.. في سورة إبراهيم, كلّف الله رسوله صلّى الله عليه وسلم والدعاة من بعده, بمهمة إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم. وهي واجبات ومهمات رسول الله المبعوث رحمة للعالمين, في نشر دين الله للناس كل الناس, في كل مكان وكل زمان, وأنزل كتابا ليبين لهم منهاج تنفيذ هذه المهمة, بتكوين فريق العمل الأول, على غرار ما فعله موسى عليه السلام مع بني إسرائيل, وتأهيل أفراده على غرار ما تأهل به إبراهيم عليه السلام.
كما حدد أعداء الدعوة من الكافرين, الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا, من كل جبار عنيد, ومن الذين كفروا والذين استكبروا وأتباعهم من الضعفاء وأتباع الشيطان, والذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار, والمجرمين والظالمين؛ على تفصيل مبين في تحليل سورة إبراهيم.
وحيث أن الله سبحانه قد ختم الرسالات برسالة الإسلام, وختم الكتب بالقرآن, وختم الأنبياء بمحمد صلّى الله عليه وسلم, كما وسّع جلّ شأنه من حدود مسئولياته, حتى شملت العالمين, فقد كان كل نبي يبعث لقومه خاصة, وبعث محمد صلّى الله عليه وسلم للناس عامة, كما عمّت الجن والإنس, فإن هذه المسئوليات تمتد من يوم بعثته صلّى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة, ولم تقف عند حدود حياته عليه السلام, فكيف ستصل دعوته للعالمين في كل الأرض, وفي كل الزمان رغم وفاته بأبي هو وأمّي؟
إن الله حمّل هذه المسئولية للأمّة الإسلامية من بعد رسولها. فيحمل كل مسلم جزءا من مسئولية رسول الله صلّى الله عليه وسلم تجاه رسالة الله للناس, ويكون لكل مسلم دور في المكان الذي يعيش فيه, وفي البلد الذي يقيم فيه, بل إنه يخرج بدينه وعقيدته, ليدعو الناس في كل مكان يستطيع أن يصل إليه, وهو دور مماثل لدور كل نبي من الأنبياء, حيث أرسل الله كل واحد منهم إلى قرية من القرى, وأرسله بلسان قومه ليبين لهم. كذلك كلف الله المسلم بذلك, فهو داعية إلى سبيل ربه وإلى دين ربه. بذلك تصل دعوة الله الحق إلى كل إنسان في كل مكان على الأرض, وفي كل زمان إلى يوم القيامة, وتستكمل رسالة محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم المبعوث رحمة للعالمين, تكملها أمته الوارثة للكتاب والتي اصطفاها الله سبحانه.
وفي سورة الأنبياء, يخرج المسلمون بشكل أفراد, دعاة إلى عموم الناس, في كل الأرض, يأخذ كل فرد منهم مسئولية مشابهة لنبي من أنبياء الله ورسله, الذين أرسل الله واحدا منهم في كل قرية (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)[1]) وكان لكل واحد منهم قصصا وتجارب, قصها الله علينا لتكون دليلا للعمل في الظروف المشابهة.
وقبل أن تصل رسالة الله إلى الناس, عادة ما يكونون في غفلة معرضين, ويحبون أن يتركوا سُدىً, من غير تكليف ولا حساب ولا جزاء, ولا يحبون أن تحد حرياتهم أية عقيدة, وهم يلعبون لاهية قلوبهم, ويدعوهم الدعاة إلى الله إلى الخروج من إعراضهم, إلى الجد والصلاح والإصلاح.
ومن هذه الزاوية, تكون سورة الأنبياء دليل عمل للدعاة إلى الله إلى يوم القيامة, يبين ويوضح منهج هذه الدعوة في الحركة بين الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وبلادهم, لإزالة آثار إعراضهم لأي سبب كان هذا الإعراض.
ويتلخص علاج الإعراض, في الذكر, وبين إعراض الناس وبين ذكر الله, تتحرك الدعوة فيهم لتخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد, الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض.
ولنتصور أن دولة إسلامية, قررت أن تؤدي واجبها نحو المجتمع الدولي, كما يأمرها ربها ودينها, فأهّلت فرق عمل كملحقين ثقافيين يحملون ثقافة الإسلام, فتعلم كل واحد منهم لغة البلد التي يستهدفها لإخراج الناس فيها من الظلمات إلى النور, وأخذت في الاعتبار منهج سورة إبراهيم, في إعداد فريق العمل على غرار ما أعد موسى بني إسرائيل لحمل لواء الدعوة, ويضع في اعتباره نوعيات الجبارين الظالمين المعاندين من الناس. ثم أخذ كل واحد من الدعاة منهاج إبراهيم عليه السلام في الحركة من قرية إلى قرية, ومن مدينة إلى مدينة في البلد التي يقصدها, ويتعلم لسان قومها, وهو يقيم فيهم الصلاة ويدعو ربه ويستعين به, ويؤهل أبناءه وأحفاده لاستمرارية الدعوة بهم..
وبعد ذلك…. فبماذا يبدأ كل داعية منهم مع عامة الناس الغافلين المعرضين عن الاستجابة للدعوة, المعرضين لأسباب مختلفة للإعراض؟ ماذا يفعل حتى يلتفتوا إليه, وحتى يستمعوا ويفهموا ويعوا ما ينصحهم به؟
إن أول ما توجه به رسول الله صلّى الله عليه وسلم لدعوة عامة قومه في مكة في بداية دعوته, كانت سورة التكوير, فهي السورة رقم 7 بترتيب النزول, يعلن الله فيها للناس أن هناك حسابا بعد الموت, ..(إذا الشمس كُوّرت, وإذا النجوم انكدرت, وإذا الجبال سيّرت, وإذا العشار عطلت, , وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجّرت, وإذا النفوس زوجت) هناك يكون السؤال على الجرائم التي ظن الناس أنها قد دفنت فلا حساب عليها, (وإذا الموءودة سئلت, بأي ذنب قتلت, وإذا الصحف نشرت) أي أن كل الثوابت حولهم ستتغير, ثم يكون الحساب (وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت, وإذا الجنة أزلفت, علمت نفس ما أحضرت).
وهنا في سورة الأنبياء, تبدأ دورة مماثلة, فيكلف الله رسوله والدعاة من بعده, أن يخرجوا إلى الناس في كل العالم, فيؤهلهم بما يبدءون به معهم. إنهم يبدءون بنفس ما بدأ به الرسول مع قومه, مماثل لسورة التكوير في بدايته, ينذرهم بالحساب بعد البعث, كي ينتبهوا من غفلتهم ولعبهم ولهوهم, ثم يستمر المنهاج في خطوات محددة, تبين واجبات الدعاة في معالجة الأصناف المختلفة من عامة الناس, المعرضين عن دعوة الله, يعالجهم من أسباب الإعراض, حتى يصلوا إلى الذكر والإيمان والعبادة ثم الصلاح والإصلاح.
وفي السورة تكرير لكلمة (معرضون)[1] أربع مرات, وفي كل مرة منها, يذكر الله سببا للإعراض, ويعالج هذا السبب في الآيات التالية للكلمة..
والإعراض مشتق من العرض الذي هو ضد الطول, ويعني أنك تواجه الذي تُعرض عنه, حتى يرى عرضك, وأن تأتي إليه بمثل ما أتى إليك. (وفي اللغة العامية يقول المعرض عنك: أرني عرض أكتافك)
وتكررت كلمة (ذِكْر) عشر مرات في سورة الأنبياء, كأكثر تكرير في سور القرآن, يعالج الله بها الغفلة والإعراض بكل أسبابه.
والذكر مقابل النسيان والغفلة, والذكر أيضا هو القرآن, وهو الشرف, وهو المكانة.
...وإلى المرحلة الثانية من كتاب دعوة الناس ليخرجهم الله من الظلمات إلى النور:
أولا: المعرضون بسبب الغفلة:
أول سبب للإعراض, هو الغفلة واللعب واللهو.. فالناس عموما إن لم تأتهم هداية من الله, فإنهم يودّون أن يعيشوا سدى, لا يكَلّفون بشيء, ولا يحاسبون على شيء, يحبون أن يعيشوا في لهو ولعب.. فيكون ذلك سببا في إعراضهم. فإن تأتهم بهداية, يأتوك بغفلة ولهو ولعب.
… فأنت كداعية إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة, ستطلب منهم الالتزام بأوامر ونواهٍ, أي أن يتحكموا في تصرفاتهم, ومعاملاتهم, وهم قبلك كانوا يعيشون في راحة من هذه التكاليف, ولكنهم على الجانب الآخر, لم يعرفوا دعوة الله وطريقه عن قرب, فهم ليسوا معاندين أو مصرّين على الكفر, حيث لم يُناقشوا أمر تغيير معتقداتهم من قبل, ولهذا السبب, فهم في غفلة معرضون…وبالتالي فهم يحتاجون إلى من يذكّرهم وينبههم من غفلتهم.
يبدأ المنهاج بتذكير الناس باقتراب حسابهم, وبيان حالتهم: قبل الذكر, من غفلة وإعراض ولعب, ولهو القلوب:
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ..)
والذكر محدَث بالنسبة لهم, ويبين لهم القرآن أن لهم ربّا, فيقول (مِنْ رَبِّهِمْ)
ثم بعد إفاقتهم من الغفلة, وتنبيههم باقتراب الحساب, يبدأ الذين ظلموا منهم, في محاولة إبعاد عامة الناس عن طريق الهداية, وعن الداعية إلى سبيل ربه, والذي يمثل رسولَ رسولِ الله إليهم, فيقولون: …
- (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا): فحيث أن الأضواء حول الذين ظلموا, مهددة بالانسحاب عنهم, والالتفاف حول الداعية إلى الله بالحق, فإن الذين ظلموا يبدأون في الحوارات الخاصة, (وأسروا النجوى) مع بقية الناس ليشككوهم في شخص الداعية….
- (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ): فيحتجون مبدئيا ومن حيث الشكل أن تأتيهم الهداية على يد بشر مثلهم, يتميز عنهم بوصوله للهداية قبلهم, وقبل أن يستمعوا الذكر الذي جاء به, يعترضون على كونه بشرا مثلهم.
- (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3): يشككون فيما جاء به, ونظرا لأنه قول يؤثر في الناس بمجرد استماعهم له, فإنهم يدّعون أنه سحر, إذن فقد خرجوا من الاعتراض على شخص الرسول, إلى التشكيك في القول الحق الذي جاء به, فيقولون (السِّحر)
(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) يعالج الله احتجاجاتهم وتشكيكهم بأن يلفت أنظارهم إلى أن الله السميع العليم, وهو ربّ الرسول وربّ الداعية, علم ما أسروا به النجوى, ولا يستطيع الرسول نفسه أو الدعاة إلى الله أن يقترفوا سحرا أو يدّعوا على الله الكذب, حيث أن ربّي يعلم القول في السماء والأرض, وبالتالي فإن قول الحق الذي جاءهم به هو من عند من يعلم القول, وهو السميع العليم.
- (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ) محاولة لتبرير لماذا جاء الرسول بذلك الحق, وقد لبث فيهم عمرا من قبله, لم يكن يقول مثل هذا, فيحاول الذين ظلموا أن يوهموا عامة الناس بأن الذي جاء به الرسول هو مجرد أحلام, ورؤى يراها في منامه.
- (بَلِ افْتَرَاهُ ) فإذا أمعنوا النظر فيما جاء به, فوجدوه يأتي بقول عاقل وليس أضغاث أحلام, فيقولون بل افتراه, أي جاء به من عنده كذبا وادعاء, ولم يأت به من عند الله.
- (بَلْ هُوَ شَاعِرٌ..) فإذا ما وجدوا الكلام نفسه منضبطا دقيقا معجزا, يبدأ الذين ظلموا في محاولة أخرى لتشكيك عامة الناس, فيقولون بل هو شاعر, وما جاء به من الحكمة هو بسبب أنه شاعر. إذن هم بذلك قد بدأوا في تقدير ما جاء به, بأنه كلام قيّم عاقل حكيم, وليس سحرا ولا أضغاث أحلام ولا افتراء. وهذا تطور صاعد في مستوى تناول الدعوة وتطور صاعد في تقدير الرسول عليه الصلاة والسلام, ولكنها لم تصل بهم بعد إلى كمال التصديق والتعقُّل , ولا إلى الحقيقة, وإنما تدرجوا أمام عامة الناس تدرُّجا صاعدا أمام الحكمة والحق الذي جاء به رسول الله, الذي صبر عليهم حتى يسمعوا كلام الله, فتعمل عقولهم في تناوله, حتى تكتشف أنه ليس سحرا ولا أحلاما ولا افتراء ولا شعرا.
- فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) بدأ الذين ظلموا مرحلة جديدة, حيث يذكرون الرسل الأولين, ويطالبون رسول الله بأن يأتيهم بآية, وهذا تطور إيجابي أيضا, يدل على أنهم بدأوا يشبهونه بالرسل, وأن ما جاء به يشبه ما جاء به الرسل من قبله, ولكنهم يحتاجون إلى آيات للإثبات. إذن المشكلة الآن في إثبات أنه رسول الله, يتخطون بذلك كل ما سبق من كونه بشرا أو كون قوله سحرا, أو أحلاما أو افتراء أو شعرا.
وفي كل هذه المراحل من الاتهامات والإعراض, يصبر رسول الله عليهم, ويصبر كل داعية, لأن القرآن مُعجز, وفيه هدى للناس, وكل المطلوب هو الصبر, وإبلاغ الناس, والانتظار عليهم حتى يسمعوا كلام الله.
فيرد الله بأن ما حدث في تاريخ رسالات الله, أن الناس لا يؤمنون بسبب المعجزات والآيات مهما نزلت لهم, وبالتالي فإن هؤلاء سيكونون مثل أسلافهم من الناس (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)) فيأبى الله في منهاج دعوة الإسلام, أن يأتي الناس بآية معجزة يقهر بها عقولهم فيصدِّقوا, ولكن المنهاج يعتمد العقل وحكمه, والفهم والتفكير, ولا يقهر العقل بآيات عجيبة, بل هو يحترم العقل ويقنعه. ولو أن الله سبحانه قد استجاب لطلبهم بأن يأتيهم بآية, لكانوا حين يكذّبون, قد أهلكهم الله, كما أهلك القرى من قبلهم.
ولم يرسل الله من قبل إلا رجالا يوحي إليهم (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
والله يرسل للبشر بشرا منهم, يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويموتون (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) وينصرهم الله كما وعدهم (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
ويبين الله لهؤلاء المعرضين بسبب الغفلة, أن ذكرهم وشرفهم ومكانتهم بين الناس, في الكتاب الذي أنزله الله (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) كما أنه فيه ذكرهم ليخرجهم من الغفلة, إلى الانتباه والتعقّل.
ثم ينذر الله بما حدث لقرى كانت ظالمة (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)). وهي صورة لا يرغب فيها عاقل, والذي يراجع التاريخ, قديمه أو حديثه, فإنه سيجد آثار انتقام الله من الظالمين, فأولئك قوم نوح وعاد وثمود, وهؤلاء الأمم الظالمة الكافرة التي قصمها الله, وأنشأ من بعدها قوما آخرين.
ثم يبين الله لهؤلاء المعرضين بسبب الغفلة, أن اللعب واللهو لا يخلق سماء ولا أرضا, ولن يُنشئ حضارة ولا أمة.. وإنما ينشئها الحق وآياته.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
ويبين الله للغافلين الأسوة الحسنة فيمن عنده من الملائكة الذين يعملون عبادة لله وطاعة, بلا استكبار, ولا ملل, ولا كلل, ولا تعب ولا إعياء, ولا فتور. فأين المعرضون بلعبهم وغفلتهم ولهوهم من هؤلاء العباد؟ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20))
ثانيا: المعرضون بسبب الجهل بوجود الله ووحدانيته:
والسبب الثاني للإعراض, هو الجهل بالحق, والجهل بحقيقة الله, فقد يكون للناس عقيدة يتبعونها, وآلهة يعبدونها, فينفي الله الآلهة التي يدعيها الناس..
- وأول الجهل الاعتقاد بوجود آلهة من الأرض, وفي ذلك قصور في الرؤية, فهو يتجهون إلى الأرض ويعتقدون بوجود آلهة منها, دون نظر إلى السماوات والأرض معا, وبالتالي هم لا يرون الله ومعه آلهة أخرى, ولكن يتخذون آلهة من الأرض فقط. هؤلاء جاهلون تماما بوجود الله.. (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
فيلفت الله أنظارهم للسماوات والأرض معا, ولو أن هناك آلهة أخرى لفسدت السماوات والأرض, فالله ربّ العرش, وآلهتهم ليس لها عرش, (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)….
كما أن الله سبحانه لا يُسأل عما يفعل, وهم يُسألون..(لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) وهذه أدلة عقلية, أنه في حالة وجود آلهة من الأرض, وآلهة في السماوات, فإن نزاعا يمكن أن يحدث بين هؤلاء وهؤلاء, فالأرض مرتبطة بالسماء, ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
- ثم تأتي المرحلة الثانية من الاعتقاد, بأن يعتقدوا بوجود الله, ولكنهم يعتقدون أيضا بوجود آلهة من دونه… وأين برهان الذين يتخذون من دونه آلهة؟ كيف يثبتون أنهم آلهة؟ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ..)
ورسول الله, لديه الذكر والبرهان على صدقه وعلى أنه لا إله إلا الله, يؤيده فيه من قبله من الرسل والأنبياء (..هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي..) وهذا دليل بالنقل, فلا توجد في دعوة مَن قبله من الأنبياء والرسل يدّعي أحد فيها بوجود آلهة من دون الله, ولكن يظل بعض الناس في جهل لا يعلمون الحق,(.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
ونلاحظ هنا أن الجهل لم يعد صفة كل الناس, ولكن صفة أكثرهم , إذن فهناك من الناس المعرضين بسبب الغفلة, من أفاق وعاد إلى عقله, ولكن مازال أكثرهم لا يعلمون الحق, ولهذا السبب مازالوا معرضين.
وبعد معرفة الله, تتلو معرفة أنه لا إله إلا هو سبحانه, وبالتالي معرفة حقه على الناس أن يعبدوه, وحده لا شريك له, وهذه هي دعوة كل رسول أرسله الله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
- ثم تأتي المرحلة الثالثة من الاعتقاد, بأن يعتقدوا أنما هو إله واحد, ولكنهم يدّعون له ولدا- سبحانه, فيعالج الله هذا الفساد, بأن كل من يُنسب إلى الله, هم عباد مكرمون, يعبدونه ويعملون بأمره, ويخشونه. وهذا هو المطلوب من الناس أن يفعلوه فيحذوا حذوهم (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
ومرة أخرى يضرب الله الأسوة الحسنة في الملائكة, بصفة العمل بأمر الله, وخشيته, وعدم ادعائهم أنهم آلهة من دون الله, فالمطلوب في هذه المرحلة من معالجة المعرضين, أن يتحولوا من علم بالحق, إلى العمل بأمر الله, وعدم الادعاء عليه زورا وبهتانا بأن له ولد, سبحانه.
ثالثا: المعرضون بسبب الجهل بقدرات الله
فإذا نقّى الله عقول الناس وقلوبهم من الغفلة, ومن الجهل, ومن الشرك, ومن ادّعاء الولد, شرع سبحانه وتعالى يبين قدراته جلّ وعلا, حيث أن الجهل بقدرات الله يؤدي إلى الإعراض, ويؤدي إلى الكفر بمحاولة حجب الله عن التحكم في الحياة, والاعتقاد بأن ما يحدث من آيات في السماوات والأرض, إنما هو بسبب الطبيعة, وأن القوانين هي التي تحرك الكون, وأنه ليس وراء القوانين إله خلقها وأوجدها. فينبه ويبين سبحانه وتعالى العقول , كيف فتق السماوات والأرض, وكيف أوجد فيهما أساس الحياة (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ )(30) وكيف حفظ الأرض أن تميد بمن عليها, وجعل فيها السبل لعلهم يهتدون, (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (31) وجعل السماء سقفا محفوظا: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) ثم خلق قوانين الحركة في السماوات والأرض (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
ثم يبين الله أن للدنيا نهاية, ولكل حيّ نهاية, ولا خلود ولا بقاء إلا لوجه الله سبحانه, (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) (34), وأن بعد الموت والبعث رجوع إلى الله للحساب: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )(35)
ثم بعد حجج وجود الله, وحجج وحدانيته ونفي الولد عنه, وحجج البعث والنشور والحساب, يحتج الذين كفروا بالتقليل من شأن النبي – بأبي هو وأمّي, رغم ما رفع الله من شأنه: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
وهكذا فالله سبحانه الصبور, يعلم أن الإنسان في عجلة, فيمهل الله ويعطي الفرصة لإزالة كل أسباب الإعراض, ويري الناس آياته, لكي لا يكون للناس على الله حُجّة: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
ويكون نتيجة ذلك أن يصل الكافرون إلى الاقتناع بالبعث ولكن يسألون متى هو: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) فيهددهم الله بالمصير الذي ينتظر الذين كفروا, والذي يجعل الإنسان العاقل لا يجازف فيعتمد على احتمال عدم وجود يوم البعث والوعد, حيث أن المخاطرة والمجازفة تودي به إلى مصير رهيب من النار لا يكُفّونها عن وجوههم ولا عن ظهورهم (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ) (39)
ويستحثّهم الله على الإسراع بالإيمان, حيث أن المسألة لا تحتمل التأجيل إذ تأتي الساعة بغتة ولا تنتظر أحدا, فلا يستطيعون ردها ولا هم يُنظرون: (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) ويرد سبحانه بتهديد المستهزئين بالرسل (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
رابعا: المعرضون عن ذكر ربهم:
فإذا عالج الله كل الأسباب السابقة للإعراض, وللكفر, فإنه يبدأ جولة أخرى مع المعرضين عن ذكر ربهم, أي أنهم ليسوا معرضين بصفة عامة, وليسوا بكافرين ولا معرضين عن ربهم, وإنما عن ذكر ربهم. والإعراض هنا ربما عن كسل, أو عن تراخٍ وفي الآية 36, يقول الله: (وهم بذكر الرحمن هم كافرون) وهنا في الآية 42 يقول الله: (وهم عن ذكر ربهم معرضون), فيبدأ الحديث في اتجاه يشعرهم بالحاجة إلى الله الرحمان الذي يحافظ عليهم بالليل والنهار, ويحرسهم, ولا يستطيع أحد غيره جلّ شأنه أن يحفظهم منه, لهذا فهم محتاجون إلى ذكره في كل وقت (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
ثم يعالج مسألة الاستقواء بأحد غير الله, والظن بأنهم يمكنهم الانتصار بغير الله, (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
وهنا, يستحث الله الناس لسرعة رجوعهم إلى الله, وعدم نسيانهم المنعم بما أنعم عليهم ومتعهم: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
ثم ينذرهم إنذارا شديدا رقيقا في نفس الوقت!! (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) فيقلل من احتمال العذاب بقوله (ولئن) ثم لا يقول أصابتهم, بل (مسّتهم), وليس العذاب هو الذي يمس, ولكن (نفحة من عذاب ربك) وهو الإنذار بنفحة من عذاب يوم القيامة, فيعطي بذلك الفرصة للظالمين أن يعودوا الآن ولا ينتظروا تلك النفحة, حيث الحساب بمثقال حبة من خردل: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
إلى هنا, أقام الله لرسله ودعاته إلى الناس, حججا تغطي أسس العقيدة, الحساب, الذكر, الرسول, الله الواحد:
المشاكل التي تعترض الدعاة خارج أوطانهم, وكيف يستعينون بالله عليها
عمل رسل الله وأنبياؤه في الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة, وساعدهم الله وأعانهم على رسالاتهم.
وحيث أن أمة محمد صلّى الله عليه وسلم حملت هذه الرسالة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم, فهي تحمل هذه المسئولية للعالمين, لتخرج الناس من الظلمات إلى النور.
وكما أعان الله رسله وأنبياءه, فقد أعان رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلم, ثم على نفس سنته سبحانه, يعين من يعملون في سبيله ويدعون الناس ويبلغونهم رسالات ربهم. ويتعلمون من القرآن كيف استعان الأنبياء والرسل بالله, من دعائهم, فيتوجهون إلى الله بالدعاء كلما تعرضوا لمثل ما تعرض له الأنبياء والرسل.
ويستعرض رب العالمين في سورة الأنبياء في المقطع الثاني منها, الوسائل التي أعان بها كل نبي من أنبيائه ورسله, كل حسب حاجته وظروفه. وقد أعان رسوله بكل هذه المعونات, ونسأله سبحانه أن يعين المخلصين من الأمة الذين يحملون مسئولية ميراث الكتاب إلى يوم القيامة.
وهذه باقة من قصص إعانة الله لأنبيائه, ولخاتم النبيين, وللدعاة من بعده, بالترتيب غير التاريخي, ولكنه الترتيب الذي يحتاج إليه أي داعية حين يخرج من بلده رسولا لرسول الله إلى بلدة غريبة عليه:
ولنتصور أن داعية قد قرر أن يحمل جزءا من مسئولية المبعوث للعالمين, صلّى الله عليه وسلم, وهو يريد أن يذهب إلى بلد من بلاد العالم, لم تصلها دعوة الإسلام بعد, بل وصلت إليها معلومات مشوهة عنه, فماذا ستكون احتياجاته وخطواته لكي يؤدي تلك المهمة؟
- الفرقان وضياء وذكر
إن أول ما يحتاج إليه الداعية قبل مغادرته إلى البلد الجديدة, الفرقان وضياء وذكرا, يحمله معه, فيه ما يستطيع أن يفرق به بين الحق والباطل, وبين الحرام والحلال, وما يستضيء به, ويضيء للناس, والضياء يعمّ الناس أجمعين, والنور هداية لمن يبتغيه, ولمن يشاء له الله. ويتذكر من نسيان, ويستعين بالله به, ويحمل في ذاته التقوى, والخشية والشفقة من الساعة, وهذا ما رتبه الله في أول خطوة, وضرب لنا مثلا بما آتى موسى وهارون:
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وفي الآية الأخيرة يربط الله بين ما آتى موسى وهارون, وبين ما آتى أمة محمد صلّى الله عليه وسلم, فقد أعطاها ذكرا مباركا, أي ممتد التأثير في المكان وفي الزمان, بالاتساع والنماء الذي تدل عليه كلمة (مبارك)
- الرشد
ثم يحتاج الداعية إلى الرشد, بالعقل الذي يفرق بين حب الإيمان, وبين الكفر والفسوق والعصيان, الذي يغرق فيه المجتمع الذي يرسل إليه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
وكذلك آتى الله خاتم أنبيائه وأمته من بعده رشدهم, وقال (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم, وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان, أولئك هم الراشدون)
وسيجد الداعية إلى الله في البلد التي يرسل إليها, أن أهلها قد ألفوا تقديس ما ألفه آباؤهم من أصنام مادية أو معنوية يضل الناس بها, من أنظمة تخالف الفطرة, وعادات وتقاليد, وسلوكيات, وثقافات, وعقائد, وطقوس, ما أنزل الله بها من سلطان, واجه إبراهيم عليه السلام مثل ذلك في قومه, فانتقدها لديهم, وحطم تلك الأصنام, ودل الناس على ربهم الحق: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
وهو هنا عليه السلام, لا يكذب عليهم, ولكنه يبكّتهم, ويُرجعهم إلى أنفسهم, فقد قال لهم,: وتا الله لأكيدن أصنامكم, وهم سمعوه حين (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم), ثم هو يقول لهم (بل فعله كبيرهم هذا) ويستكمل لفت أنظارهم أنهم يستحيل أن يكونوا آلهة حقا, حيث لم يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم, ولا يستطيعون نطقا (فاسألوهم إن كانوا ينطقون)
وقد أدّى ذلك إلى تحقيق هدفه عليه السلام: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
فأكمل إبراهيم الدرس والموعظة: (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
ولكن تحطيم الأصنام المادية قبل أن يتم تحطيمها في قلوب وعقول الناس يؤدي إلى غضب الناس وتهديدهم: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
ولكن الله يحمي رسله (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
وتعلم رسول الله من درس أبيه إبراهيم, فلم يحطم أصناما مادية في صحن البيت الحرام, حتى حطمها في قلوب وعقول قريش, وطاف عليه الصلاة والسلام بالكعبة وبها أكثر من ثلاثمائة صنم, فلم يحطم منها شيئا, حتى إذا فتح مكة, وأتم الله نوره, كان تحطيم الأصنام حينئذ يسيرا, تقبله الناس ودخلوا في دين الله أفواجا, وحتى من تمسّك منهم بدين آبائه, لم يكن ليستطيع الاعتراض على تحطيم الأصنام.
ويتعلم الدعاة إلى الله ذلك الدرس, بأن يواجهوا ما ألفه الناس ووجدوا عليه آباءهم, وهو يخالف الإيمان بالله, ويخالف شريعته. ولكن أسلوب المواجهة يختلف حسب مقتضى الحال, مستفيدين من سيرة الأنبياء.
- النجاة من الأعداء, واتخاذ مقرّ آمن مبارك
فإن ضاقت بهم السبل في بلد, نجاهم الله إلى بلد أخرى, (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
وذلك تمهيد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم, للهجرة إلى المدينة المنورة, وتمهيد للدعاة من بعده, أنه إن ضاقت عليهم بلاد, فليهاجروا بدعوة الله إلى بلاد أخرى. فعل ذلك رسول الله, وحدث في عصرنا هذا مع كثير من الدعاة إلى الله الذين هددوا وعذبوا وسجنوا بسبب عقيدتهم ودفاعهم عن دين الله, فخرجوا إلى أرض الله الواسعة.
- إعداد أئمة يهدون بأمر الله:
ويحتاج الدعاة بعد ذلك إلى إعداد مجموعة عمل تساعدهم على أداء مهمتهم. وليكونوا قدوة للناس وأئمة يهدون بأمر الله. كذلك يعلمنا الله مما فعله إبراهيم عليه السلام ومعه إسحاق ويعقوب, حيث كانوا صالحين وعابدين
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
فوهب الله لإبراهيم الذرية الحاملة للرسالة وأوحى إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, فكانوا القدوة والأئمة الذين يهتدي الناس بهم, ويجتمعون من حولهم حين كانوا أسوة حسنة في الخير وبناء العلاقة مع الله, ومع الناس.
كذلك وهب الله لرسول الله أمة تمثل اليوم خمس سكان العالم, لتحمل رسالته من بعده, وجعل منهم أئمة يهدون بأمره, وأوحى الله إليهم أيضا فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, وكانوا له عابدين, تماما كما حدث من إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام.
- الحكم والعلم
ثم يبدأ فريق العمل الذي كونه الله مع الداعية, بالحكمة والعلم, يبدأ في اختيار قرية أو مدينة تكون بعيدة عن الأفعال الشائنة, وارتكاب الخبائث: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
كذلك نجّى الله رسوله عليه السلام من مكة وأهلها الذين كانوا على شركهم وكفرهم, وأدخله الله في رحمته, وكذلك يفعل الله بالصالحين بإذنه ورحمته.
- النصر
والدعاة يستعينون بالله, الذي يستجيب لهم وينجيهم وينصرهم (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وكذلك فعل الله مع رسوله حيث نصره من القوم الذين كذبوا بآيات الله. ونجاه الله من شرورهم, وزاده سبحانه بأن هداهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم. ويستجيب الله لمن يشاء من عباده الحاملين لميراث كتابه ومسئوليته إلى يوم القيامة.
- التحكيم بين الناس, والعلم
وقد يمكّن الله لرسله وعباده الصالحين, فيصلون إلى الحكم ويجعل السلطان في أيديهم, ويعلمهم: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ..
- تسخير مخلوقات الله
ويحتاج الداعية إلى أن يساعده الله بتسخير مخلوقاته له تساعده في أداء مهمته, فتخرج الأرض ثرواتها الطبيعية, وتؤدي الطير دورها في دورة حياة النباتات, والجبال تخرج حديدها ونحاسها وذهبها, (.. وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) كذلك مكّن الله لرسوله دولة الإسلام في حياته, ولخلفائه ولأمته بعد موته صلّى الله عليه وسلم, وآتاه حكما وعلما, وأخرجت الأرض ثرواتها, كذلك حدث في بعض أراضي المسلمين, فتدفق البترول واستخرج الذهب, وغير ذلك من ثروات, حين استقامت البلاد حكامها وشعوبها.
- تعليم الصنعة:
يحتاج الداعية إلى عمل يتكسب منه, ولا يتكسب من الدعوة, فأجرها على الله, ولو سأل الداعية الناس عليه أجرا, فإنه يكون بذلك قد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير, ورضي بأجر يمكن أن يقطع أو ينقص أو يُمنع, وترك الأجر غير الممنون. لهذا فعلى الداعية أن يجد وسيلة للكسب والعيش. وقد علم الله داوود صنعة, وطلب الله منا أن نشكره على نعمه التي خرجت من الأرض
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
وكلمة (لكم) في الآية تدل على أن الله هو الذي يعلم الناس كل شيء, حتى الصنعة, وأنه يجعل الفائدة مستمرة للناس أجمعين , وكم منا من علمه الله صنعة وهو يظن أنه قد وصل إليها بنفسه. وعلينا أن نشكر الله على ما علمنا, وذلك باستثمارها في طاعة الله ورفعة دين الله ليظهره الله بنا على الدين كله ولو كره المشركون.
- تسخير الريح والعاملين
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
إن الله سخر للناس اليوم الريح في حركة الطيران وحركة السفن, وسخر من يغوصون ويعملون عملا دون ذلك, وهو الحافظ سبحانه, أي أنه جل شأنه أنعم على هذه الأمة التي تحمل رسالته إلى الناس, كما أنعم على أنبيائه ورسله.
- كشف الضرّ
وقد يصاب المؤمن الداعية في صحته أو في ماله, فيعلمه الله كيف يستعين به عندئذ, ويسأله ويستجير به: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وهذه ذكرى للعابدين, أن يستعينوا بربهم في كل أمر, ويستثمروا باب الدعاء الذي لا يغلقه الله أمامهم أبدا.
- الصبر
ويحتاج الداعية إلى مجموعات عمل صابرين صالحين , فيدخلهم الله في رحمته. والصبر على مهام الدعوة وعلى طاعة الله يدخل الدعاة في رحمة الله: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
- النجاة من الغم:
وقد يجد الداعية معاندة من الناس وعنتا, فيفقد صبره, ويفكر في أن يذهب عنهم, فإن فقد صبره, فإن لديه مثلا من يونس عليه السلام, فيستعين بالله بدعاء يونس: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
- إعداد ورثة الكتاب
ويفكر الداعية في مستقبل الدعوة, ومثاله في ذلك زكريا, فيعينه الله بمن يخلفه ويرث دعوة الله: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) ويربي ذريته على المسارعة في الخيرات والخشوع لله.
- إحصان المرأة وابنها
والدعاة قد يكٌنّ نساء, أو نساء للدعاة, فأهم ما تحفظه المرأة هو إحصانها لفرجها, فيبارك الله لها في نفسها وفي أبنائها: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
وهكذا سرنا في مسيرة إعانة الله لأنبيائه, ويعلم الله بها الدعاة إلى سبيله, كيف يسلّحون أنفسهم بالاستعانة بالله, وبالدعاء, في مسيرتهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
إن هذه أمتكم أمة واحدة
ويختم الله هذه المسيرة, بإشعارنا بأن الناس أجمعين أمة واحدة, ماضيها وحاضرها, في كل الأرض, ربهم واحد, وينبغي أن يعبدوه , وأن تكون عقيدتهم واحدة … (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وكما قال سبحانه: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين), لقد بعث النبيين في مناطق متفرقة من العالم, ولم يرسلوا جميعا للعرب فقط. وأصل العرب في الجزيرة العربية, وكذلك فإن ورثة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم, يحملون رسالته إلى الناس أجمعين, يعرفونهم بربهم الواحد, ويدعونهم إلى عبادته وحده لا شريك له.
لقد جاء الإسلام لينادي بإنسانية واحدة تذوب فيها الفوارق الجنسية والجغرافية؛ لتلتقي في عقيدة واحدة ونظام اجتماعي واحد . .
والعالم اليوم في مطالع القرن الحادي والعشرين, بدأ يستشعر بأهمية الوحدة بين الناس أجمعين, على أساس إنساني لا عصبية فيه ولا سيادة لجنسية على غيرها, فنرى أوروبا الموحدة, ومحاولات الوحدة العربية والاتحاد في قوانين الجمارك والتجارة والمواصفات والإدارة والبيئة والصحة. وكل ذلك يهيء الظروف لدعوة الإسلام إلى إله واحد, وأمة إنسانية واحدة, وفي نفس الوقت الذي يكشف الله سبحانه بعضا من أسرار الحروف الفواتح لسور القرآن لتكون للناس لغة واحدة يفهمونها في لغة القرآن, على اختلاف ألسنة الناس وألوانهم. (في بحث منفصل).
ولكن الناس ينقسمون أمام الدعوة العامة إلى قسمين: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) :
1.فهناك من يستجيب ويعمل من الصالحات وهو مؤمن: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
2.وهناك من يعصي ويتمادى إلى أن يهلكهم الله: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
ثم يأتي يوم تتكاثر فيه الفتن, وتحدث علامات الساعة الكبرى, فلا مجال لتوبة ولا لعمل, وإنما الندم على الغفلة: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
ثم يكون الحساب:
حيث نرى الذين اختاروا آلهة من دون الله, يلقون مصيرهم فيكونون وما يعبدون حصب جهنم: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
أما الذين آمنوا, فقد سبقت لهم من الله الحسنى, والبعد عن جهنم: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
وتنطوي السماء كسجل لأفعال الناس حيث تنتهي فرصة العمل والتوبة…
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
والخلاصة أن الصالحين يورثهم الله الأرض: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
إن الله يرسل بلاغا لقوم عابدين, أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون, فلا يكتفي العابدون بعبادتهم دون عمل صالح, لأن الله سبحانه قد خلق الإنسان على الأرض خليفة ليعمرها ويبنيها حتى تأخذ زخرفها وتزّيّن, ويظن أهلها أنهم قادرون عليها, وبالتالي فإن ميراث الأرض لعباد الله الصالحين, وليست للعابدين دون صلاح وإصلاح.
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
وكنتيجة للنظام الذي أراده الله, فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرسله الله رحمة للعالمين, للناس كافة, ولكل ما تشمله كلمة العالمين من خلق, فهو صلّى الله عليه وسلم قد بلّغ رسالة الله للعالمين, ويحمل مسئوليتها من بعده الدعاة إلى الله على سنّة رسوله صلّى الله عليه وسلم, فتصل دعوته للعالمين في الأرض كل الأرض, وفي الزمان كل الزمان إلى يوم القيامة, ويقتدي حملة هذه الدعوة والمسئولية, بأنبياء الله ورسله, ينتشرون في الأرض كما انتشر الأنبياء, ويتعلمون لسان كل قوم يُرسلون إليهم, ويستعينون بالله كما استعان به الأنبياء, في الاستعداد للمهمة بالفرقان وضياء وذكر, ويلهمهم الله رشدهم, إلى أن يواجهوا كل الصعوبات بالاستعانة بالله وبالدعاء.
ويكون عنوان الدعوة التي يحملها رسل رسول الله إلى الناس, إلى العالمين هي: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
فإن تولوا, فلنحاول مرة أخرى بإنذارهم باقتراب حسابهم, وهي الرسالة التي تصلح للغافلين المعرضين المتولين عن دعوة الله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) فلربما تعمل عقولهم في التفكير في المصير النهائي الحتمي بوعد الله…
والله يعلم القول في السماء والأرض, سواء كان هذا القول جهرا, أو مكتوما في الصدور, فلا شيء يخفى على الله (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)
وهذا إنذار آخر في نهاية المسيرة, لمن لم يستجب لدعوة الله: (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
ويستعين الدعاة بربهم الرحمان, بما علمهم كيف يستعينون بما استعان به الأنبياء..( قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
الخلاصة
أن الله سبحانه يؤهل بعضا من عباده المسلمين المتبعين لدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم لكي يحملوا مسئولية تبليغ رسالة الله في كل الأرض وفي كل الزمان, إلى الناس كل الناس, ومعالجة غفلتهم والأسباب المختلفة لإعراضهم, بالذكر, ويعلمهم جلّ وعلا كيف يستعدون لهذه المهمة, وكيف يستعينون بالله في كل موقف وفي كل مرحلة وأمام كل عائق أو مشكلة يواجهونها في سبيل تأدية رسالتهم, التي هي امتداد لرسالة الأنبياء وإمامهم محمد صلّى الله عليه وسلم, والتي تتلخص في:
(قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
والحمد لله رب العالمين على ما فتح من أسرار كتابه, وأستغفره وأتوب إليه من كل خطأ وقصور وغفلة.
[1] فاطر
[1] عرض العين والراء والضاد بناءٌ تكثرُ فروعُه، وهي مع كثرتها ترجعُ إلى أصلٍ واحد، وهو العَرْض الذي يُخالف الطُّول، ومَنْ حَقَّقَ النظرَ ودقَّقه عَلِمَ صحَّة ما قلناه، وقد شرحنا ذلك شرحًا شافيًا.
ومن الباب: أَعْرَضْتُ عن فلان، وأعرضْتُ عن هذا الأمر، وأَعرَض بوَجْهه، وهذا هو المعنى الذي ذكرناه، لأنّه إِذا كان كذا ولاَّه عَرْضه، والعارض إنّما هو مشتقٌّ من العَرْض الذي هو خِلافُ الطُّول؛ ويقال: أعْرَضَ لك الشَّيءُ من بعيدِ، فهو مُعرضٌ، وذلك إذا ظهر لك وبدا، والمعنى أنّك رأيت عَرْضه.
(و) تقول: عارضْتُ فلانًا في السَّير، إذا سرتَ حِيالَه، وعارَضْتُه مِثْلَ ما صَنَعَ، إذا أتيت إليه مثلَ ما أتي إليك، ومنه اشتُقَّت المعارَضة؛ وهذا هو القياس، كَأَنَّ عَرْض الشَّىء الذي يفعلُه مثلُ عَرْض الشىء الذي أتاه (ابن فارس)