم خاضعون لمثل هذه التربية الغريبة. والأعجب من ذلك كله أن يقال إن هذا كله يتم باسم الدين.
إن التوسع في هذا النوع من التفكير, ونسبته إلي الدين لابد أن يبعدنا عما يدعونا إليه الدين الصحيح من العمل والاجتهاد في تسهيل أمور الحياة واكتساب وسائل السيطرة علي الواقع والتقدم في ميدان العلوم المؤثرة علي المجتمع والمساعدة له علي حل مشاكله. وقد كان الكثيرون من كبار المفكرين العرب المعاصرين, من سلامة موسي إلي أحمد بهاء الدين, يحذروننا تحذيرا شديدا من الوضع الذي جعل من العرب والمسلمين لا يستطيعون صناعة الموتور, بينما الموتور هو أصل الصناعة وبدونه لا نكون سوي قوم مستوردين لما يصنعه الآخرون. وقد تدهور بنا الحال حتي أصبحنا متخلفين فيما كنا فيه أساتذة, أي في الزراعة, وأصبح العالم العربي كله يستورد القمح, أي لقمة الخبز, بينما يستطيع بلد واحد مثل السودان ـ كما يقول الخبراء ـ أن يغرق العالم العربي بما يكفيه ويغنيه من القمح حتي نتخلص من مد أيدينا إلي الآخرين طالبين لقمتنا ولقمة أبنائنا. إننا مازلنا مستهلكين مستوردين ولسنا منتجين لمطالبنا الأساسية من الكمبيوتر إلي لقمة الخبز.
وبعد.. فإن رأي الأستاذ عطية الشيخ أن علوم الإسلام هي الطب والهندسة والكيمياء والرياضيات وغيرها.. هو رأي جريء.. فما رأيكم.. دام فضلكم.. في هذا الرأي؟!
جريدة الأهرام – الكتاب
42678 السنة 127-العدد 2003 اكتوبر 12 16 من شعبان 1424 هـ الأحد
عطية الشيخ: وفاء وتحية
بقلم: رجاء النقاش
الأستاذ عطية الشيخ هو المفكر الإسلامي الكبير الذي طرح منذ أكثر من خمسين سنة رأيا بالغ الجرأة والشجاعة قال فيه: إن علوم الإسلام هي الطبيعة والكيمياء والطب والهندسة والزراعة وغيرها من العلوم المشابهة, وإن مثل هذه العلوم هي التي يدعو إليها القرآن الكريم وهي التي تنفع المسلمين وتساعدهم علي أن يقفوا علي أقدامهم من جديد بعد أن أصبحوا في مؤخرة الصفوف. وصاحب هذا الرأي يقول ما لا أستطيع أن أؤيده أو أنفيه من أن ما يسمي بالعلوم الدينية من فقه وأصول وغير ذلك لا محل لها من الإسلام. وهذا الجانب بالتحديد من آراء المفكر الكبير هو كلام خطير جدا لا يصح أن يحسم أمر صوابه أو خطئه إلا علماء متخصصون في الدين, وأنا لست منهم, وإن كنت أدعوهم إلي أن يقولوا رأيهم وألا يقفوا صامتين.
ولقد عرضت في مقال سابق بعض تفاصيل هذا الرأي الجريء ودعوت إلي مناقشته لما في ذلك من فائدة كبري تعود علي المسلمين وتدفعهم إلي التفكير بطريقة جديدة ومنهج مختلف, وقلت إنني أميل إلي هذا الرأي بعقلي, ولكنني لا أملك من العلم الديني ما يسمح لي بأن أقول إنه الرأي الصائب والوحيد. وقد ذكرت فيما كتبت أنني لا أعرف شيئا عن صاحب هذا الرأي الجريء الأستاذ عطية الشيخ سوي ما قرأته له من دراسات ومقالات في الدين والتاريخ.
وكلها تدل علي أنه كان صاحب عقل شجاع وعلم غزير وضمير حي ولهفة بغير حدود علي نهضة المسلمين وتخليصهم من الغرق في بحر التفاصيل الفرعية ودعوتهم إلي الاهتمام بالقضايا الكبري الرئيسية حتي يتخلصوا من مشكلاتهم ويدخلوا من جديد إلي الميدان الذي خرجوا منه مهزومين, بعد أن كانوا فيه أساتذة معلمين, وهو ميدان الصناعة الحضارية.
وقد تلقيت عدة تعليقات كريمة حول الأستاذ عطية الشيخ ورأيه الجريء, وكلها ـ في حدود ما وصلني ـ تؤيد الرأي وصاحبه, وتري في موقفه ودعوته صوابا وشجاعة وحكمة ونظرة جوهرية إلي أمور الدين ووعيا صحيحا بما يجب علي المسلمين أن يفعلوه الآن قبل أن يفوتهم القطار, الذي يبدو للأسف الشديد أنه قد فاتهم بالفعل منذ زمان طويل.
وأول رسالة تلقيتها هي رسالة فيها وفاء وتحية للأستاذ عطية الشيخ, وصاحب الرسالة هو الأستاذ الكبير الدكتور محمود جامع, وهو طبيب شهير وسياسي له تاريخه في الجهاد من أجل ما يؤمن به, وهو بعد ذلك كله مفكر له آراؤه واجتهاداته التي قد نختلف معها اختلافا يسيرا في بعض الأحيان واختلافا كبيرا في أحيان أخري, ولكننا لا نملك في كل الأحوال إلا أن نقول عن الدكتور محمود جامع إنه في حياته وفكره رجل مخلص صادق أمين, وهو لا شك من شرفاء الرجال.
يقول الدكتور محمود جامع في رسالته:
أسعدني, وأثلج صدري, وروي روحي وفكري مقالكم الموضوعي الهادف عن الداعية الإسلامي المرحوم الأستاذ عطية الشيخ بشأن جوهر الإسلام وتوجهاته وعقائده المتمثلة في آيات القرآن الكريم, وعن المطلوب من علماء المسلمين ودعاتهم, خاصة في هذا الزمان وهذه الظروف التي يتعرض فيها الإسلام للحرب, والهجوم عليه من بعض المثقفين والسياسيين في العالم الغربي, فالإسلام في حقيقته دين حضارة وعلم في الفلك والهندسة والطب والكيمياء والزراعة وغيرها من الاهتمامات التي تثري البشرية وتدخل في صميم الحياة العصرية ولا تحصر اهتماماتها في مجرد إطار ضيق من أحكام شرعية للعبادات.
وأحب أن أذكر هنا أن الأستاذ عطية الشيخ هو من مواليد16 سبتمبر سنة1908, وقد تخرج في كلية دار العلوم سنة1932 واشترك وهو طالب في تأسيس جمعية الشبان المسلمين مع الأستاذين عبدالعزيز عتيق وعلي عبدالعظيم, وكانا من زملائه في دار العلوم. وبعد تخرجه تم تعيينه مدرسا بمدرسة الأقباط الثانوية في طنطا, ثم أصبح مفتشا بالتعليم سنة1936, وتنقل بين قنا وأسوان والقاهرة والمنصورة حتي استقر في طنطا سنة1950. وكان الأستاذ عطية الشيخ صديقا للشهيد حسن البنا, وكان يعقد لنا في طنطا دروسا تثقيفية ليلية عن الإسلام ورسالته ونحن شباب. وأذكر أنه كان من بين من يحضرون معنا هذه الدروس المرحوم الأديب الدكتور نجيب الكيلاني والصحفي الأستاذ عبدالعزيز هلالي بالأخبار والدكتور يوسف القرضاوي والكاتب المعروف الأستاذ جمال بدوي.
وكان الأستاذ عطية الشيخ ـ رحمه الله ـ عالما متفهما متفتحا, وقد فتح أمامنا آفاق العلم والمعرفة والتذوق المتحضر للإسلام ورسالته, وقد توفي الأستاذ عطية سنة1975 بمستشفي المبرة في طنطا, وكنت مديرا لها في ذلك الوقت, وكان الأستاذ عطية يكتب مقالاته في الرسالة والجهاد والمصري والأهرام. رحمه الله وأجزل له العطاء.
تلك هي رسالة الأستاذ الدكتور محمود جامع وله عليها كل الشكر والتقدير.
وفي رسالة طويلة ثانية من الأستاذ الدكتور حسني أحمد علي رئيس قسم علوم الحاسب بالمعهد التكنولوجي العالي بمدينة العاشر من رمضان, يقول الدكتور صاحب الرسالة: طالعت بسرور بالغ مقالكم المنشور في الأهرام بتاريخ28 سبتمبر الماضي, وقد أسعدني ما طرحتموه من رأي منسوب إلي الأستاذ عطية الشيخ الذي يقول فيه إن علوم الإسلام هي الكيمياء والطب والرياضيات والهندسة والزراعة وما يشبهها من العلوم الأخري. والحقيقة أنني توصلت إلي الرأي نفسه وذلك بالاستناد إلي النص القطعي الوحيد الذي بين أيدينا وهو القرآن الكريم,
وتلك الآراء منشورة في كتاب لي هو الأسماء الحسني في القرآن الكريم.. قراءة جديدة الذي صدر منذ نحو عام, وفيه بيان بأن مجالات الفقه الحقيقي هي العلوم الطبيعية والإنسانية وما تتضمنه من قوانين وسنن, وأن الإلمام بتلك العلوم والقوانين والسنن والإفادة منها هي من المقاصد العظمي في الدين. والفقه, طبقا للاصطلاح القرآني, هو الإدراك الشامل المضيء بنور الإيمان للقوانين والسنن الإلهية والكونية وما تقتضيه من علوم طبيعية ومادية وإنسانية واجتماعية وتاريخية وتطبيقية,
فالفقه هو الإدراك الشامل والبصيرة النافذة, ولذلك فإن الفقه إنما يتعلق بالجوهري من الأمور, وعن طريقه يدرك الإنسان أن أي شيء يراه هو آية من آيات الله تعالي, والفقه هو الذي يساعد علي إدراك أن السنن الكونية إنما تستند علي السنن الإلهية. وقد حرصت في دراستي عن أسماء الله الحسني أن أبين أن العلوم الطبيعية والإنسانية هي من مقاصد الدين العظمي, وأن العلوم بمعناها الحديث هي مجالات الفقه وميادينه, فهي علوم دينية تماما, أما العلوم المتعلقة بالعبادات فقد تم ضبطها وحسمها ولا مجال فيها لاجتهاد جديد أو ابتداع لشيء غير موجود, ومن هنا فإن علي الناس أن يدركوا أن علوم الحياة والعلوم الطبيعية وعلوم الفلك وغيرها هي علوم دينية لأنها تتصل بالفقه الحقيقي ومواضيعه ومجالاته المختلفة, وعندما يتفقه الإنسان في هذه العلوم فإنه يصل إلي ما فيه صلاح أمره, وكذلك فإن الإنسان بتلك العلوم يكتشف أسرار الكون والقوانين التي تحكمه, ويتم له ظهور تفاصيل الآيات الكونية أمامه.
ثم يقول الدكتور حسني أحمد علي:
علي المسلمين أن يتفقهوا في كل العلوم فإنها من أمور هذا الدين, وإنه بناء علي أعمالهم وعلمهم ودوافعهم ومقاصدهم وعزمهم سوف يتحدد مصيرهم.
وهذه الرسالة كما أشرت في البداية طويلة وفيها كثير من التفاصيل التي تدور كلها حول تأييد كاتبها الفاضل للرأي القائل بأن الطبيعة والكيمياء والطب وغيرها هي علوم الدين الأصلية.
وفي رسالة ثالثة من المهندسة الأستاذة نادين الشقنقيري تقول صاحبة الرسالة: قرأت مقالكم المنشور في الأهرام تحت عنوان ما رأيكم في هذا الرأي, وسعدت بأن يكون هناك رأي جريء علي هذه الصورة, وهو في تقديري رأي سديد. والحق أنني أجد فعلا أن علوم الإسلام هي الصناعة والزراعة والطب والهندسة وما يتصل بها, أما علوم الكلام والفقه والأصول وما جاراها, فهي أسس دينية ثابتة لا تغيير فيها ولا اجتهاد. وقد فسر الكثيرون قوله تعالي إنما يخشي الله من عباده العلماء بأن المقصود هنا هو علماء الدين, ولكننا إذا عدنا إلي الآيات من أولها, وفكرنا فيها تفكيرا دقيقا, لوجدنا غير ذلك. فالآيات الكريمة تقول في سورة فاطر أية27 وآية28:… ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشي الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور.
تلك هي آيات القرآن الكريم, وكلمة جدد معناها الطرق, وهي جمع جدة, بضم الجيم. والغرابيب هي الشديدة السواد ومفردها غربيب. وفي هذه الآيات الكريمة ما يشير بوضوح إلي أن القرآن يشير بكلمة العلماء إلي علماء الطب والزراعة وغيرهما مما يشبههام من العلوم. ففي هذه العلوم ما يساعد علي اكتشاف بعض من قدرة الله سبحانه وتعالي, وفي هذه العلوم ما ينفع الناس ويبقي في الأرض ويعود عليهم بالخير والسعادة.
وشكرا للمهندسة نادين الشقنقيري علي رسالتها الطيبة.
هذا بعض ما وصلني حتي الآن من تعليقات في تأييد رأي الأستاذ عطية الشيخ. بقيت هناك ملاحظتان لابد منهما: الأولي هي أن القول بأن علوم الإسلام هي الطب والهندسة والزراعة وغيرها, لا يعني أن هذه العلوم هي علوم إسلامية فقط, وأن الأديان الأخري ليس لها حق فيها. والمعني الصحيح هو أن هذه العلوم هي ما يدعو إليه الإسلام إلي الاهتمام بها والتعمق فيها والتفوق في دراستها واكتسابها. وبالطبع لا يمكن لأحد أن يقول إن هذه العلوم هي احتكار لأحد, لأنها في النهاية علوم للإنسانية كلها.
أما الملاحظة الثانية فهي أن تأييد رأي الأستاذ عطية الشيخ عند الذين يرون ذلك إنما يقتضي العمل بهذا الرأي, فلابد أن تكون هناك قوة وإرادة وعزيمة علي الأخذ به وليس الاكتفاء بترديده وتأييده أو الالتفاف حوله بمجرد الحوار والجدل. فالأفكار الجديدة ليست خمرا نشربها ونسكر, ولكنها قوة, تتبعها حركة, يتبعها اجتهاد وعمل جاد.