استمرّ القرآن يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم, أكثر من إثني عشرة سنة في مكة المكرّمة, أنزل الله فيها إحدى وسبعين سورة بدءا من (اقرأ باسم ربك الذي خلق) إلى سورة نوح, تنزلت بالهدى ودين الحق, تخاطب العقل مرة, والقلب مرة, تسرد التاريخ, وتبين المستقبل, وتلفت الأنظار إلى آيات الله الكونية, وآياته القرآنية. فآمن من آمن, وبقي على شركه وكفره من بقي.
وإلى هؤلاء الذين لم تستجب قلوبهم وعقولهم إلى دعوة الله طيلة كل هذه السنين, ينزّل الله مجموعة من خمس عشرة سورة تمثل منهاجا لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. بدءا من سورة إبراهيم, إلى سورة المطففين, آخر ما نزل في مكة المكرمة قبل هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
انضمت هذه المجموعة من السور في كتاب أنزله الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور, افتتحها بسورة إبراهيم عليه السلام ((ألر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1))
إن هذا المنهاج لا يقتصر على سرد تاريخ ما حدث في سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم , ولكنه يتخذ منها منهاجا دائما وحكمة ماضية إلى يوم القيامة في كيفية إخراج الناس من الظلمات إلى النور, يستعين به ويلتزمه الدعاة إلى الله, بل وكل مسلم يريد أن يؤدي مسئوليته نحو دين الله والأمانة التي يحملها بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم, لتبليغ دعوته للعالمين كما أراد الله لها.
ويجمع هذا الكتاب ويشمل مجموعة من خمس عشرة سورة بدءا من سورة إبراهيم, ثم الأنبياء, ثم المؤمنون, ثم السجدة, ثم الطور, ثم الملك ثم الحاقة ثم المعارج, ثم النبأ, ثم النازعات, ثم الانفطار, ثم الانشقاق, ثم الروم, ثم العنكبوت, ثم المطففين, وهو آخر القرآن المكّي.
ففي سورة إبراهيم بين الله سبحانه منهاج إعداد فريق العمل, مثلما أعد موسى عليه السلام بني إسرائيل, ثم يتحرك الفرد من فريق العمل, كما تحرك إبراهيم عليه السلام في إقليم جغرافي شمل العراق والشام ومصر وجزيرة العرب.
وفي سورة الأنبياء منهاج دعوة المعرضين, تناول أسبابا أربعة للإعراض, وعلاج كل سبب منها, كما شمل كيفية حركة الدعاة إلى الله في أرض غير مسلمة في مواجهة كل الظروف والاحتمالات التي قد يلاقونها, في ترتيب للأنبياء يتناسب مع تدرج حركة الدعاة.
ثم إذا دخل بعض الناس في حظيرة الإيمان, فآمنوا بالله ورسوله وكتابه, يضع الله لهم منهاجا للترقية ينقلهم إلى الخشوع في الصلاة والإعراض عن اللغو, وفعل للزكاة وحفظ للفروج, وحفظ للأمانات والعهد, ومحافظة على الصلوات. كما رقّى خَلْقهم من سلالة من طين إلى خلق آخر فتبارك الله أحسن الخالقين.
وفي سورة السجدة يبين الله سبحانه قمّة ترقية المؤمنين إلى مستوى (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكّروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون), كما رقّى خَلْقهم من بدء خلق الإنسان من طين, إلى (ثم سواه ونفخ فيه من روحه, وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) فهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه. وهو مستوى في الخَلْق وفي الخُلُق أرقى من المستوى المذكور في سورة المؤمنون. وفي نفس الوقت يشير إلى منهاج الله في معالجة من استمروا على كفرهم وتكذيبهم بعد سوق كل الحجج العقلية والبراهين, (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون),
ومن هنا يبدأ استعراض صور من العذاب الأدنى والعذاب الأكبر كرادع لمن لم تسعفهم أحلامهم بالتصديق بكلام الله, وذلك على ثلاث مستويات من الاستعراض:
● فتستعرض في المستوى الأول صورا من عذاب الآخرة, وهو غيب لم يحدث بعد,
● وتستعرض في المستوى الثاني صورا من العذاب الذي أصاب أمما سابقة فأهلكهم الله, وهو ماض يستدل عليه بالآثار وبالأخبار,
● وتستعرض في المستوى الثالث صورا من عذاب الله, الذي يصيب كل حين أمما في الأرض, فيشاهده الناس بأعينهم في كل جيل لعلهم يرجعون.
فتتحدث سورة الطور عن عذاب واقع ما له من دافع, حيث الأمواج الزلزالية التي تحدث في المحيطات, فتجعل البرّ جحيما يهلك الله به من يهلك, وتجعل الناس لا يركنون إلا إلى البرّ الرحيم سبحانه وتعالى. فيرون أن كلام الله ووعيده حق يبصره الناس بأعينهم في كل عصر وزمان, وليس سحرا.
وفي سورة الملك, بين الله أن الطبيعة إنما يحركها الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير, فكما خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت, وكما جعل الأرض ذلولا لنمشي في مناكبها ونأكل من رزقه, فإنه جلّ وعلا لا يؤمَن أن يخسف بنا الأرض فإذا هي تمور, أو يرسل علينا حاصبا.
ثم في سورة الحاقة, يبين ما فعله الله بالمكذبين من الأمم السابقة, ليجعلها الله لنا تذكرة وتعيها أذن واعية, وتكون سببا للتصديق بما يحدث من أهوال القيامة, من العذاب الأكبر, لعل الناس يرجعون, فيقسم الله بما تبصرون من أهوال حادثة أمام أعيننا, وما لا تبصرون من أهوال حدثت في الأمم قبلنا فلم نبصرها, أو أهوال ستحدث يوم القيامة لم نبصرها بعد.
وفي سورة المعارج يرد الله على سؤال سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع, ويبين كيفية الإنقاذ من هذا العذاب, سواء كان في الدنيا, أو في الآخرة, حيث خلق الإنسان هلوعا, إلا المصلين بصفاتهم المكتسبة من إيمانهم وصلاتهم.
وفي سورة النبأ, يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون, فيرد الله على تساؤلاتهم, مبينا أهوال يوم القيامة حيث (إن جهنم كانت مرصادا * للطاغين مآبا * لابثين فيها أحقابا), وحيث (إن للمتقين مفازا * حدائق وأعنابا), ويدعو من شاء من عقلاء الناس إلى أن يتخذوا إلى ربهم مآبا (ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا).
وفي سورة النازعات يبين الله سبحانه ظاهرة أخرى من أهوال الدنيا تدلل عيانا على أهوال يوم القيامة, يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة, ويبين مصير فرعون بعد أن ناداه موسى هاديا إلى ربه (فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى, فأخذه الله نكال الآخرة والأولى, إن في ذلك لعبرة لمن يخشى), وينذر سبحانه بالطامة الكبرى (يوم يتذكر الأنسان ما سعى, وبرزت الجحيم لمن يرى).
وفي سورة الانفطار, يبين الله أنه (إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجّرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت), فالمسألة ليست ظواهر طبيعية, أو إهلاك للناس لمجرد الإهلاك, ولكن هذه الظواهر يذيقهم الله من العذاب الأدنى فيها، دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون, وبالتالي فإن الناس محاسبون على ما قدموا وأخروا. (علمت نفس ما قدمت وأخرت)
وفي سورة الانشقاق, يبين الله بعضا من أهوال العذاب الأكبر, (إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت , وإذا الأرض مُدّت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت), فإن الإنسان الكادح فيها كدحا, هو ملاق ربه فإما أن يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا, وإما أن يحاسب حسابا عسيرا, فيدعو ثبورا ويصلى سعيرا, بعد أن ألقت الأرض ما فيها وتخلت عما كان الإنسان يحصّله, حين كان في أهله مسرورا وظن أن لن يحور. ينتج عن كل ذلك أن يؤمن من الناس من شاء الله له أن يؤمن, ويسجد لله مستسلما خاشعا خاضعا له سبحانه. ويصل من يعي هذا المنهاج بخطواته, يصل إلى أن يسجد لله إذا قرئ عليه القرآن.
ثم في سورة الروم, يبين الله أنه ناصر للمؤمنين ولو بعد حين, ومهما غلب الكافرون في مرحلة من مراحل الصراع, (لله الأمر من قبل ومن بعد, ويومئذ يفرح المؤمنون* بنصر الله, ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) ويدعو سبحانه رسوله والدعاة من بعده إلى الصبر حتى يأتي وعد الله (فاصبر إن وعد الله حق, ولا ستخفّنك الذين لا يوقنون)
ويبين الله سبحانه في سورة العنكبوت تعليلا للإصابات التي يصاب بها المؤمنون, لترقية الذين قالوا آمنا, وسجدوا لله تتجافى جنوبهم عن المضاجع, فلا يكتفى منهم بذلك, ولكن الله يفتنهم ليعلم الذين صدقوا ويعلم المكذبين. ويستعرض لهم ما فعله جلّ وعلا بأمم سابقة, فكلا أخذنا بذنبه, (فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا, ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا) فإذا طلب المكذبون أن ينزل الله عليهم آيات مثلها, قال لهم الله (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم، إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون)
ثم وتطبيقا لعقيدة الإيمان بالآخرة والتصديق بعذاب الله الواقع ما له من دافع, وتطبيقا لترقية إيمان الناس, لابد أن يظهر ذلك في تعاملاتهم, فإن ظلم بعضهم بأن كان من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون, وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون, فيردعهم الله (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم, يوم يقوم الناس لرب العالمين)!! فيكون رادعا كافيا في إحسان المعاملات, أن يظن الناس أنهم مبعوثون ليوم عظيم,
وهنا يتحقق هدف دعوة الله للناس, أن يبدأوا بالعقيدة, حتى تترسّخ في قلوبهم ووجدانهم عقيدة البعث والحساب, وإمكان وقوع العذاب الأكبر يوم القيامة, فيكون رادعا ودافعا لهم على حسن العلاقة مع الله بالصلاة والزكاة والقيام بالشهادات, والمحافظة على الصلاة, وإلى تحسين المعاملات في الكيل والميزان وغيرها, خوفا من (أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين).
هكذا بين الله جلّ وعلا, منهاجه في كتاب أنزله ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.