في منهاج القرآن لبناء الحضارة الإنسانية, أتم الله القواعد والأركان السبعة, التي بدأت بالإخلاص والإمامة, ثم المشاركة, فالقيادة والإدارة, فإدارة الأزمات, فالحكمة والسلطة التشريعية, ثم فصل الخطاب والسلطة القضائية, ثم السعي والعمل وذلك في إحدى وسبعين سورة بترتيب النزول, من سورة العلق (اقرأ) إلى سورة نوح.
فماذا بعد ذلك؟ ماذا بعد البناء الداخلي لنواة الأمة ومنظوماتها؟
قبل نزول سورة إبراهيم, كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد لبث في مكة يدعو الناس إلى دين الله الحق, ويسلك في سبيل ذلك كل الوسائل والطرق على مدى أكثر من عشر سنوات, فآمن من آمن, وبقي الباقون في كفرهم وشركهم. هنا بدأ القرآن يضع خطة الانتشار بالدعوة خارج مكة… إلى العالمين… إلى الناس كافة.
ولكي يتحقق تكليف الله سبحانه لرسوله صلّى الله عليه وسلم, بأن بعثه للعالمين, للناس في كل مكان, وفي كل زمان, لكي يتحقق هذا, فإن الله يضع منهاج الحركة لنشر الدعوة, وعدم قصرها على ناس بعينهم, ولا على مكان بعينه, ولا على زمان بعينه.
لهذا فقد بدأت مرحلة الانتشار بحضارة القرآن إلى الناس, كل الناس, في الأرض, كل الأرض, وفي الزمان, كل الزمان. فحضارة القرآن للناس أجمعين وليست إلى قوم دون قوم, أو لزمن معيّن. وهذه مسئولية المسلمين ورثة الكتاب. فهم لا يكتفون بالاهتداء إلى رسالة الله, والحياة بها وحدهم, ولكنهم مسئولون أفرادا وجماعات ودولا عن تبليغها إلى الناس أجمعين, وعن أن يشاركهم الناس في نعمة الحياة بها, بعيدا عن ظلمات الضلال والكفر والفسق والفجور, ثم بعد ذلك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
وحيث أنه لا رسل ولا أنبياء بعد رسول الله محمّد صلّى الله عليه وسلم, فإن المسلمين هم الآن حملة رسالة الله إلى الناس. وهذه مسئولية لا يتحملها غيرهم أحد من الناس ولا أمة من الأمم, يتحملونها بتكليف من الله, في زمان قوّتهم, وفي زمان ضعفهم, في أي وضع كانوا وفي أي زمان كانوا, وعلى أي حال كانوا. أي أن كل فرد من المسلمين عليه مسئولية تبليغ من يستطيع من الناس هَدْي رسول الله, وبيان ما نُزِّل إليهم من ربّهم.
والهدف الذي تسعى حضارة القرآن لتحقيقه في الدنيا, هو:
- نصر الله, أي أن يظهر دينه على الدين كلّه.
- والفتح, أي أن تُفتح لدين الله أبواب البلاد.
- والناس يدخلون في دين الله أفواجا. أي أن تُفتح لدين الله قلوب الناس.
ولا يتأتّى ذلك إلا بالخروج بالدعوة إلى الناس أجمعين. لإخراجهم من الظلمات إلى النور, بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
وأي دولة أو أمة تسعى بعد بنائها الداخلي, لنشر فكرها وثقافتها, وسيطرتها على غيرها من الأمم, تماما كما فعل الهكسوس في التاريخ القديم, والحملات الصليبية, والتتار, ثم إسبانيا والبرتغال وإنجلترا وفرنسا في القرون الماضية, والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية في القرن الماضي, والولايات المتحدة منفردة في القرن الحالي.
غير أن ما حققه كل أولئك الأحزاب, ربما يكونون قد وصلوا به إلى نصر على الآخرين, وفتح لبلاد واحتلال لأراضي ومقدرات دول, ولكننا لم نر الناس يدخلون في دين الهكسوس أفواجا, ولا في دين الحملات الصليبية ولا التتار, ولا في دين روسيا أو أمريكا, ولكنها كانت المقاومة الدائمة حتى طرد المستعمر المحتل من أراضي البلاد, أو إهلاك الأمم المحتلة كما فعلت الولايات المتحدة في الهنود الحمر.
أما الحضارة الإسلامية فإننا نراها قد جاءها نصر الله, وليس أي نصر, وجاءها الفتح, ففتحت لها البلاد, كما رأينا الناس يدخلون في دين الله أفواجا, حتى تبنّت البلاد المفتوحة دعوة الإسلام, وصارت حاملة لرايته, فترى المصري والليبي والسوداني والسوري والمغربي والتركي والإيراني والباكستاني والماليزي والإندونيسي, والموريتاني والصومالي, ترى كل هؤلاء حملة للإسلام وجزءا منه, قد دخلوا في دين الله أفواجا, فسبحان الله وبحمده, نستغفره ونتوب إليه.
ولعل هذا يبين معنى استخلاف الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الأرض, ليبلغوا للناس رسالته ودينه الحق.
نحن أمة مبلّغة, (يا أيها النبي بلّغ ما أنزل إليك من ربك, وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته), (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة, وجادلهم بالتي هي أحسن) (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا, وقال إنني من المسلمين), بصرف النظر عن قبول الناس لهداية الله, أو رفضهم لها (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء). ومن يمنعنا عن هذه المهمة, فعلينا ألا ندع له فرصة إعاقتنا عن أداء هذه المسئولية الإعلامية الهادية المبلّغة عن ربّ العزّة ربّ العالمين. وبعد ذلك فلا إكراه في الدين.
وسورة إبراهيم, كتاب حكيم يبين منهاج القرآن في إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. وفيها يبين الله مهمة الجماعة المسلمة, ومهمة المسلم الفرد في تبليغ الدعوة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
وهو كتاب موجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإلى الدعاة المسئولين عن دين الله من بعده, (كتاب أنزلناه إليك…)
تكررت كلمة الأرض في السورة إحدى عشرة مرة, وكلمة الناس ست مرات. وهي من أكثر السور كثافة لهاتين الكلمتين, بحساب عدد آياتها وطولها بالنسبة لغيرها من السور.
(ألر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ …)
والسورة تبدأ ب(ألر) وهي الحروف التي بدأت بها مجموعة سور الحكمة, (يونس, هود, يوسف, الحجر) والحكمة لها صفة التكرير في كل زمان وفي كل مكان. وأسلوب الانتشار بالدعوة لتخرج الناس من الظلمات إلى النور, وما يقابل الدعاة في كل أرض وزمان هو نفسه يتكرر دائما. فيبينه الله في سورة إبراهيم, ويبين ما يواجه الدعوة إلى الله في بلاد جديدة وما يواجه الدعاة, ويبين كيفية تطوير الناس من حالة الجهل التام والكفر الجاهل, إلى حالة الإيمان على بصيرة.
وبالتالي فالسورة فيها حكمة منهاج الدعوة للناس كل الناس في الأرض كل الأرض, وفي الزمان كل الزمان. بل قل: هي كتاب أنزله الله إلى رسوله وإلى الأمة من بعده, ليبين لهم منهاج إخراج الناس من الظلمات إلى النور, والانتشار بالدعوة للعالمين, بعد أن استقر لها الأمر في بلدها.
وأتصور أن السور التي تفتتح بكلمة (كتاب) أو (تلك آيات الكتاب) أو (ذلك الكتاب) هي في نفسها كتاب مختص في موضوع السورة, فسورة إبراهيم (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور), وسورة البقرة (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين), وسورة يوسف(تلك آيات الكتاب المبين) ضمن مجموعة الحكمة يبين الله فيها إعداد الحكيم وإصلاح الناس به, وهكذا.
في فاتحة السورة, يُحمّل الله رسوله صلّى الله عليه وسلم, ويحمّل أمته من بعده مسئولية الناس وإخراجهم من ظلمات الكفر المتعددة, إلى النور الهادي بإذن ربهم, إلى صراط العزيز الحميد, إلى الصراط الذي يوصّل إلى العزة, وإلى الحمد, بالاعتراف بنعم الله فلا يتكبر إنسان بلغه هذا النور, بنعمة أنعم الله بها عليه, ولكنه دائما يقرّ لله بالفضل والنعمة, ويتجرد ويتخلّى عن حوله وقوته إلى حول الله وقوته, فلا يستكبر ولا يكفر النعمة ولا يكفر بالمنعم الحميد سبحانه وتعالى.
عندئذ, يستطيع الإنسان أن يستثمر نعم الله وفضله, فباعترافه أن النعمة من الله, سوف يعمل فيها بما يرضي الله, ويستفيد بها ويفيد.
والناس أمام دعوة الحق قد يسمعون فيقتنع بعضهم ويهتدي بعضهم, ويعترض بعضهم. وكل هذه أمور طبيعية. وطالما كان الحوار مستمرا, وكانت الفرصة مفتوحة أمام العقول الحرة في التفكير والتدبّر والمناقشة, فإن الطريق إلى معرفة الله مفتوح, والهداية بأمر الله قريبة.
أما الذين رفضوا النور, فكانوا كافرين حاجبين له, معادين وواقفين له بالمرصاد, فيحذرهم الله من ويل ومن عذاب شديد في الآخرة.
وهناك أسباب لهذا الرفض والكفر:
- أنهم يستحبّون ويفضّلون الحياة الدنيا على الآخرة,
- ولا يكتفون بالحياة سُدى دون تكليف ولا حساب ولا جزاء, ولكن تأثيرهم يمتد إلى عموم الناس, فيصدون عن سبيل الله,
- ويبغونها عوجا, فيبعدون عن الاستقامة والنور الذي أنزله الله على رسوله,
… أولئك في ضلال بعيد.
هذه النوعيات من الناس, سوف يقابلها الداعية في أي بلد سيذهب إليها, ناس رافضون للنور, لا يكتفون بأن ينعزلوا عن دعوة الحق والالتزام بها, ولكنهم يحاولون الصدّ والعوج, أولئك دواؤهم التهديد بالويل في الآخرة والعذاب الشديد, وهؤلاء هم زعماء الكفر وأئمته, وهؤلاء هم اللهبيون, أي على شاكلة أبي لهب الذي أنزل الله فيه سورة في بدايات التنزيل, لا يقتصر أثرها عليه, ولكنه يمتد لكل من عارض الدعوة في بدايتها, بعد أن تبين له الحق, ولم يكتف بالمعارضة في نفسه ولكنه خرج بها إلى الناس يصدهم عن سبيل الله ويبغيها عوجا.
(..وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
وحيث أن الدعوة عامة لكل الناس, على اختلاف أشكالهم وألسنتهم وألوانهم, فإن كل قوم من الناس يحتاجون إلى رسول بلسانهم ليبين لهم.
إن سنّة الله في تبليغ دعوته, أن يرسل إلى كل قوم رسولا بلسانهم, ليبين لهم.
وحين ختم الله الأنبياء والرسل بخاتمهم محمّد صلّى الله عليه وسلم, فأرسله للناس عامة, فإن المسلمين باعتبارهم ورثة الكتاب من بعده, مسئولون عن تبليغ دعوة الله ورسالته إلى كل الناس, وعليهم أن يجهزوا في كل قوم من الناس, من يدعوهم بلسانهم.
والأفضل أن يبحث المسلمون عن واحد من أهل كل بلد, يعلم لغتهم ومشاعرهم وعاداتهم وتقاليدهم. فيقوم المسلمون بتعليمه الكتاب, وتأهيله للدعوة, ثم يُرسَل إلى قومه ليبين لهم.
فإن لم يجد المسلمون من أهل أي بلد من يهتدي, فإن عليهم أن يؤهلوا واحدا منهم بلسان كل قوم من الناس في كل الأرض يتعلم لغتهم, حتى يتولى أعباء الدعوة إلى الله, وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
وبناء على هذه الآيات, وهذا التكليف من الله, أتصور أن الدول الإسلامية عليها أن تكلِّف ملحقين في كل بلد من بلاد العالم, للعمل في بيان دين الله, والدعوة إليه بين الناس, والرد على شبهات واتهامات الجاهلين, والكتابة في الصحف والمجلات, وعقد الندوات والاجتماعات, ودعوة العلماء المتخصصين في الدعوة لمؤتمرات ليبينوا للناس ما نزّل إليهم.
ربما يتكلف بهذه المهمة وزارات الأوقاف أو الأزهر في مصر, إلا أن ما يكلف به المكلَّفون غالبا ما يقتصر على إرسال أو انتداب أحد السادة المشايخ القراء في شهر رمضان والمناسبات, ليقرأ في تجمّعات المسلمين في بعض البلاد, وربما يرد على تساؤلاتهم التقليدية في الفقه والمعاملات. غير أن الذي أتصوره وأدعو إليه أن تكون المهمة هي التعريف بدين الله للمسلمين وأبنائهم, ولغير المسلمين أيضا, وللتواجد الدائم في تلك البلاد, تماما كما نروّج لسلعنا واقتصادنا, وكما أن لنا ملحقية تجارية, وملحقية ثقافية.
إن السلعة الثقافية التي ينبغي أن نحملها للعالم هي دين الله الإسلام, والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة, وينفق عليها من أموال المسلمين, من أوقافهم, ومن صدقاتهم, وربما يُفتي المُفتون بأنها أحد مصارف الزكاة, ويؤهل لها أفضل الدعاة, بلسان كل قوم يُرسلون إليهم.
إننا نسمع ونرى جهودا لعلماء المسلمين وأفرادهم في هذا الاتجاه, مثل تجمّع (كير) في الولايات المتحدة, والذي يتولى توضيح صورة الإسلام والردّ على الشبهات هناك, ولهم نشاط على شبكات الإنترنت. ولكن الذي أتصوره أن يكون ذلك واجبا من واجبات الدولة, وأن يتم بشكل مخطط آخذا منهاجا محددا بينه الله في كتابه, ولم يتركنا نبتدعه.
لقد أدت الإرساليات التبشيرية المسيحية واجبات ضخمة تجاه عقيدتها في شكل مدارس الراهبات والإرساليات الأجنبية فب بلاد المسلمين, فلماذا لا يؤدي المسلمون هذا الواجب؟
ولماذا لا يخرج أصحاب المدارس الإسلامية من الحدود المحلية في مصر مثلا, إلى الآفاق العالمية, على سبيل استثمار خبراتهم وكوادرهم ومناهجهم فيؤسسون مدارس في أوربا وأمريكا واليابان والصين, بتراخيص رسمية, لتعليم المناهج المحلية في تلك البلاد, مع اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي والعقيدة, ويكون مشروعا استثماريا يدرّ بإذن الله عائد لهم, في نفس الوقت الذي يؤدي واجب نشر دين الله في الأرض؟
إن العالم الذي يبلغ تعداده أكثر من ستة مليارات نسَمة في بدايات القرن الحادي والعشرين, فيه حوالي مليار وثلاثمائة مليون مسلم, أي أن هناك مسلما بين كل خمسة من الناس, أو بعبارة أخرى؛ فإن كل مسلم مسئول عن نشر دين الله بين أربعة من البشر, وتعريفهم بالله وبكتبه ورسله واليوم الآخر, فإذا قصّر البعض عن دوره, قام به الباقون, وبعد ذلك فمنهم إلى الله, من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
وبذلك يكون كل مسلم رسولا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الناس… يدعوهم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد..
لقد اطلعت على نشاط تركي في شكل خدمات تعليمية في أنحاء تركيا, وبدأ في الانتشار في بلاد العالم, في شكل المدرسة التركية, والتي تهتم بالأطفال, وتأخذ المناهج التعليمية المعتادة في كل بلد, وتضيف عليها دروس العقيدة والشريعة والمعاملات, كما تكون محورا للإنفاق على الفقراء, والأندية الصيفية للشباب, والذبح في عيد الأضحى وتوزيع لحوم الأضاحي على قوائم المحتاجين في أنحاء البلاد, والاحتفال بشهر رمضان, بقيام ليله, ونشر سننه, يترأسها أحد الشباب الذين يؤهلون على مستوى راق, ويتفوقون, ويتعلمون لغة تلك البلاد, أو يكونون من مواطنيها المسلمين, وتأخذ الشكل الرسمي في كل دولة, وتُجمع لها التبرعات والتمويل اللازم من أهل الخير من المسلمين,
وما يرجوه المؤمن أن يجد هذه الأعمال العظيمة متكررة ومنتشرة تستهدف حمل جزء من مسئولية رسول الله صلّي الله عليه وسلم, والتي كلفه الله بها, وكلفنا من بعده, وتأخذ مناهجها في الحركة من القرآن الكريم, الذي يحوي كل ما يمكن عمله في هذا الاتجاه, بهدي الله وحكمته ومنهاجه.
وما أحاول أن أصل إليه من هدْي الله هو المنهاج الحركي خطوة خطوة في تأدية هذه المهمّة بالشكل الذي هدى الله إليه, والذي أتصور أن سورة إبراهيم كتاب في ذلك, موجه إلى الدعاة لتأهيلهم لهذه المهمّة, تتلوها سورة الأنبياء فسورة المؤمنون, وما ييسّر الله من كتابه, هذا جنبا إلى جنب مع هداية الله في كل كتابه العزيز, وإنما نأخذ ما فهمناه من مطلع سورة إبراهيم ومكانتها في ترتيب نزول سور القرآن في منهاج بناء الحضارة الإنسانية. وسورة إبراهيم بداية مرحلة جديدة في هذا المنهاج, مرحلة الخروج بدعوة الله إلى العالمين, لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
وبعد أن يؤدي المسلمون واجبهم تجاه دعوة الناس إلى الله, فإن عزّة الله وحكمته تحدد من يضل ومن يهدي..وهو العزيز الحكيم سبحانه وتعالى.
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4))
شكر الدعاة
والخبرة العملية التي حدثت في التاريخ, والعبرة التي يعلمنا الله من هذه السورة, تتمثل في القصص, اختار الله منه قصة موسى عليه السلام حيث كلفه أيضا بأن يخرج قومه من الظلمات إلى النور, وأن يكلفهم بمهام الدعوة إلى دين الله شكرا لله على أن أنجاهم من آل فرعون, وهداهم, وشكرا له سبحانه على الهداية, وعلى اختصاصهم وتفضيلهم على العالمين كحملة لرسالة الله.
ولله على الناس أمام كل نعمة أنعمها عليهم, أن يؤدوا حقها ويشكروه عليها, باستثمارها في طاعته, وتعميم نفعها على الناس.
وكذلك فإن من أرسل الله إليهم رسله وهداهم إليه صراطا مستقيما, عليهم أن يتولوا مسئولية تبليغ رسالة الله إلى بقية الناس, كشكر لله على هذه النعمة، وإن كفروا إن عذاب الله لشديد, وهو سبحانه الغني الحميد.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
وأمام نعمة الله على بني إسرائيل بهدايتهم, طلب منهم موسى عليه السلام أن يشكروا الله عليها, ويؤدوا حقها: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
فإن قصّر هؤلاء في أداء مهمتهم شكرا لله, فسوف يتم الله نوره ولو كره الكافرون, ولو قصّر عباده في أداء مهمتهم, فإن الله لغني حميد,.
(وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
طريق الدعاة صعب, ولكنّ الله معهم:
إن طريق الدعاة إلى الله ليس مفروشا بالورود, ولكنه مليء بالأشواك والمخاطر, فليس سهلا ولا هينا أن يتنازل إنسان عن عقيدته التي تربّي ونشأ عليها, يتلقاها من آبائه ومجتمعه ويعتاد عليها ويتحمس لها, ولا يقبل أن يطلب منه أحد أن يغيرها, حيث سيكون في قبوله طعن في معتقدات آبائه الأولين.
لذا فإنك حين تخرج بعقيدتك إلى الناس كل الناس, في مهمة يكلفك الله بها بموجب نعمته عليك بالهداية, لتشكر الله على هذه النعمة, فسوف تلاقي المعارضين والمستهزئين والمجرمين والمتوعّدين. وهذا هو ما حدث ويحدث لكل صاحب دعوة إلى الحق, وعلى رأسهم رسل الله
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ
● جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
o فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
● قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
o قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
● قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
o وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا
● فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
حوار يستعرض الرسل فيه البينات التي جاءوا بها لقومهم, فرفضها الذين كفروا منهم ووقفوا لها بالمرصاد, فيدعوهم الرسل ليغفر الله لهم من ذنوبهم فأبوا. وهددهم الذين كفروا بالإخراج من أرضهم, فطمأنهم الله وتعهد بإهلاك الظالمين, وأوحى إلى الرسل والمؤمنين معهم بأن يسكنهم الأرض من بعدهم.
وهذه طمأنة لرسول الله, وللدعاة من بعده إلى يوم القيامة, أنهم سيتعرضون للإيذاء من قومهم, والتهديد بالإخراج من الأرض, ولكن النصر في النهاية سيكون حليف المؤمنين.
وهذا ما حدث لرسول الله صلّى الله عليه وسلم, حيث أخرجه الذين كفروا من أرضه مكة, ولكن الله أهلك الذين كفروا, وأسكن المؤمنين الأرض من بعدهم إلى يومنا هذا.
إن أحفاد أبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وكفار قريش, هم الذين يرفعون اليوم راية دين الله, ويأمّون الناس في الحرمين بمكة والمدينة, سكنوا الأرض من بعدهم, ذلك لمن خاف مقام الله وخاف وعيده.
وهذه عقبة في سبيل الدعوة يتعرض لها الدعاة إلى الله, حين يضجر منهم الذين كفروا, ولا يجدون أمام الحق الذي جاءهم سوى أن يخرجوا من أرضهم, الأنبياء والرسل والدعاة على هداهم.
والظلمات التي يغرق فيها الناس, يتزعمها أحد هذه الأصناف:
- من يعاندون الرسل, من الجبارين المعاندين,
- أو الضعفاء الذين انقادوا دون عقل إلى الذين استكبروا,
- أو الشيطان نفسه. ….
- أوالذين بدّلوا نعمة الله كفرا, وأحلوا قومهم دار البوار..
- أوالظالمون,
- أوالمجرمون
فيستعرض الله مصير كل فئة منهم..
إن الناس أمام دعوة الحق, ينقسمون إلى أقسام: فمنهم من يستجيب فورا, ومنهم من يعادي فورا, ومنهم الغافلون.
وفي سورة إبراهيم, يبين الله موقف الجبارين المعاندين, وموقف المستكبرين, ومن اتبعوهم, وموقف الشيطان ومن اتبعه, وموقف الذين بدلوا نعمة الله كفرا, وموقف الظالمين ومن سكنوا في مساكنهم, وموقف المجرمين.
وعلى الجانب الآخر, يبين موقف الرسل والذين آمنوا معهم
أما الغافلون, وهم أغلب الناس, فسيأتي ذكرهم في سورة الأنبياء التالية لسورة إبراهيم بترتيب النزول.
وكما جاءت سورة المسد في بداية مواجهة الناس ودعوتهم لهداية الله, لتفرز الظالمين المعاندين للحق أولا, ثم تلتها في مواجهة الناس سورة التكوير لتنبه الغافلين الجاهلين الذين تكون الغفلة والجهل سببا في ضلالهم, ثم تلتها سورة الليل تبين شأن (… الأتقى, الذي يؤتي ماله يتزكي, وما لأحد عنده من نعمة تُجزى, إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى, ولسوف يرضى), كما جاءت هذه السور تبين منهاج وخطوات دعوة الناس في مكة, أو قل في البلد التي يعيش فيها الداعية, في قريته مع قومه, فإن سورة إبراهيم التي يخرج الله بها الدعاة من بلاد يعيشون فيها, إلى كل بلاد الدنيا, يدعون الناس كل الناس, بعد أن كانوا يقتصرون على دعوة قومهم. كذلك تأتي سورة الأنبياء ليبين الله بها منهاج مواجهة الناس الذين يعرضون عن دين الله, بسبب غفلة, أو جهل أو استكبار, أو فسوق, فتعالج كل هذه الأسباب كما سيتضح بإذن الله في مدارسة السورة.
وهنا في سورة إبراهيم, تأتي تفاصيل القصص لتخدم موضوع السورة, كما يحدث دائما في كل القرآن.
o يمثل موسى عليه السلام مرحلة تكليف الله الداعية بإخراج قومه من الظلمات إلى النور, لإعدادهم لنشر الدعوة خارج بلادهم وأوطانهم, إلى العالمين, شكرا لله على نعمته عليهم.
o ويمثل إبراهيم عليه السلام مرحلة الداعية الفرد, الذي يكلف بالخروج بالدعوة خارج نطاق المحلية إلى الإقليمية, ودعوته لواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم, وتمنياته لنفسه و لبنيه وللأمة الإسلامية من بعده.
وربما يكون ذلك هو السبب في أن تأتي قصة موسى قبل قصة إبراهيم عليهما السلام. فالداعية لابد أن يبدأ مع قومه, فإذا هداهم الله أو فريقا منهم, فإنه يذكرهم بنعمة الله عليهم بالهداية, وبأن شكر هذه النعمة يحتّم عليهم الخروج بها إلى هداية الناس في العالمين, ثم بعد ذلك يخرج كل واحد منهم فعلا, فيتحرك بين القرى والمدن في البلد التي يدعو فيها إلى الله, تماما كما فعل إبراهيم, الذي خرج عن نطاق المحلية إلى الإقليمية, فشملت دعوته العراق والشام ومصر وجزيرة العرب.
وأهم ما يتعلمه الداعية, أنه سيواجه نوعيات من الناس التي تترصّد له, وتحاول أن تثنيه عن عزيمته, وتتجه إلى الناس في محاولة لتفريقهم من حوله, بل ربما يحاربه مباشرة.
وقبل أن يلتقي الداعية مع عامة الناس ليبلغهم رسالة ربهم, فإنه يتعلم كيف يواجه من يعاديه ويعانده, وهذا ممّا يبينه كتاب سورة إبراهيم…
ولبندأ مع منهاج سورة إبراهيم في مواجهة نوعيات الناس الواقفين أمام دعوة الله والمعادين لها.. - أول من يعاند الدعاة إلى الله، كل جبار عنيد:
يبدأ الله الحرب على الجبارين الذين كفروا, بإنذارهم بما سيحدث لهم يوم القيامة
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
ولا يتحصل الجبارون المعاندون على شيء من أعمالهم الإجرامية المعادية لدعوة الحق ودعاته. كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف. هو رماد لا فائدة فيه, وقد ذهب هباء أمام ريح اشتدت به في يوم عاصف. - ثم الضعفاء التابعون للذين استكبروا:
ثم يتبع الضعفاء سبيل الجبارين الذين استكبروا, فيبين الله للفئتين أن كلا منهما ستتبرأ من الفئة الأخرى, والمصائب تنتظرهم جميعا ..
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) - ثم الذين استجابوا للشيطان:
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) - الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الفائزون:
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
ومن رحمة الله بالناس, أن يبين لهم مصائرهم التي سيواجهونها يوم القيامة, يبينها لهم الآن في الدنيا, حتى لا يفاجأون, وحتى يراجع كل منهم نفسه, ويعود إلى صوابه, قبل يوم الحساب. - زراعة كلمة التوحيد:
لا ييأس الداعية من تأخر نتائج سعيه, فهو لا يعمل من أجل النتائج, ولكنه يعمل استجابة لأمر الله, ويسلم عمله المخلص لله رب العالمين, وكل كلمة طيبة ينطقها ويبلغها, يتولاها الله بالرعاية والإنبات والزراعة حتى تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها, حتى بعد أن تنتهي حياة الداعية, فالله باق, ومتمّ نوره ولو كره الكافرون, فسلاح الدعاة كلمة طيبة, كلمة التوحيد, لا إله إلا الله, يقولونها ويعملون بها, فتكون كشجرة طيبة, يزرعونها فيتولاها الله بالرعاية فتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
إن كلمة التوحيد التي دعا بها وإليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام, ظلت وستظل تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها, حين يدعو بها وإليها داع في أية أرض, تظل القلوب تهتدي إليه جيلا وراء جيل, حتى بلغ عدد من يلتزمونها في العالم أكثر من مليار وثلاثمائة مليون مسلم في بداية القرن الحادي والعشرين, ويتزايدون كل يوم, حيث تؤتي الكلمة الطيبة أكلها لهم وبهم, كل حين بإذن ربها.
وهي كلمة تستمد أصلها من الله, فأصلها ثابت, ولا تكتفي بذلك الأصل, ولكن لها فرع في السماء, ولها بعد ذلك ثمرات, ليست منظرا فقط, ولكن لها أُكُل, يستفيد منها من شاء الله له الاستفادة, فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
- زراعة كلمة الكفر:
أما كلمة الكفر, فإن قائلها يزرع شجرة خبيثة, لا قرار لها. فأين ما زرع أئمة الكفر, وأين ما زرعت الشيوعية من أقاويل وكلمات وشعارات, إنها اجتثت من فوق الأرض بعد سقوط الاتحاد السوفييتي, وكذلك كل دعوة بالكفر..
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة, إنك تفعل ما تشاء. - الذين بدلوا نعمة الله كفرا:
ومن الظلمات ما قد يحدث من بعض ممن أنعم الله عليهم بالهداية, ثم هم يبدّلون نعمة الله كفرا, وأمثلتهم كثيرة في عالمنا,
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
ومن هؤلاء: الذين تعلموا في بلادهم, ثم أُرسلوا في بعثات خارج بلادهم, ربما على حساب المجتمع, ثم هم يتنكرون له, وينفصلون عنه, بل يأتونه بثقافات مخالفة لدينهم وعقيدتهم, ويحاولون تبديل ما أنعم الله عليهم من الهدى والحق والنور, إلى الضلالة والباطل والظلام, إلى الكفر. وبدلا من أن يشكروا الله ويكبروه على ماهداهم, فإنهم يحلّون قومهم دار البوار.
ومنهم الذين أنعم الله عليهم بالوصول إلى مراكز قيادية في قومهم, ثم هم يحكمون بغير ما أنزل الله, ويكون لهم تأثير بالغ في قومهم, فهم يحلونهم دار البوار.
ومنهم الذين أنعم الله عليهم بالمال, فاستعملوه في الضلال والفجور ونصرة الباطل على الحق, وإنفاق المال في محاربة الله ورسوله ودعوته الحق.
ومنهم الذين أنعم الله عليهم بالثقافة, ومنابرها من صحف وقنوات فضائية وأجهزة إعلام, فاستعملوها في غير ما يرضي الله, فأحلوا قومهم دار البوار.
… والأمثلة كثيرة لا تُحصى..
- واجبات عباد الله الذين آمنوا:
أما عباد الله الذين آمنوا, فيحذرهم الله من سلوك نفس المسالك, ويأمرهم أن يستمسكوا بما أنعم الله به عليهم من الهداية, أو من المال أو الثقافة أو السلطة أو الشهرة, أو أي نعم, وأن يستثمروها في الدعوة إلى الله فيُمسّكون بالكتاب.. (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) - تذكير بنعم الله للبعد عن الظلم والكفر
يعلمنا الله كيف نأخذ وسيلة من بيان قدرات الله ونعمه على الناس, كمدخل لمعالجة المعاندين الكافرين, ولتذكير الناس بنعمة الله, فلا يستجيبون لدعاة الكفر والشرك والضلال..
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
أمام هذه النعم, على المؤمنين أن يستثمروها في الدعوة إلى سبيل الله, وللفت أنظار الناس إلى هذه النعم. واستخدام الفلك التي سخرها الله لتجري في البحر بأمره, فيركبونها في طريقهم إلى الناس في كل مكان لا يعيقهم بحار ولا محيطات.
والمؤمنون يستثمرون الليل والنهار وكل النعم في إقامة العدل والإيمان بين الناس, وإبلاغهم رسالة الله, وتوجيه أنظارهم لنعم الله كمدخل للبعد عن الظلم والكفر.
- دعوة إبراهيم: كيف يتصرف الداعية الفرد في المنطقة التي يدعو فيها؟
كانت سنة الله في أنبيائه ورسله, أن يرسل في كل قرية نذيرا.
ومنذ رسالة إبراهيم, تحرك عليه السلام بدعوة الله بين العراق والشام ومصر وجزيرة العرب. أي دعوة إقليمية, وليست دعوة محلية. ولم تقتصر دعوته على بلدة واحدة.
ولتأهيل رسول الله صلّى الله عليه وسلم, وتأهيل المسلمين من بعده, لمهمة نشر دعوة الله وإخراج الناس من الظلمات إلى النور, ضرب الله مثلا من قصة إبراهيم عليه السلام, كيف يتحرك الداعية الفرد في أرض جديدة لم يدخلها الإسلام بعد. ويمثل إبراهيم عليه السلام الأسوة الحسنة في حركة الداعية الفرد…
● (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا): إن إبراهيم عليه السلام يطلب أمن البلد أولا, وهذا يماثل ما ذكّر موسى عليه السلام به قومه, أن الله أنجاهم من آل فرعون, ومقابل ذلك, عليهم أن يشكروا الله, بعملهم في حمل دعوته سبحانه إلى الناس, فبدون أمن البلد لا تصلح دعوة ولا طاعة, ويبدو من ذلك أن الأمن العام أساس في الدعوة يحرص عليه الدعاة إلى الله, حتى يتمكن الناس من تلقّي هداية الله.
● (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (35) ثم أن يجنبه الله أن يقع هو أو أبناؤه في عبادة الأصنام. وجاءت هذه الدعوة بعد أمن البلد
● (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) يتشفع لمن تبعه, بأن الأصنام أضلت كثيرا من الناس, فمن نجا من تأثيرها فهو على ملة إبراهيم, ..
● (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (36) ومن عصا إبراهيم عليه السلام, فإنه يستجدي مغفرة الله ورحمته له, حيث أن تأثير الأصنام كبير على كثير من الناس, وربما يكون ذلك ليعطي للعصاة فرصا أخرى للطاعة والعودة إلى طريق الله وهدايته. وقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم كذلك (فبما رحمة من الله لنت لهم, ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) , يسأل الله لهم الهداية ولا يستعدي الله عليهم, فقد يخلق الله منهم من يوحّد الله. كذلك ينبغي أن يكون الداعية في مراحل دعوته الأولى, رقيقا رفيقا بالناس, يختلق لهم الأعذار, ويسأل الله لهم الهداية والمغفرة والرحمة والحلم عسى أن يهديهم الله.
● (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) كان إبراهيم عليه السلام رائدا في دعوته, يصل إلى واد غير ذي زرع, ويسكن فيها من ذريته, رغم صعوبة الظروف وعدم توافر الماء والزرع, ولكنه بطاعته لله, وسعيه لنشر دينه ودعوته وهدايته, يخوض الصعاب ويسأل الله العون
● (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) دعوة الله لابد أن تلتف حول الصلاة, يقيمها الدعاة إلى الله, ويتجمع الناس حولها, لذا لابد أن يحرص الدعاة في غير بلاد المسملين على أن يكون لهم مسجد يقيمون فيه الصلاة..
● (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)
● (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ)
● (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (37)
● رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)
وقد يبدأ داعية إلى الله في بلد؛ المعيشة فيها شاقة, سواء كانت المعيشة بمعناها البشري من طعام وشراب ومؤونة, أو كانت شاقة في مواجهة الناس بوادٍ غير ذي إيمان, فليتذكر إبراهيم عليه السلام, وهو يبدأ في مكة في واد غير ذي زرع, وكيف استجاب الله لدعوته, فتجد في مكة كل أنواع وأصناف الثمرات من كل أرجاء الدنيا, وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء. فلم تنقطع استجابة الله سبحانه لدعوة إبراهيم يوما من الأيام, ولكنها استمرت في تدفق الأفئدة تهوي إلى أهل هذا الوادي, والثمرات يرزقهم الله بها لعلهم يشكرون.
استثمار السياحة في التعريف بدين الله, وأداء مسئولية الدعوة إليه:
إن هذه أيضا وسيلة لنشر دين الله, أن يُستقدم الناس إلى بلاد المسلمين, بأن يجعل الله فيها ما تهوي إليه الأفئدة, فحين يقدمون, تخطط لهم برامج لبيان دين الله. في الحقيقة أننا نفعل ذلك مع الأجانب حين يأتون إلى مصر تهوي إليها أفئدتهم لأسباب متعددة, التاريخ القديم, العمل, الترفيه, الشواطئ والجو المعتدل, السياحة العلاجية, المصالح.. وغير ذلك, ولكننا نتركهم كما هم, وربما أساء بعض الناس التصرف مع الأجانب حتى ليتركون انطباعات سيئة عندهم عن بلادنا وعاداتنا ويظنون أن كل الناس مثل أولئلك المسيئين, كما أننا نكلف من يشرح للأجانب تاريخنا القديم والأسر الحاكمة, وربما تاريخ بناء المساجد والكنائس, وغير ذلك, فهلا كلفنا من يشرح لهم التاريخ الإسلامي وأخلاق النبي وآدابه والأسوة الحسنة فيه صلّى الله عليه وسلم! والله إنه لمن الواجبات التي سيسألنا الله عنها (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) وقد أنزل إلينا الكتاب لنخرج الناس من الظلمات إلى النور. إن هذا لو حدث, لابد أن يكلف به المؤهلون من المسلمين بالحكمة والموعظة الحسنة, وأن يُدعى الأجانب غير المسلمين إلى اجتماعات ودعوات ضمن برامجهم السياحية, يتعرفون بها بالحكمة والموعظة الحسنة على الإسلام وهديه, يؤهل لذلك خير الدعاة, بلسان القوم ليبين لهم.
استثمار نعمة الأولاد والأحفاد:
إن إبراهيم عليه السلام يبدأ بذكر فضل الله عليه ونعمته بأن وهب له على الكبر إسماعيل وإسحاق, فيحمد الله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
وأمام هذه النعمة, يشكر إبراهيم عليه السلام ربّه, ويستثمر نعمته في الدعوة إليه, والالتزام بها, لا لنفسه فقط, ولكن لدعوة الناس وإقامة الصلاة فيهم: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ…) بل ويخطط لاستمرار الدعوة في ذريته, ويستعين بالله بالدعاء (.. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) ويعمم الدعاء لنفسه ولوالديه وللمؤمنين, فالحمد لله الذي ألهم إبراهيم خليله عليه السلام, أن يدعو الله لنا أجمعين, وأن يستغفر الله لنفسه, ولوالديه وللمؤمنين, وأن يعلمنا الله به كيف نتذكر أصحاب الفضل علينا, بدءا من آبائنا, وأن نتذكر بالخير والاستغفار إخواننا من المؤمنين, فنستغفر الله لنا ولهم, فلا ندري لمن سيستجيب الله, فتعم إستجابته على من يشاء من الناس (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
وكما وهب الله لإبراهيم على الكبر إسماعيل وإسحاق, استجابة لدعوته عليهم جميعا السلام, فإن الله سبحانه قد استمر في الاستجابة لدعوة إبراهيم, فوهب لرسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم أمة من المسلمين.., (ماكان محمد أبا أحد من رجالكم , ولكن رسول الله وخاتم النبيين) هذه الأمة تستمر في حمل دعوة الله إلى الناس, يقيمون فيهم الصلاة, تماما كما كان من إسماعيل وإسحاق ولدي إبراهيم عليهم جميعا الصلاة والسلام.
- الذين ظلموا
أما حملة ألوية الظلمات, فإن الله ليس بغافل عنهم, إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار..
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
وينذر الله الناس أن يحذوا حذو الظالمين, حيث لا تنفعهم معذرتهم, ولا يعطيهم الله فرصا أخرى. فقد جاءتهم الرسل بدعوة الله فأضاعوا أعمارهم في معارضتهم والظن بأن ما لهم من زوال, ولم يتعظوا بما حدث للذين من قبلهم….
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
- لا يخلف الله وعده لرسله بالنصر, ووعيده للمجرمين واقع, إن الله سريع الحساب..
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
وفي السورة بلاغ للناس, وذكرى لأولي الألباب, بالحكمة التي فيها
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
…. ,,,,,, ,,,,,
وتلخيصا, فإنه بعد بناء الأمة المسلمة وحضارتها على أساس من الإخلاص, والمشاركة والقيادة وإدارة الأزمات, ثم الحكمة وفصل الخطاب, وتحديد قواعد العمل, وتنفيذها إخلاصا لله, بعد كل ذلك, تبدأ الدولة المسلمة في التوجه لدول أخرى, ولأفراد آخرين لتخرجهم من الظلمات إلى النور.
يواجهها أعداء متربصون, منهم الكافرون, الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة, ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا. ومنهم الذين استكبروا, ومنهم الضعفاء الذين يتبعونهم, وكل جبار عنيد, والمجرمون, والشيطان وأتباعه.
يجهّز المسلمون أنفسهم للدعوة إلى الناس, بإعداد رسل منهم, ويؤهل كل رسول بلسان قومه ليبين لهم, ويتوقعون ملاقاة المعاندين والمتربصين, وهم يعلمون أن وعد الله حق, وأنه سيهلك الظالمين, ويسكن المؤمنين الأرض من بعدهم.
والمسلمون يرثون هذه المسئولية من بني إسرائيل الذين كلفهم الله بمهمة حمل دعوته للناس, ويرثونها من إبراهيم عليه السلام, بعد أن بدأ في الحركة بدعوة الله في المنطقة كلها, بين العراق والشام ومصر وجزيرة العرب, وسأل الله أن يجعل من ذريته من يحمل هذه الدعوة.
ويزيد الله مسئولية المسلمين على بني إسرائيل وعلى أبيهم إبراهيم, بأن جعل مسئوليتهم تشمل الناس كل الناس في الزمان كل الزمان, وفي الأرض كل الأرض, ولا تقف عند حدود المحلية, ولا عند حدود الإقليمية.
ويستثمر المسلمون هوى أفئدة بعض الناس في بلادنا والسياحة عندنا لأي سبب, بأن يتأهلوا للحديث مع القوم, بلسانهم ليبينوا لهم, ويعرضوا عليهم دين الله وسماحته وحكمته, ويضربون لهم الأسوة الحسنة في المسلمين, ولا يتركونهم للمسيئين الذين ينفرونهم من الدين ومن البلاد والعباد.
وسلاح الدعوة كلمة طيبة, تستمد أصلها من الله, وتمد فرعها في السماء, وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
… تقف أمامها معاندة, كلمة خبيثة ما لها من قرار.
(هذا بلاغ للناس, وليُنذَروا به, وليعلموا أنما هو إله واحد, وليذكر أولوا الألباب)
فالإله الواحد له سنن واحدة لا تتبدل ولا تتغير, وهو يعلّم أولي الألباب, الذين يستخلصون لُب الحكمة ولُبّ السنن التي حدثت في الأولين, لكي يقتدوا بها, ولكي لا يبدأ كل جيل من الصفر, وإنما يبني على ما سبقه من خبرات, ويستشف ويستقرئ سنن الله في خلقه.
هذا كتاب الحكمة في دعوة الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم.
بارك الله لنا في القرآن, وعلمنا فهمه وتدبره, ووفقنا للعمل به منهاجا لا يقف عن جيل, وإنما يمتد إلى يوم القيامة, ويمتد إلى العالمين.
وجعلنا الله من رسوله, بمكانة إسماعيل وإسحاق من إبراهيم, وبمكانة الأمة التي تبلغ رسالته- كما أراد الله لها- للعالمين.