يشعر الناس على فترات, بحالة من الركود والكساد , وكوارث فى النشاط الإنسانى, تتكرر, ولكنها ليست دورية, قد تقل مدتها فتصل إلى أكثر من سنة, وقد تزيد فتصل إلى أقل من اثنتي عشرة سنة, تنال كل مجالات النشاط الإنساني, وليس فقط النشاط الاقتصادي.
● هل هى عامة أم تختص بها بعض الدول وبعض الأنشطة؟
● وهل اتفقت كل الدول ومؤسسات الأعمال والاقتصاد على هذه الحالة؟
● وهل هى تحدث لأول مرة , أم هى تتكرر عبر الزمان؟
إنها حالة تصيب العالم أجمع , تتأثر بها مصر كما نراها فى الولايات المتحدة واليابان وأوربا وآسيا وأفريقيا.
كما أنها تصيب كل الأنشطة…
فنسمع فى الزراعة عن كوارث الأرز والسكر ,
وفى الثروة الحيوانية جنون البقر والحمى القلاعية.
وفى الصناعة تتوقف بعض المصانع, وتقوم بتسريح بعض العمال
وفى التجارة نقرأ عن إفلاس الكثير من التجار وامتناع البعض عن السداد ,
وفى العمارات والإنشاءات تتناقص الأسعار ولا تجد البيوت من يشتريها أو يستأجرها.
وفى البورصات العالمية فى نيويورك و طوكيو ولندن ,
وفي البنوك والمصارف, تتراكم الأموال فلا تجد من يستثمرها, في نفس الوقت الذي يمتنع العملاء القدامى عن السداد لسوء الظروف.
وبصفة عامة عن انهيارات فى اقتصاديات الدول هنا وهناك.
وبما أنها حالة عامة , يستحيل الاتفاق عليها , وأنها تتكرر عبر التاريخ , فإننا لابد أن نفكر فى من يصيب بها , وما أسبابها , وما هو التصرف الأمثل قبل وقوع الكوارث فى النشاط الإنساني , وما هو العمل أثناء حلول هذه الكوارث ؟ وإلى متى ستستمر , ومتى تنتهى؟ وماذا يحدث بعدها؟
إن علماء الاقتصاد عبر التاريخ رصدوا ولاحظوا تكرار هذه الأحداث, وأطلقوا عليها ظاهرة فى النشاط الإنسانى, تماما مثل ما يحدث فى الظواهر الطبيعية من الزلازل والبراكين والفيضانات والمد والجذر فى البحار والكسوف والخسوف.
وطالما هى ظاهرة تحدث دون تدخل من البشر , فإننا كمؤمنين نعلم أن الله تعالى هو صانعها, وهو كاشفها بفضله ورحمته ,هو الحكيم العليم بأسبابها.
وحين نلاحظ أن الله تعالى حدثنا فى كتابه عن كل الظواهر الطبيعية , فإنه لابد محدثنا عن هذه الظاهرة , ومبين لنا كيفية التصرف السليم تجاهها.
رؤيا الملك:
(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ(43)يوسف
هذه ليست قصة تاريخية تنتهي بانتهاء حياة أفرادها, ولكنها نموذج مستمر, يتكرر, و يمكن تطبيقه بصفة دائمة لمواجهة الكساد والركود , في أي مكان وزمان , وفي أي نشاط
.. إن الله يفتح من رحمته ما لا ممسك لها , فتنفتح الأسواق , وتتصاعد مقاييس البورصات العالمية ,فتختلف ردود أفعال الناس , ببن نشاط وكسل , فينشط الناشطون , ويكسل الكسولون …
.. وتجري السيولة والأرباح في أيدي الناس , فيختلفون أيضا في تصرفاتهم , فيسرف المسرفون ويقتصد المقتصدون.
والمطلوب في هذه الفترة من زمن الرواج والرخاء , أن يهتم الناس بالعمل والاستفادة من ظروف الرواج , وتحقيق أكبر مكاسب ممكنة ومسموحة.
لذا فقد نصح يوسف باستغلال فترات الرواج والفتح من رحمة الله , بالعمل دأبا , وبادخار نواتج العمل , إلا قليلا مما تأكلون : قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ(47)يوسف
… ينتج عن الرواج عادات سيئة في العمل وفي الإنفاق , فتسري عدوى الكسل والتبذير , حيث تنتقل العدوى دائما من المريض إلى السليم .
… ولو ترك الله الوضع على ما هو عليه لما تعمّرت الدنيا , ولما وجد الضعفاء والفقراء والأطفال واليتامى من يعولهم .
… يتدخل الله تدخلا قهريا , بفرض حالات الكساد والركود التي تتعدد أسبابها في كل مرة , ولكنها تتكرر بشكل غير دوري , وتعم جميع أوجه النشاط الإنساني , وليس فقط الاقتصاد , وتصيب جميع دول العالم بدرجات متفاوتة , فيما يسمى بدورات الأشغال أوالأعمال أو Business Cycles. .
عندما تحدث هذه الظاهرة , تأكل السنون الشداد , ما قدم الناس من مدخرات في سنين الخير , إلا قليلا مما يحصنون . { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} (48)يوسف
.. أما من لم يدّخر , فإنه سيضطر إلى مد يده,
.. وأما من كان كسولا عن العمل في الرخاء , فإنه سيقوم وينشط للعمل , إلا أنه لن يؤدي مثل من كان يعمل بصفة دائبة فيكتسب خبرات كل يوم.
ونتيجة لفترة الكساد والركود , يقوِّم الله الأداء الإنساني , ويدفع الناس بقوَّة الحاجة , إلى تطوير أنفسهم , وحلّ مشكلاتهم الداخلية , والتخلص من الأعباء الإضافية , ومراجعة أساليب العمل والأداء , ومحاولة التميُّز والتفوُّق , لكى يجدوا لأنفسهم مكانا في الحاضر والمستقبل , وسط منافسة شرسة يزيدها الكساد شراسة .
بعد أن تنتهي فترة الكساد والركود , يكون أداء الناس قد تم تقويمه , وارتفعت مستوياتهم في العمل والإنفاق , فيأتي غوث الله في وقت يوشك الناس فيه على اليأس والقنوط ,فلا يستغرق الغوث إلا عاما واحدا ,
ثم يتجاوز الغوث إلى الرخاء , فترتفع القيمة المضافة لعمل الناس فيعصرون نواتج ما زرعوا في أيام الركود . { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون }َ(49)يوسف
إذن فللكساد فوائد وثمار لا تقل أهمية عن ثمار الرخاء , بل هي تعتبر أساسا للرخاء , وتقوية وتحسينا للأداء, لمن ينتبه لها ويفهم مغزاها .
وتصبح فترات الرخاء والرواج , استثمارا للمادة ومظاهرها , من مبان وممتلكات وسيارات وغيرها .
… كما تصبح فترات الركود والكساد استثمارا للإنسان نفسه , لقدراته وإمكانياته , وكفاءته
أما من مرت عليه الأزمات فلم يعمل على الاستفادة بها وإصلاح شأنه , فإنه يكون مثل طفل عاقبه أبوه لإصلاح شأنه , فأصابه العقاب , ولكنه لم يصلح شأن نفسه ,فأخذ العقاب ولم يأخذ الثمار.
● فما هى مدلولات الرؤيا؟
● وما الفرق بين مثال البقرات ومثال السنبلات؟
● ومن أين جاء يوسف بتأويل العام الذى فيه يغاث الناس وفيه يعصرون؟
● ولماذا جمع الله سنبلة فى سورة البقرة بكلمة سنابل , وجمع نفس الكلمة فى سورة يوسف بكلمة سنبلات؟ رغم أنها فى المرتين عددها سبع!
● وما ارتباط هذا كله بأحداث العالم اليوم , وبالأزمة العامة فى النشاط الإنسانى؟
● وما هى أسباب إصابة الله الناس فى نشاطهم الإنساني بالكساد والركود؟
إن الله يحدثنا فى هذه الآيات عن ظاهرة من الظواهر فى النشاط الإنسانى , أسبابها , كيفية التصرف قبل أن تحدث , كيفية التصرف حال حدوثها , ونتائج حسن التصرف ونتائج سوء التصرف وهى درس للتاريخ الإنساني كله عبر العصور والأزمان إلى يوم القيامة.
فى الأوقات الطبيعية, يفتح الله للناس من رحمته ويسخر للناس ما فى السماوات وما فى الأرض جميعا منه , ويدلهم على العمل الصالح فى سبيل استغلال نعمه , ويؤتيهم من كل ما سألوه” وآتاكم من كل ما سألتموه” ويأمر الناس بالعمل الصالح , ويقول ” وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون, ثم تردٌّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون” , ويقول ” من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها , ثم إلى ربكم تُرجعون”.
فيعمل ناس ويكسل ناس , والعاملون يأخذون جزاء أعمالهم , ويكسبون أرزاقهم , وتتراكم لديهم الأموال وتكثر البضائع , فيقتصد ناس …. ويسرف ناس.
فتأتى من بعد ذلك فترة من الزمن, يصيب الله بالكساد وبالركود, فيقلب الأحوال , ويبلو بالشر والخير فتنة , ويهز الكسول , ويرشِّد المجتهد , ويعطى العظة والعبرة.
فأما من اجتهد فى الأيام الخالية , فإنه يجد ما ينفق , نتيجة جهده وحسن تصرفه بعدم التبذير وعدم الإسراف, وبالادخار , وبالصدقات والإنفاق .
وأما من كسل ولم يأخذ بالأسباب , وأساء التصرف فى نعمة الله , فأهمل فى استغلال صحته وقوته وعلمه , وإن رزقه الله رزقا , فهو يهلكه فى غير الحق , بالتبذير والإسراف , ولا يدخر لنفسه ولغده شيئا , فإنه يأتى وقت الأزمة ولا يجد سوى الكفاف , بل إنه يضطر إلى إعلان حاجته , وسؤال الناس أعطوه أو منعوه , ويحصل على قوته وحاجاته ولكن بذلة نفس.
إن هذا بعض مما أشار الله تعالى إليه فى رؤيا الملك , وتأويل يوسف لها, كشرح لظاهرة من الظواهر فى النشاط الإنساني.
(قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ(47)ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ(48)ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ(49)يوسف
إنني أفهم من تلك الآيات أن الله يبلغنا أن خيره إلى عباده نازل , وحين ينزل , فلابد أن تقوموا وتشهدوا رزق ربكم , وتعملوا فى الاستفادة منه ,واستثماره , فما نتج عن أعمالكم هذه , ويعبر عنه بالحصاد ” فما حصدتم” , فقوموا بتخزينه , إلا قليلا مما تأكلون. وحين تخزنوه لابد أن يتم ذلك بعلم وخبرة , وبالأسلوب الذى لا يفسده , فإن كان حبّا فذروه فى سنبله..
أولا: البقرات:
إن البقرة مثال لعطاء الله بدون أدنى جهد من الإنسان, أي هي مشروع جاهز فور البدء فيه, فأنت تستطيع فور شرائك بقرة أن تذبحها وتأكل منها, وتستطيع الاستفادة بأشعارها و أوبارها. يقول الله تعالى :
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ(73) يس
الأنعام تصلك جاهزة للملكية , يخلقها الله , ويذللها , ويجعل فيها الركوب والأكل , والمنافع والمشارب….. والمطلوب منا شكر الله عليها بالعمل الصالح و حسن استغلالها.
ثانيا: السنبلات والحَبّ :
أما النبات فهو ينقسم إلى قسمين : النجم , والشجر. والنجم هو النبات الذى لا ساق له
ويقول سبحانه مبينا:(وَآيَةٌ لَهُمْ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33)وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ(34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ(35)
فيكون الثمر من الشجر, من أفعال الله وحده لا شريك له, ويكون الحبّ مما عملته أيديهم.
إذن البقرات والأنعام مما عملته أيدي الله, أو قل مما خلقه الله وحده لا شريك له, لم يشارك أحد في خلقها, بل نشتريها ونربيها ونستثمرها, وبدون الإنسان فالبقرات موجودة, تعيش وتتكاثر.
أما الحبوب والسنبلات فهي مما عملته أيدي الناس, أو قل مما خلقه الله بأيدي الناس. ولو أن الناس قد اتفقوا في عام من الأعوام, على ألا يزرعوا ولا يحفظوا حبوبا كتقاوي للعام المقبل, فإن القمح والحبوب لن تُزرع,
وتلك سنّة الله في النشاط الاقتصادي. عطاء من الله, وجهد من الناس.
ويقول سبحانه (يا أيها الناس أنفقوا من طيبات ما كسبتم, ومما أخرجنا لكم من الأرض)
ويقول في الحبوب والسنابل: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(261)البقرة
يوسف.. خطة الأعمال في زمن الكساد
.. رأى الملك سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف , وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات , فأولها يوسف عليه السلام في شكل خطة أعمال ونفذها على مدى خمسة عشر عاما.
هذه ليست قصة تاريخية تنتهي بانتهاء حياة أفرادها, ولكنها نموذج مستمر , يتكرر , و يمكن تطبيقه بصفة دائمة لمواجهة الكساد والركود , في أي مكان وزمان , وفي أي نشاط
.. إن الله يفتح من رحمته ما لا ممسك لها , فتنفتح الأسواق , وتتصاعد مقاييس البورصات العالمية ,فتختلف ردود أفعال الناس , ببن نشاط وكسل , فينشط الناشطون , ويكسل الكسولون …
.. وتجري السيولة والأرباح في أيدي الناس , فيختلفون أيضا في تصرفاتهم , فيسرف المسرفون ويقتصد المقتصدون.
والمطلوب في هذه الفترة من زمن الرواج والرخاء , أن يهتم الناس بالعمل والاستفادة من ظروف الرواج , وتحقيق أكبر مكاسب ممكنة ومسموحة.
لذا فقد نصح يوسف باستغلال فترات الرواج والفتح من رحمة الله , بالعمل دأبا , وبادخار نواتج العمل , إلا قليلا مما تأكلون : قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ(47)يوسف
… ينتج عن الرواج عادات سيئة في العمل وفي الإنفاق , فتسري عدوى الكسل والتبذير , حيث تنتقل العدوى دائما من المريض إلى السليم .
… ولو ترك الله الوضع على ما هو عليه لما تعمّرت الدنيا , ولما وجد الضعفاء والفقراء والأطفال واليتامى من يعولهم .
… يتدخل الله تدخلا قهريا , بفرض حالات الكساد والركود التي تتعدد أسبابها في كل مرة , ولكنها تتكرر بشكل غير دوري , وتعم جميع أوجه النشاط الإنساني , وليس فقط الاقتصاد , وتصيب جميع دول العالم بدرجات متفاوتة , فيما يسمى بدورات الأشغال أوالأعمال أو Business Cycles. .
عندما تحدث هذه الظاهرة , تأكل السنون الشداد , ما قدم الناس من مدخرات في سنين الخير , إلا قليلا مما يحصنون . { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} (48)يوسف
.. أما من لم يدّخر , فإنه سيضطر إلى مد يده,
.. وأما من كان كسولا عن العمل في الرخاء , فإنه سيقوم وينشط للعمل , إلا أنه لن يؤدي مثل من كان يعمل بصفة دائبة فيكتسب خبرات كل يوم.
ونتيجة لفترة الكساد والركود , يقوِّم الله الأداء الإنساني , ويدفع الناس بقوَّة الحاجة , إلى تطوير أنفسهم , وحلّ مشكلاتهم الداخلية , والتخلص من الأعباء الإضافية , ومراجعة أساليب العمل والأداء , ومحاولة التميُّز والتفوُّق , لكى يجدوا لأنفسهم مكانا في الحاضر والمستقبل , وسط منافسة شرسة يزيدها الكساد شراسة .
بعد أن تنتهي فترة الكساد والركود , يكون أداء الناس قد تم تقويمه , وارتفعت مستوياتهم في العمل والإنفاق , فيأتي غوث الله في وقت يوشك الناس فيه على اليأس والقنوط ,فلا يستغرق الغوث إلا عاما واحدا , ثم يتجاوز الغوث إلى الرخاء , فترتفع القيمة المضافة لعمل الناس فيعصرون نواتج ما زرعوا في أيام الركود . { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون }َ(49)يوسف
إذن فللكساد فوائد وثمار لا تقل أهمية عن ثمار الرخاء , بل هي تعتبر أساسا للرخاء , وتقوية وتحسينا للأداء, لمن ينتبه لها ويفهم مغزاها .
وتصبح فترات الرخاء والرواج , استثمارا للمادة ومظاهرها , من مبان وممتلكات وسيارات وغيرها . كما تصبح فترات الركود والكساد استثمارا للإنسان نفسه , لقدراته وإمكانياته , وكفاءته .
أما من مرت عليه الأزمات فلم يعمل على الاستفادة بها وإصلاح شأنه , فإنه يكون مثل طفل عاقبه أبوه لإصلاح شأنه , فأصابه العقاب , ولكنه لم يصلح شأن نفسه ,فأخذ العقاب ولم يأخذ الثمار.
في زمن الركود والكساد , على الشركات والأفراد أن يعوا الحكمة منه , ويستجيبوا لقدر الله وأهدافه ومقاصده.
وتلك أمثلة لمانفّذته في أعمالي , وما يجب على الشركات عمله في زمن الكساد والركود:
- مراجعة الهياكل التنظيمية للإدارة وتحسينها. فربما يكون هناك ما يمكن اختصاره من مستويات الإدارة , وربما بالاختصار تدار الأعمال أسهل وأجدى وأسرع.
- , بإعادة هيكلة العمالة الزائدة وتدريبها على أعمال أرقى وأجدى. فبحصر مشكلات الشركة , وترتيبها بحسب الأهمية والخطورة , يمكن توجيه بعض من العمالة في اتجاه حل هذه المشكلات , كما أن التدريب يرفع من قدرات الإنسان , وهو من المستهدف في زمن الكساد.
- التخلص من أعباء القروض , التي تمثل أثقالا عنيفة في دورات اقتصادية بطيئة. فالقروض ربما تكون ذات نفع كبير حين تدير عجلة الإنتاج , وتوفر الخامات والمستلزمات في الوقت المناسب , أما في زمن الكساد , فإن المقرض شريك سوء , لا يعترف ببطء الدوران , ولا يرضى إلا بكامل اشتراطاته وامتيازاته . بل ويزيد من نسب أرباحه, حتى ليكون التخلص منه نعمة ورحمة وقرارا صائبا في موعده.
- التخلص من المخزون الراكد , بإصلاح عيوبه , وتخفيض أسعار بيعه , وتسييل قيمته وتفريغ المخازن منه. فربما يصعب على الإدارة اتخاذ قرارات بالبيع بخسارة في زمن الرواج , ,لكنها في زمن الركود تنظر إلى المخزون على أنه مال , لو تم تسييله ولو بأقل من قيمته ,فإنه سيتحول إلى خامات وسداد مبكّر للقروض , ووفر في التكاليف. علاوة على أنه سيحول المخزون إلى بضائع في الأسواق تحمل اسم المنتج وتمهّد لاستمرارية الحركة والانتشار.
- مراجعة قوائم الأسعار وهوامش الأرباح , والاكتفاء بالقليل منها. ففي زمن الرواج وكثرة النقد في الخزائن , يسهل تحقيق أرباح أعلى , فيعتاد المديرون على تحقيق الهوامش العالية , ,لكن في الكساد , فإن الهامش القليل مع الدورات الأسرع والزمن القصير , يصبح هو الصيغة المقبولة.
- تغيير أساليب البيع والتسويق , ومحاولة الوصول إلى المستخدم الأخير بعيدا عن الوسطاء. فكلما اقتربت من اليد الأخيرة , كلما قدمت خدمة أرقى , وشعرت بردود الأفعال بدقة أكثر , وأبعدت التأثير السلبي للمراحل التجارية المختلفة عنك.
- الارتفاع بمستوى الخدمات التي تؤدى إلى العملاء.ففي زمن الركود يكثر العرض , ويقل الطلب , ويقبل العملاء على من يقدم خدمة أفضل.
- استغلال كل الطاقات المعطلة , من المكان , والأموال , والبضائع , والماكينات والأفراد والخبرات, والعلاقات , والوقت. ففي زمن الركود , يتوافر الوقت للنظر في كل ما حولك , وتحسين فرص الاستغلال الأمثل للموارد . وكم من موارد أنساها الرواج , وأبداها وأظهرها الركود.
- زيادة القيمة المضافة قدر الإمكان . وقيمتك المضافة هي تميّزك وبصمتك الخاصة , وهي مصدر الزيادة في حجم أعمالك وأرباحك , وهي فرصتك الأكبر في المنافسة.
- عدم التكلف بأعباء مالية جديدة . فالحذر الحذر من تكاليف التمويل , ونقص السيولة , التي يمكن أن تتسبب في سقوط شركات , قد لا تسقطها الخسائر.
- صيانة وإصلاح أدوات الإنتاج , قبل التخلص منها وشراء الجديد. ففي الكساد ترتفع قيمة أصولك الإنتاجية , ويصبح دورانها بكفاءة , هو المخرج من الحالة , وهي فرصة لصيانة الدائر , وإصلاح العاطل.
- عمل تحالفات استراتيجية مع شركات ذات نشاط متكامل مع نشاط الشركة . فمواجهة المنافسة في الركود , يكون أسهل كثيرا بتوحيد الجهود , واكتشاف صيغ جديدة للتعاون .
- محاولة الوصول إلى صيغ تعاونية مع المنافسين , والتحول من التنافس , إلى التعاون التنافسي , وربما الاندماج الكامل.
- تحسين شروط البيع والشراء , لتقليل دورات رأس المال , والمخزون السلعي. فالتمويل من تسهيلات المورّدين خير من التمويل البنكي , وهامش ربح صغير , مع زمن دورة أقصر , خير من هامش كبير مع دورة أطول.
- ثم بعد ذلك , لابد من التمسك بالأمل , والمشاركة في تحقيقه بإذن الله وتوفيقه , حيث أن دوام الحال من المحال , والإيمان بأن هذه الظروف الشاقة في الاقتصاد والنشاط الإنساني عموما ,إنما هي من أفعال الله المليئة بالحكمة والخير , لمن وعاها , وأدرك مغزاها , وتعامل معها بذكاء وفطنة.