الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. قيِّما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا. ماكثين فيه أبدا.
وأشهد أنه لا إله إلا الله ,لم يتخذ صاحبة ولا ولدا .
وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا رسول الله , أعرف الناس بربّه , وأصدقهم تمسكا بتعاليمه , خاتم الأنبياء والمرسلين . بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة.
آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله , واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
وأشهد أن الجنة حق والنار حق وأن الساعة لا ريب فيها, وأن الله يبعث من فى القبور
رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا , وبالقرآن الكريم بصائر من ربنا وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.
القرآن الكريم مازال بكرا , يحتاج إلى جهود ضخمة لاستخراج أسراره وعبره والعلوم التى أودعها الله فيه.
ربما نالت العبادات والأحكام فيه من الاهتمام ما لم تنله آياته عن القصص , وعن خلق السموات والأرض , وعن خلق الأنفس , وعن ظواهر الطبيعة , وأسرار المخ والنفس الإنسانية ,ومبادىء الحكم , والإدارة .
وفى الوقت الذى استقر المسلمون فيه على كيفية الصلاة , و التى تمارس كل يوم وليلة فى كل بقاع الأرض , وملئت كتب الفقه بأحكامها , لم تستخرج أسرار كثيرة أودعها الله فى آيات أخرى تحدثت عن النفس البشرية , وبدء الخلق , والبحر والزرع والجبال والنجوم .
ومن الخطأ الفادح أن نتوقف عن التفكير والتدبّر فى آياته , معتمدين على تفسيرات من سبقونا , الذين بذلوا أقصى ما فى وسعهم بأدوات ومعارف زمانهم , جزاهم الله عنا خيرا, فقد كانوا نبراسا للباحثين عن الحقيقة والهداية.
ومن الخطأ الفادح أيضا أن نظن أن مسئولية التدبّر مقصورة على طائفة من العلماء المتخصصين فى اللغة أو علوم القرآن , وهم يمثلون المنارة التى اهتدينا بها فى بحار المعرفة ومحيطات العلم .
لكن جهودا أخرى من كل التخصصات مازالت مطلوبة من الجميع . والأمر بالتدبّر يشمل الجميع بلا استثناء , (أم على قلوب أقفالها) (محمد 24).
فلكل واحد منا نظرته وأدواته فى التدبر والتناول والتفكر.
ولكل واحد منا خبراته فى الحياة , لا تتطابق خبرة أحد مع خبرة غيره.
والأدوات الرئيسية متاحة الآن لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكورا.
والله يستحثنا على التفكير , وعلى التدبّر (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكِر) (القمر 15) .
ولعلك لاحظت ما فى آيات سورة النمل من كنوز الملك سليمان , ولعلك قد استوحيت أسرارا أخرى وقفزت إلى ذهنك أفكار جديدة غير التى قرأتها.
وفى اعتقادى أنه على قادة الفكر السليم فى هذه الأمة أن يفتحوا باب الحوار فيما بينهم لوضع القواعد التى تتيح للناس – كل الناس- الفرصة لتناول القرآن بالبحث والدراسة والتدبر. ولفتح باب الاجتهاد للجميع , دون خوف , بدلا من إغلاق المسألة وترك الناس ينشغلون بغير كتاب الله , ويأخذون مبادىء الحياة والعمل والإدارة والجودة من غير كتاب ربهم , وهو الذى يحوى من كل مثل , (ولقد ضربنا للناس فى هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون) ( الزمر 27) .
ولينسب كل واحد ما يقوله لنفسه , محترما آراء الآخرين , عارضا ما توصّل إليه للمناقشة والنقد والمراجعة , التى ينبغى أن تكون مراجعة موضوعية , لا يسفَّه فيها رأى أحد , ولا يكفّر بها أحد , ولكن يرد القول بالقول , ويراجع الفكر بالفكر.
إن الله سبحانه وتعالى , قد سجّل فى كتابه العزيز قرآنا يتلى , ويُتعبّد الله به , سجّل كل ما دار من حوارات وحجج من الكافرين به المتشككين فيه , فى أخطر قضايا العقيدة وما يمس وحدانية الله ووجوده , وصدق رسوله – صلى الله عليه وسلّم , ورد عليها بالعقل والإقناع والحوار الهادىء الجميل , وأمر بجدال المعارضين بالتى هى أحسن .
والذى استنكره الله سبحانه هو عدم استعمال العقل , أو اتباع الآباء ولو كانوا لا يعقلون شيئا أولا يعلمون شيئا , ولايهتدون .
إن الله سبحانه جعل القرآن بصائر من ربنا , والبصائر تمثل وجهات متعددة يرى الإنسان بها من زوايا مختلفة , طبقات وطبقات لنفس الحدث ولنفس الكلمات , وأعماقا لا تنتهى .
ولنتصور أن المسلمين قد انشغلوا بالبحث فى كتاب الله , وأخرج منه أهل الطب ما أخرجوا , وأهل الفلك , والهندسة , والعلوم , والقصص والأدب والتاريخ , و..و..
ثم عرض كل واحد بضاعته , فقام المراجعون بعرضها على قواعد العقيدة , وأصول اللغة , وما استقر من علوم وقوانين . ودارت مناقشات جادة لتقييم تلك الآراء والأبحاث , وإظهار ما فيها من الخير , ومابها من خطأ لا ينجو أحد منه , فكل ابن آدم خطّاء ..
.. ألا يكون ذلك أفضل من إغلاق الباب تماما أمام كل تفكير جاد وبحث محترم , ثم عدم أداء هذا الجهد لا من متخصصين ولا من مجتهدين . ثم يحاسبنا الله على أمره لنا بالتدبّر , فيشتكى إليه جلّ المسلمين بأن باب الاجتهاد حتى فى محاولة الفهم والتدبّر قد أغلقه من أغلقه , فما ترك لأحد فرصة للفكر , ولا هو قام بالدور وحده .
.. ومن منا يحب أن يكون فى موضع اللوم والشكاية فى يوم يحتاج الإنسان فيه إلى من يشهد له لا عليه؟
أسأل الله أن يلهمنا رشدنا , وألا يشغلنا إلا به سبحانه , وأن ينير لنا كلماته فنرى الحق فيها , وأن يرزقنا اتباعه , وأن يهدينا الصراط المستقيم , لا فى العبادات الشرعية وحدها , ولا فى المعاملات الإنسانية وحدها , ولكن فى العلم والعمل والبحث والفكر والتدبّر والقراءة والفهم , وفى كل أسرار الكون.
وأسأله سبحانه ألاّ يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا , وأن يجعلنا هادين مهتدين , وألا يجعلنا ضالّين مُضلّين , وأن يجعلنا ممن استثناهم من الخسر فكانوا هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات , وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
“قل إن ضللت فإنما أضِلّ على نفسى , وإن اهتديت فبما يوحى إلىّ ربّى إنه سميع قريب” (سبأ50)
وقل الحمد لله , سيريكم آياته فتعرفونها , وما ربك بغافل عما تعملون (النمل 93)