.. رأى الملك سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف , وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات , فأولها يوسف عليه السلام في شكل خطة أعمال ونفذها على مدى خمسة عشر عاما.
هذه ليست قصة تاريخية تنتهي بانتهاء حياة أفرادها, ولكنها نموذج مستمر , يتكرر , و يمكن تطبيقه بصفة دائمة لمواجهة الكساد والركود , في أي مكان وزمان , وفي أي نشاط
.. إن الله يفتح من رحمته ما لا ممسك لها , فتنفتح الأسواق , وتتصاعد مقاييس البورصات العالمية ,فتختلف ردود أفعال الناس , ببن نشاط وكسل , فينشط الناشطون , ويكسل الكسولون …
.. وتجري السيولة والأرباح في أيدي الناس , فيختلفون أيضا في تصرفاتهم , فيسرف المسرفون ويقتصد المقتصدون.
والمطلوب في هذه الفترة من زمن الرواج والرخاء , أن يهتم الناس بالعمل والاستفادة من ظروف الرواج , وتحقيق أكبر مكاسب ممكنة ومسموحة.
لذا فقد نصح يوسف باستغلال فترات الرواج والفتح من رحمة الله , بالعمل دأبا , وبادخار نواتج العمل , إلا قليلا مما تأكلون : قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ(47)يوسف
… ينتج عن الرواج عادات سيئة في العمل وفي الإنفاق , فتسري عدوى الكسل والتبذير , حيث تنتقل العدوى دائما من المريض إلى السليم .
… ولو ترك الله الوضع على ما هو عليه لما تعمّرت الدنيا , ولما وجد الضعفاء والفقراء والأطفال واليتامى من يعولهم .
… يتدخل الله تدخلا قهريا , بفرض حالات الكساد والركود التي تتعدد أسبابها في كل مرة , ولكنها تتكرر بشكل غير دوري , وتعم جميع أوجه النشاط الإنساني , وليس فقط الاقتصاد , وتصيب جميع دول العالم بدرجات متفاوتة , فيما يسمى بدورات الأشغال أوالأعمال أو Business Cycles. .
عندما تحدث هذه الظاهرة , تأكل السنون الشداد , ما قدم الناس من مدخرات في سنين الخير , إلا قليلا مما يحصنون . { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} (48)يوسف
.. أما من لم يدّخر , فإنه سيضطر إلى مد يده,
.. وأما من كان كسولا عن العمل في الرخاء , فإنه سيقوم وينشط للعمل , إلا أنه لن يؤدي مثل من كان يعمل بصفة دائبة فيكتسب خبرات كل يوم.
ونتيجة لفترة الكساد والركود , يقوِّم الله الأداء الإنساني , ويدفع الناس بقوَّة الحاجة , إلى تطوير أنفسهم , وحلّ مشكلاتهم الداخلية , والتخلص من الأعباء الإضافية , ومراجعة أساليب العمل والأداء , ومحاولة التميُّز والتفوُّق , لكى يجدوا لأنفسهم مكانا في الحاضر والمستقبل , وسط منافسة شرسة يزيدها الكساد شراسة .
بعد أن تنتهي فترة الكساد والركود , يكون أداء الناس قد تم تقويمه , وارتفعت مستوياتهم في العمل والإنفاق , فيأتي غوث الله في وقت يوشك الناس فيه على اليأس والقنوط ,فلا يستغرق الغوث إلا عاما واحدا , ثم يتجاوز الغوث إلى الرخاء , فترتفع القيمة المضافة لعمل الناس فيعصرون نواتج ما زرعوا في أيام الركود . { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون }َ(49)يوسف
إذن فللكساد فوائد وثمار لا تقل أهمية عن ثمار الرخاء , بل هي تعتبر أساسا للرخاء , وتقوية وتحسينا للأداء, لمن ينتبه لها ويفهم مغزاها .
وتصبح فترات الرخاء والرواج , استثمارا للمادة ومظاهرها , من مبان وممتلكات وسيارات وغيرها . كما تصبح فترات الركود والكساد استثمارا للإنسان نفسه , لقدراته وإمكانياته , وكفاءته .
أما من مرت عليه الأزمات فلم يعمل على الاستفادة بها وإصلاح شأنه , فإنه يكون مثل طفل عاقبه أبوه لإصلاح شأنه , فأصابه العقاب , ولكنه لم يصلح شأن نفسه ,فأخذ العقاب ولم يأخذ الثمار.
في زمن الركود والكساد , على الشركات والأفراد أن يعوا الحكمة منه , ويستجيبوا لقدر الله وأهدافه ومقاصده.
وتلك أمثلة لمانفّذته في أعمالي , وما يجب على الشركات عمله في زمن الكساد والركود:
- مراجعة الهياكل التنظيمية للإدارة وتحسينها. فربما يكون هناك ما يمكن اختصاره من مستويات الإدارة , وربما بالاختصار تدار الأعمال أسهل وأجدى وأسرع.
- , بإعادة هيكلة العمالة الزائدة وتدريبها على أعمال أرقى وأجدى. فبحصر مشكلات الشركة , وترتيبها بحسب الأهمية والخطورة , يمكن توجيه بعض من العمالة في اتجاه حل هذه المشكلات , كما أن التدريب يرفع من قدرات الإنسان , وهو من المستهدف في زمن الكساد.
- التخلص من أعباء القروض , التي تمثل أثقالا عنيفة في دورات اقتصادية بطيئة. فالقروض ربما تكون ذات نفع كبير حين تدير عجلة الإنتاج , وتوفر الخامات والمستلزمات في الوقت المناسب , أما في زمن الكساد , فإن المقرض شريك سوء , لا يعترف ببطء الدوران , ولا يرضى إلا بكامل اشتراطاته وامتيازاته . بل ويزيد من نسب أرباحه, حتى ليكون التخلص منه نعمة ورحمة وقرارا صائبا في موعده.
- التخلص من المخزون الراكد , بإصلاح عيوبه , وتخفيض أسعار بيعه , وتسييل قيمته وتفريغ المخازن منه. فربما يصعب على الإدارة اتخاذ قرارات بالبيع بخسارة في زمن الرواج , ,لكنها في زمن الركود تنظر إلى المخزون على أنه مال , لو تم تسييله ولو بأقل من قيمته ,فإنه سيتحول إلى خامات وسداد مبكّر للقروض , ووفر في التكاليف. علاوة على أنه سيحول المخزون إلى بضائع في الأسواق تحمل اسم المنتج وتمهّد لاستمرارية الحركة والانتشار.
- مراجعة قوائم الأسعار وهوامش الأرباح , والاكتفاء بالقليل منها. ففي زمن الرواج وكثرة النقد في الخزائن , يسهل تحقيق أرباح أعلى , فيعتاد المديرون على تحقيق الهوامش العالية , ,لكن في الكساد , فإن الهامش القليل مع الدورات الأسرع والزمن القصير , يصبح هو الصيغة المقبولة.
- تغيير أساليب البيع والتسويق , ومحاولة الوصول إلى المستخدم الأخير بعيدا عن الوسطاء. فكلما اقتربت من اليد الأخيرة , كلما قدمت خدمة أرقى , وشعرت بردود الأفعال بدقة أكثر , وأبعدت التأثير السلبي للمراحل التجارية المختلفة عنك.
- الارتفاع بمستوى الخدمات التي تؤدى إلى العملاء.ففي زمن الركود يكثر العرض , ويقل الطلب , ويقبل العملاء على من يقدم خدمة أفضل.
- استغلال كل الطاقات المعطلة , من المكان , والأموال , والبضائع , والماكينات والأفراد والخبرات, والعلاقات , والوقت. ففي زمن الركود , يتوافر الوقت للنظر في كل ما حولك , وتحسين فرص الاستغلال الأمثل للموارد . وكم من موارد أنساها الرواج , وأبداها وأظهرها الركود.
- زيادة القيمة المضافة قدر الإمكان . وقيمتك المضافة هي تميّزك وبصمتك الخاصة , وهي مصدر الزيادة في حجم أعمالك وأرباحك , وهي فرصتك الأكبر في المنافسة.
- عدم التكلف بأعباء مالية جديدة . فالحذر الحذر من تكاليف التمويل , ونقص السيولة , التي يمكن أن تتسبب في سقوط شركات , قد لا تسقطها الخسائر.
- صيانة وإصلاح أدوات الإنتاج , قبل التخلص منها وشراء الجديد. ففي الكساد ترتفع قيمة أصولك الإنتاجية , ويصبح دورانها بكفاءة , هو المخرج من الحالة , وهي فرصة لصيانة الدائر , وإصلاح العاطل.
- عمل تحالفات استراتيجية مع شركات ذات نشاط متكامل مع نشاط الشركة . فمواجهة المنافسة في الركود , يكون أسهل كثيرا بتوحيد الجهود , واكتشاف صيغ جديدة للتعاون .
- محاولة الوصول إلى صيغ تعاونية مع المنافسين , والتحول من التنافس , إلى التعاون التنافسي , وربما الاندماج الكامل.
- تحسين شروط البيع والشراء , لتقليل دورات رأس المال , والمخزون السلعي. فالتمويل من تسهيلات المورّدين خير من التمويل البنكي , وهامش ربح صغير , مع زمن دورة أقصر , خير من هامش كبير مع دورة أطول.
ثم بعد ذلك , لابد من التمسك بالأمل , والمشاركة في تحقيقه بإذن الله وتوفيقه , حيث أن دوام الحال من المحال , والإيمان بأن هذه الظروف الشاقة في الاقتصاد والنشاط الإنساني عموما ,إنما هي من أفعال الله المليئة بالحكمة والخير , لمن وعاها , وأدرك مغزاها , وتعامل معها بذكاء وفطنة.