السور ذات الحروف الفواتح
السور ذات الفواتح تسع وعشرون سورة, وهي بترتيب نزول سور القرآن: (ن) ثم (ق), ثم مجموعة الصاد (ص, وألمص الأعراف), ثم (يس), ثم (كهيعص مريم), ثم مجموعة الطا: (طه, طسم الشعراء, طس النمل, وطسم القصص), ثم مجموعة ألر المتوالية (ألر يونس, هود, يوسف, الحجر) ثم (ألم لقمان), ثم (حم غافر, وفصّلت) ثم (حم * عسق الشورى) ثم (حم الزخرف, والدخان, والجاثية والأحقاف) ثم (ألر إبراهيم) ثم (ألم السجدة, والروم والعنكبوت والبقرة وآل عمران) ثم تأتي في الختام بإذن الله(ألمر) الرعد
والحروف الفواتح لسور القرآن الكريم, مفاتيح لمعاني تلك الحروف, تتضح مدلولاتها ومعانيها من مدارسة محاور كل سورة, وتفاصيل القصص فيها, وترتيب الأنبياء فيها, وتدبّر معانيها.
وقد تقدمت ملاحظات عن السور ص, وطسم الشعراء, وطه, من وجهة نظر تحليل محاور السور وتفاصيلها التي تتوافق مع صفات وخصائص الحروف الفواتح لتلك السور, والتي كانت مفاتيح للحروف الفواتح.
وفيما يلي تحليل للسور ذات الفواتح لمحاولة الوصول إلى مدلول بقية الحروف الفواتح, ومن ثم بحث مدلولات الحروف المتبقية من حروف اللسان العربي المبين.
والجدير بالذكر أنني لم أصل بعد إلى مدلولات الحروف كلها, ولكني أستعرض ملامح وخصائص تساعد على ذلك, وأسأل كل من يستطيع, أن يدلي بدلوه في التعرف على مدلولات الحروف.
والهدف الذي نسأل الله العون في الوصول إليه, هو تأسيس:
علم الحروف الفواتح, بلسان عربي مبين
والذي به يكون القرآن ميسّرا للذكر لكل الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم, لكي لا يكون للناس على الله حُجّة.
ونبدأ باسم الله في تناول السور ذات الحروف الفواتح, بترتيب نزولها على أرجح الأقوال, كما سبق وذكرنا.
● ن والقلم
واسم حرف (نون) يتكرر فيه الحرف مع واو تضم النونين ن
ورسم حرف النون عبارة عن بطن زيدت داخلها نقطة, في نصف دائرة ظاهر, وهناك كتابات للنون المقلوبة, بحيث تكون فتحتها لأسفل, والنقطة داخلها.
ومخرج حرف (ن) من فوق مخرج اللام, وفيها الغُنّة
والنون صفاته في التجويد: الجهر (الظهور والإيضاح والإعلان) والتوسط (الاعتدال) والاستفال (الانخفاض) والانفتاح (الافتراق) والاذلاق(حدة اللسان وطلاقته) والغنة (الصوت الجميل)
(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7))
وكل هذه الآيات تدل على وظائف المخ, والقلب وهي العقل وصفاته ومتعلقاته:
والقلم : القلم من التقليم والتمييز,
وما يسطرون : بالتسجيل بالكتابة,
ما أنت بنعمة ربك بمجنون : ونفي الجنون عن العقل,
وإن لك لأجرا غير ممنون : والأجر غير الممنون يمنحه الله على الإخلاص الذي هو من خصائص القلب
وإنك لعلى خلق عظيم :الخلق العظيم, من صفات العقل والقلب
فستبصر ويبصرون : والبصيرة من وظائف العقل والقلب
بأيكم المفتون :والفتنة من أمراض القلب
فالعقل السليم الرزين فيه إيضاح واعتدال واستفال وانفتاح وطلاقة, يرتاح إليه من يستمعه, فيكون فيه الصوت الجميل المريح, صوت المنطق الهادي والاعتدال, وهي صفات حرف نون
ومن الأسماء الحسنى: الحنّان, والمنّّان, وفي كل اسم منهما تتكرر النون ثلاث مرات, وأسماء الله: المؤمن المهيمن الباطن الغني المغني النافع النور المانع
ومن أسماء الأنبياء نوح يبدأ بالنون, ويونس تتوسط النون , وسليمان ينتهي بالنون
وحرف (ن) يدل على الذات والشيء المكنون, الذي يحوي شيئا داخله, والنون تعبر عن الذات, في ضمير المتكلم, فأقول (أنا) همزة السلطان , ونون الذات, ومدّ الاستغراق, فإن كان المتحدثون أكثر من واحد, وإنما تجمعهم قضية واحدة, أو تربطهم معا علاقة ما, فيقولون (نحن) نونان للتعبير عن ذاتين, يضمهما حرف الحاء الدال على عمق العلاقة (حبيب – حميم – حسيب- رحم – رحمة- ..)
ونون تدخل على الفعل تدل على جماعة المتكلمين أو مجموع ذواتهم المتعددة فنقول: نريد, نسمع, نبصر, نكتب, وهكذا
النون تدل على شيء داخلي, فمن أعضاء الجسم: (بطن- أذن- عين- جفن- سنّ- لسان) وكلها تدل على الداخل, أما (أنف) ففيها الشهيق للداخل والزفير للخارج, وهو خروج الهواء أو النفس من الأنف.
ونواة, وممنون, ومجنون (ربما يدل حرف الجيم على خروج فيعكس مدلول النون للذات التي تحوي شيئا, ومن ذلك: جنّ, جنازة.
ووجود نونين في الكلمة, يدل على شيء داخل شيء فكلمة (جنين) فيها نونان بينهما ياء مدية تدل على تواجد متداخل, ويسبقهما حرف الجيم للقدوم من الخارج إلى الداخل- وكلمة أنين تدل على ألم داخلي, وكذلك حنين, منمنم, خُنّ, مكنون.
والكلمات (نيّة- نواة – نفس – سكن) تدل على شيء داخلي, فإذا أعقبت الياء المشددة المكسورة, فإنها تدلّ على داخل الداخل.
أما وجود النون ثلاث مرات في اللفظ, فإنه يدل على شيء داخل شيء داخل شيء ثالث, فنقول: نِنّي العين.
وقد كانت سورة نون والقلم هي ثاني السور نزولا بعد (اقرأ) على قول من الأقوال, وقد خاطب الله سبحانه بها نبيه صلّى الله عليه وسلم شخصيا, في المرحلة المبكرة والأولى لإعداده للنبوة, ولتأهيله لها, يثبته بها, ويطمئنه بالغنّة التي في النون, ويمتدح فيها عقله وخلقه, ويؤكد له أنه على الطريق نحو خلق عظيم هو منهاجه وما بُعِث ليتممه صلّى الله عليه وسلم
ونون اسم للحوت, فهو في باطن البحر, وهو نفسه له باطن ضخم.
ويونس عليه السلام سماه الله (ذا النون) وقد كان مضموما في بطن الحوت, في بطن البحر, وقد جاء ذكره في سورة نون باسم (صاحب الحوت) أي (ذو النون, أو ذو الحوت).
وهناك نون النسوة, كقولك كتبن, قرأن.
ومن أسماء النسوة: نساء, أنثى, بنت, وكلها تحتوي على حرف النون
وبنت ونبت لهما نفس الحروف بترتيب مختلف: بنت: إبداء بعد إخفاء, لذات ساكنة, وهو شأن البنت, تبدو فيها مظاهر البنت, وفيها نواة بذرة الطفل. ونبت ذات متحركة بالفتحة, بدت بعد إخفاء بالباء المفتوحة, وهو شأن بذرة النبات التي تبدو حركتها بعد إخفاء
وقد تكون النون المشددة للتأكيد كقولك: لأضربنّ, وهو تأكيد لأداء الفعل في ذات معينة يقع عليها الفعل.
فإذا جاءت النون في نهاية الكلمة, دلت على خروج شيء من داخل مكنونه, مثل قولك: فتن, بان, عنّ, قرين, كفن, كمن, عفن, شجن, غنّى, جنون.
وكلمة نونة في المعاجم هي الكلمة من الصواب, وهي تدل على أعماق الأعماق.
وقد تكون نون هي تعبير عن المخ والقلب أو هي العقل, والذات الواعية, والقلب في القرآن يأتي بالأعمال التي ننسبها إلى العقل, والوعي والتصرف (لهم قلوب لا يعقلون بها)
وهذه كلمات مبدوءة بحرف النون, قد توحي بمدلوله. وهي تحتاج إلى تحليل لكل حرف فيها حتى يتبين مدلول حرف النون, وربما يتضح ذلك بعد الوصول إلى مدلولات باقي الحروف كلها:
نبع: النون ذات مفتوحة, بدت بعد إخفاء بالباء مع سكونها, وارتفعت بالعين
نهر: النون ذات مفتوحة, تحركت بالفتح في رخاوة (الهاء مفتوحة مثل “إن الله مبتليكم بنهَر”, ومثل “وفجّرنا خلالهما نهَرا”), مع تكرير للحركة بالراء.
نكر: ذات مفتوحة, أخفيت (الكاف فيها همس أو خفاء) بتكرير الراء, أي استمرار الإخفاء.
ويحتاج الأمر إلى الوصول إلى مدلول كل حرف, لنستطيع تحليل الكلمة, لذا ربما يكون التحليل قبل ذلك قاصرا.
وهذه كلمات للتحليل تشترك في حرف النون: (نسيم, نمل, نحل, نعام, نشاط, نشع, نشف, نتق, نتف, نثر, نجح, نجم, نحت, نخل, ندم, نذل, نزع, نزل, نزح, نسأ, نسب, نسي, نسف, نسق, نسك, نسل, نسناس, إنس, جان, نصف, نطح, نظم, نعجة, نغم, غنة, نفل, نفر, نفق, نفع, نفس, نفش, نقل, نكس, نكب, , نما, نمر, نميمة, نهى, نهر, نهل, نهش, نهب, نهج, نهم, نوى, نوال, نال, نيئ, نبات)
● ق والقرآن المجيد
حرف قاف يحوي على الحروف: ق, والألف المدية, ثم الفاء. قـ
ورسم الحرف رأس دائرية مفتوحة, وعليها نقطتان, ولها رقبة. والقاف فيها تقويس لأعلى (قبو, قبة, قناة, قوس, قاع, قمة, ..) وقل النقط, فإن رسم حرف القاف باللسان, فيه اختلاف عن رسم الفاء, وعن رسم العين والغين, يميز كل حرف عن الآخر دون نقط
ومخرجه أقصى اللسان مما يلي الحلق وما فوقه إلى الحنك
وصفات القاف: الجهر (الظهور والإيضاح والإعلان), والشدة (القوة) والاستعلاء (العلو والارتفاع) والانفتاح (الافتراق) , والإصمات (المنع) والقلقلة (الاضطراب والاهتزاز)
وهي صفات قوة: واستعلاء وجهر. وصفات وضوح وحسم وحزم ففيها الانفتاح, وفيها الإصمات, أي القرار الحاسم.
تعالج السورة حالة (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب* أإذا متنا وكنا ترابا؟ ذلك رجع بعيد!) فهي تأخذهم من العجب والتعجّب من البعث بعد الموت, إلى الإقناع بإمكانيته وضرورته, وأن مظاهر الدنيا من حولهم تدُلّ على البعث. أي بإيضاح وإعلان مع فصل وحسم للحق عن الباطل (الانفتاح والمنع) ويظهر في المختصمين وحسم الله لخصومتهما (مايبدّل القول لديّ)
والسورة حديث للعقل والبصر الذي يتساءل عن أمر عجيب لا يصدقه العقل, لهذا فأسلوب السورة فيه إقناع.
ومن الأسماء الحسنى: القيوم, القادر, القدير(والله قدير), القوي, القهار, القابض وتبدأ كلها بالقاف. وفيها القوة والجهر والاستعلاء والحسم, والإصمات أو المنع, مع الانفتاح
والخالق, الرزاق, , الحق وتنتهي كلها بالقاف: وهي صفات تنتهي بالظهور والإيضاح.
والمقتدر, المقيت, المقدم المقسط الرقيب, وتتوسطها القاف
ومن أسماء الأنبياء إسحاق, ويعقوب, وبعد استكمال التعرف على مدلولات الحروف كلها بإذن الله, يمكن التعرف على صفات الأنبياء والرسل عليهم السلام, ومدلولات أسمائهم.
ويستعمل حرف القاف في التعبير عن قمة, وقاع وقاعدة وقطب, وقوس, وقبة, قبلة, قصر. وتشترك كلها في وجود تميز في الارتفاع أو الانخفاض, والسطح الدوراني المقوّس, وكلمات قوة وقيد, وقطع , وقرار, وتدل على قوة وحسم, وكلمات قمر ,قلب ,قبر , قلع, قلق.
● ص والقرآن ذي الذكر صـ
(ص) حرف الصاد, نطق الصاد فيه حرف ص, والألف المدية, ثم حرف الدال.
وهو حرف استعلاء(العلو والارتفاع), فيه الهمس(الخفاء) والرخاوة (اللين) والإطباق(الإلصاق), والإصمات (المنع) والصفير القوي, وهي صفات القيادة والخلافة, والسلطة, والاستعلاء كما رأينا في سورة ص. وبالتالي يدخل في الألفاظ (صبر, صمد, صحا, صرع, صلح, صبغ) وقد سبقت الإشارة إليها كأول مفتاح للحروف
ومن الأسماء الحسنى: الصبور,
ومن أسماء الأنبياء: صالح
ومن أسماء سور القرآن: العصر, الإخلاص, ص, القصص, الصافات, فصّلت, الصفّ, النصر.
وكلمة نصر: ذات مفتوحة (نَ), استعلت واستقرت أو سكنت على ذلك (صْ), بتكرير أو باستمرار (الراء)
● ألمص الأعراف
ء ل مـ صـ
(أ) حرف الألف أو الهمزة يخرج من أول مخرج من مخارج الجوف, فحين يكون في بداية اللفظ, يدل على البدايات والأوليات, ويدل على السلطان والأول في كل شيء والأفضل, فكل لفظ يبدأ بالهمزة يدل على بادئ أول, مثل (لفظ الجلالة الله, أول, أب, أم, أخ, أستاذ, أساس) وكلمة آخر, فيها همزة وألف مدية حيث يدل اللفظ على نهاية فتمدّ الهمزة. وصفات الهمزة الجهر والشدة والاستفال والانفتاح والإصمات, ففي الجهر الوضوح والبيان, وفي الشدة القوة والقدرة وفي الاستفال الرحمة والرأفة وفي الانفتاح البراءة والعتق, وفي الإصمات الحبس والمنع, وكل هذه الصفات من صفات المسئول الأول. كما أن حرف الهمزة يستعمل في الأمر وفي المتكلم, وفي التفضيل. كذلك فإن أنبياء الله ورسله عليهم السلام, الذي يبدأ منهم بالهمزة, فهو بداية أولى لسلسلة من الأنبياء, فإبراهيم أنجب إسماعيل, ومنه محمّد صلّى الله عليه وسلم, وأنجب إسحاق, وأعقبه يعقوب, ومن ذلك فإن إدريس لابد أن يشترك معهم في بعض الخصائص, وهذا مما يساعد على التعرف على نبي الله إدريس الذي لم ترد تفاصيل كثيرة عنه في كتاب الله.
(ل) حرف لام, رسمته كسنارة, مستقيم مثل الألف, ثم ينحرف أسفله وكأنه يربط بين أمرين, نقول (له, لنا, إلى, ليكون, سلسل, سلالة, رابطة بين مجموعة متعاقبة)
(م) من سورة الشعراء, فإن حرف الميم في نهاية اللفظ, يدل على مهمّة وضم وجمع, مثل (أمّ, ضمّ, لمّ, كتم, رمّ, عمّ, همّ, جمّ) وفي بداية اللفظ يدل على بداية التحكم (مكّن, ملك, مسك, متين) ومحمّد رسول الله, بالميم المضمومة في أول اسمه صلّى الله عليه وسلم, ضم كل الرسالات التي سبقته, وبالحاء المفتوحة, حسم وحزم وحمل وحرّك الدنيا, وبالميم المشددة المفتوحة, ضمت رسالته الناس عامة, والجن والإنس والعالمين, وبالدال الخاتمة للاسم, ختم النبيين, فالدال يدل على نهاية كما سيتبين إن شاء الله.
وبالرجوع إلى ألمص الأعراف, وهي سورة تأهيل الأمة القائدة, ألاحظ محاور بدت لي واضحة الآن بعد ما فتح الله به في الحروف.
فسورة الأعراف تبدأ بأمر الله ملخصا (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم), ثم تبين أسّ البلاء في المخالفة وهو إبليس عليه لعنة الله, ثم ما وسوس به إلى آدم وزوجه, ثم ميثاق الفطرة الذي يبدأ بالنداء (يا بني آدم) أربع مرات, فيبين ملخص أوامر الله والتحذير من مخالفتها, والقسط والعودة إلى الفطرة إن خالفنا, ثم مستقر المتبعين في الجنة, ومستقر المخالفين في النار, ثم سلطان الله وهيمنته من مقتضى (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام, ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا, والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره, ألا له الخلق والأمر , تبارك الله رب العالمين) فلو اتبعنا ما أنزل إلينا, نكون قد سلمنا لله بأنه ليس له الخلق فقط, وإنما له الأمر كذلك. وارتباط اتباع ما أنزل إلينا من ربنا, بالبركة في الرزق, وارتباط المخالفة بالرزق النكد.
هذا الفاصل من السورة يبين حق الله في أن يتبع أمره وأن لا يتبع من دونه أولياء, وهو على ما يبدو يتلخص في حرف الألف, وهو حرف الملكوت كما ذكر ابن العربي, الذي يخرج من الجوف, وفيه صفات الأول والظاهر والأفضل والقوي والشديد الالتزام بموضعه, وفي نفس الوقت المنع والإصمات والاستفال برحمة وحنان, والانفتاح, ومنه همزة التفضيل, وهمزة السؤال, والاستفهام الذي هو من الحساب (وسوف تًُسألون).
ثم يأتي المحور الثاني أو الفاصل الثاني, الذي يبدأ مع قصص الأنبياء من نوح إلى موسى عليهم السلام, فيبدأ من (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه) ويستمر في سرد القصص حتى (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم, خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) وفيه قصص الأمم السابقة حتى نتواصل معها ونأخذ خبرتهم وما فعلوا وما فُعِل بهم, لمن اتبع منهم ولمن لم يتبع, ولم يأخذ ما آتاه الله بقوة, و يستكمل نفس المحور على مستوى الأفراد لبيان نبأ الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين, ويقول الله فيه (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه, فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث, ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله) وينتهي بمن ذرأهم الله لجهنم, (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها, أولئك كالأنعام بل هم أضل, أولئك هم الغافلون)
ويتضح في هذا الفاصل قصص المتبعين وقصص المخالفين, ومصائر كل منهم, على مستوى الأمم وعلى مستوى الأفراد, بمن فيهم الإنس والجنّ.
وعلى ما يبدو أيضا أن تلخيص القصص والخبرات التي فيها, والتي تغني عن السير في الحياة لتجربة كل شيء حتى لا نخطئ حيث أخطأوا, وتلخيصه في حرف (لام) وهو حرف الصلة.
ويتلو ذلك المحور أو الفاصل الثالث, وهو يتحدث عن المعاصرين, والتصرفات المتوقعة منهم, فيبدأ من توجيه الناس إلى أسماء الله الحسنى التي تشمل كل ما يحتاج الإنسان إليه, فيتوجه بالاسم المناسب لحاجته, ويترك التوجه إلى من دون الله, الذين يلحدون في أسمائه, حيث لا حاجة للإنسان بهم, ويكفي الله سبحانه بأسمائه الحسنى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها, وذروا الذين يلحدون في أسمائه, سيجزون ما كانوا يعملون) ويتحدث عن الأداء المتوقع من الناس, فمنهم من يهدون بالحق وبه يعدلون, ومنهم الذين كذبوا بآيات الله (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) ويبين اختلاف تصرفات الناس حسب شعورهم بالحاجة إلى الله, فلما تنقضي حاجتهم (جعلا له شركاء فيما آتاهما, فتعالى الله عما يشركون) إلى أوصاف هؤلاء (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا, وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون)
وهذا يتم تلخيصه بحرف (ميم) وفيه التكليف والضم والمهامّ.
ثم المحور الأخير في السورة , يصل إلى القائد, بعد أن وجه الله المستخلفين إلى اتباع ما أنزل إليهم من ربهم, ثم سرد عليهم قصص الأمم السابقة ومصائر المتبعين وغير المتبعين, ثم بين التصرفات المتوقعة من المعاصرين, وهنا وبعد النضج والوعي الذي نشأ مما سبق, تأتي التوجيهات إلى القائد, أو الخليفة, أو المستخلفين وكيف يتصرفون مع الناس بمختلف طوائفهم: (خذ العفو, واأمر بالعرف, وأعرض عن الجاهلين* وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله, إنه سميع عليم* إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون* وأخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) إلى أن يربط الخليفة بالله رباطا وثيقا خاصا, ارتباط بالله من خلال استماع قرآنه والإنصات(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) ثم ارتباط خاص سري مع الله بالذكر( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) وارتباط بالله بالذين عنده ليكون تصرفهم وحالهم مستهدفا وأملا لخلفاء الله في الأرض أن يصلوا من المكانة مثل الذين عند ربك (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون)
وهذا يتم تلخيصه بالصاد, حرف الاستعلاء والقيادة
وبالتالي فإن الهمزة أو الألف ملكوت وأمر من صاحب الأمر, واللام صلة وخبرات مكتسبة بالقصص, والميم تكليف وأعمال وتصرفات, والصاد قيادة. والله أعلم
يأمر الله سبحانه بالاتباع, مع بيان عاقبة المخالفة, ويعطي الصلة والخبرة ممن سبقونا, ويكلفنا بالعمل فنعمل أو لا نعمل, ثم يصل بنا إلى القيادة والاستخلاف فيجعلنا خلفاء في الأرض (ألمص)
ألف الجهر الرخاوة الاستفال الانفتاح الاصمات الخفاء
لام الجهر التوسط الاستفال الانفتاح الاذلاق الانحراف
ميم الجهر التوسط الاستفال الانفتاح الاذلاق الغنة
صاد الهمس الرخاوة الاستعلاء الاطباق الاصمات الصفير
وستأتي مدارسة السور المفتتحة ب (ألف لام ميم) بإذن الله, نتعرف منها على محاورها الثلاثة, وعلى عدم وجود محور الصاد.
ولفظ الجلالة يبدأ بالألف, واسم الله الأعلى,(تفضيل من العالي).
ومن أسماء الأنبياء:, آدم, وفيه ألف بمدّ لأنه أول الإنسان, وإدريس التالي لآدم, وتلاه كل الأنبياء, وإبراهيم, يبدأ بهمزة مكسورة, حيث نسأ منه إسماعيل وإسحاق, ونسأ من إسماعيل محمد صلّى الله عليه وسلم وعليهم إجمعين, ومن إسحاق نسأ يعقوب وبنوه.
● يس ي س
(س)حرف السين له صفات الاستفال والرخاوة والهمس والانفتاح والإصمات والصفير الرقيق, فتدل الألفاظ التي تبدأ به على ذلك مثل: (سلام, , سماحة, سعادة, سبيل) والألفاظ التي يتكرر فيها تدل على مزيد من الاستفال والرخاوة والهمس (سياسة, سلاسة, سلسبيل). أما السين التي في سورة الشعراء (طسم) يعبر عنها المحور الثاني للسورة الذي يستعرض السهولات التي جعلها الله لرسوله, وكل لفظ يبدأ بحرف السين يدل على ذلك (سهولة, , سرور, سماحة, سلام, سبل, سرّب), وفي تكرار حرف السين في اللفظ يدل على مزيد من السهولة(سياسة, سلاسة, سلسبيل). وفي كتاب الله, لفظ (مسيطر), ولفظ (مصيطر), والأول يدل على إحكام الهيمنة المستمرة على الشيء ولكن بسياسة, أما اللفظ الثاني فهو يدل على إحكام الهيمنة المستمرة على الشيء بالقوة والشدة, فالولايات المتحدة الأمريكية تصيطر الآن على العراق وأفغانستان, ولكنها تسيطر على كثير من الدول العربية الأخرى التي لم تدخلها بالقوة وإنما بالسياسة.
وسورة يس, يعالج الله فيها حالة المقمحين, وهم الذين توقفوا عن قبول أية نصيحة من المرسلين, تماما مثل البقرة التي تربطها بحبل, وتجرها فتسير وراءك, وفجأة تقف فتأبى السير, فتشدها بالحبل فتظل متشبثة بالأرض مهما حاولت معها, ورقبتها ورأسها امتدت للأمام من أثر شدها بالحبل, فتبدو وكأنها تنظر إلى الأمام, ولكنّ عينيها تنظران إلى أسفل باتجاه الحبل لغيظها منه, غير أنها لا ترى أسفل منها لأن الرأس مشدود للأمام, وبالتالي فهي لا ترى أمامها, ولا ترى أسفلها, ولا تستطيع تحريك رأسها يمينا ولا شمالا, فلا ترى من أي زاوية, وتأبى الانقياد, فيقال: البقرة مقمحة. وهكذا كان حال الكافرين قبيل نزول سورة يس, فرغم محاولات رسول الله صلّى الله عليه وسلم هدايتهم, وقفوا وأبوا. فعلّم الله رسوله كيف يتصرف مع مثل هؤلاء, أن يرسل إليهم رجلا من أنفسهم ينصحهم فيسيرون معه ما شاء الله لهم الهداية, ويستعمل معهم أشكالا متعددة من النصيحة بينها الله بعد قصة أصحاب القرية, بدءا من (ياحسرة على العباد…) إلى آخر السورة.
وبالتالي يمكن أن تدل فاتحة السورة ( يس) على محتواها, فتكون ( ي) دالة على الاعوجاج أو الميل عن الوسط, وتكون سين سياسة وسهولة وسلاسة ويسر.
ي الجهر الرخاوة الاستفال الانفتاح الاصمات
س الهمس الرخاوة الاستفال الانفتاح الاصمات الصفير
والتغيير الظاهر في الجدول من صفات الحرفين, هو في الجهر في اليا, تحول إلى همس في السين, ومعه صفير
و (ي) فيها صفات الجهر والرخاوة والاستفال والانفتاح والإصمات أي المنع، فهو جهر بإصمات
و (س) فيها صفات الهمس, والرخاوة والاستفال والانفتاح والإصمات والصفير
كما أن فيها مد لازم يدل على طول مدة المعالجة.
ومن الأسماء الحسنى التي تحوي حرف السين: السلام, القدوس, السميع,
ومن أسماء الأنبياء: إدريس, وإسماعيل وإسحاق وموسى وعيسى, ويونس, وسليمان, واليسع, ويوسف.
● كهيعص مريم
ك: الكاف: الهمس (الصوت الخفي الضعيف), الشدة (القوة, والتي ربما بوجودها مع الهمس تدل على شدة الضعف, كما تعني الشدة لزوم الشيء مكانه) والاستفال(الانخفاض), والانفتاح (الافتراق) الإصمات (المنع) وهي مماثلة لحالة زكريا عليه السلام: (إذ نادى ربه نداء خفيا, قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا, ولم أكن بدعائك رب شقيا)
ك الهمس الشدة الاستفال الانفتاح الاصمات الهمس
هـ الهمس الرخاوة الاستفال الانفتاح الاصمات الخفاء
ي الجهر الرخاوة الاستفال الانفتاح الاصمات اللين
ع الجهر التوسط الاستفال الانفتاح الاصمات
ص الهمس الرخاوة الاستعلاء الاطباق الاصمات الصفير
ومخرج الكاف من أقصى اللسان وما يحاذيه من الحنك الأعلى: تحت مخرج القاف قليلا,
ويرسم اللسان الشكل المبين, وفيه ارتفاع وسط اللسان, ثم نزول طرفه
وتشترك الكلمات البادئة بحرف الكاف في مدلولات متقاربة,
فنقول: كبس, كتم, كثف, كحت, كدّ, كذب, كرّس, كسف, كشف, كظم, كفر, كمّم, كنّ, كوى, كيّل. وكلها تعبر عن حركة ضغط من أعلى إلى أسفل, بمعاني فرعية مختلفة, لاختلاف بقية الحروف.
هـ الها: الهمس (الصوت الخفي الضعيف) والرخاوة (اللينة الضعيفة), والاستفال (الانخفاض), الانفتاح (الافتراق) والإصمات (المنع), والخفاء (الاستتار) وفيه صفات يحيي الصبيّ (خذ الكتاب بقوة)
(هـ) حرف الهاء له ست صفات ضعف وليست له أية صفة للقوة. ففيه الهمس والرخاوة والاستفال والانفتاح والإصمات والخفاء, فكل ما يبدأ به يدل على تلك الصفات, مثل: (هباء, هراء, هيام, همس, هش, هفّ, هلهل, همهم, هرب, همل, هشيم, هايف) وحرف “الهاء” يدل على رخاوة وضعف وهوان, والألفاظ التي تبدأ بحرف الهاء تدل على ذلك, (هوان, هراء, هب, همس, هطل, هرب, همل, هدّ, هفوة, هش, هاموش)
يا الياء المتحركة:الجهر(الوضوح والظهور والإعلان), والرخاوة (اللينة الضعيفة) والاستفال (الانخفاض) والانفتاح (الافتراق) والإصمات(المنع) وفيه اللين.
ع العين:الجهر(الظهور والإيضاح والإعلان), والتوسط (الاعتدال), والاستفال (الانخفاض), والانفتاح (الافتراق), والإصمات (المنع)
ص الصاد: الهمس(الصوت الخفي الضعيف), والرخاوة(اللينة الضعيفة), والاستعلاء (العلو والارتفاع), والإطباق (الإلصاق), والإصمات (المنع), والصفير
وباعتبار الصفات المشتركة, والتغيرات التي تحدث على اللفظ (كاف ها يا عين صاد), فإنه يمكن تلخيصه في الحركة من الصوت الخفي الضعيف, والاستفال والافتراق, والمنع, وهو حالة زكريا, وهي المرحلة التي كان فيها الطفل أمنية وينبغي أن يخلص أبواه النية لله أن يجعله وارثا للكتاب ومن السابقين بالخيرات بإذن الله, ثم إلى الرخاوة مع الاستفال والاستتار وهي مرحلة الصبي في يحيي (خذ الكتاب بقوة), إلى اليا, وفيها الجهر والظهور, مع اللين, وهو أقوى من الرخاوة, وهي حالة الغلام في عيسى, ثم التوسط والاعتدال كما في إبراهيم وموسى في مرحلة الشباب, وأخيرا الاستعلاء كما في إسماعيل (وكان يأمر), وإدريس (ورفعناه مكانا عليا)
والسورة تبين كيفية تربية الذرية بصفتها وارثة للكتاب بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم, لتأهيلها للقيادة. في كل مراحل العمر.
ومرحلة النية قد تستغرق سنين طويلة ربما تبدأ من قبل الزواج, وتستمر حتى يأذن الله بخلق الطفل, وفي الكاف مدّ لازم (6 حركات) أما مرحلة الصبي ومرحلة الغلام, فتستغرق كل واحدة مدة حول العشر سنين تزيد أو تنقص قليلا, وفي حرفي الها واليا مد حركتين, أما مرحلة الفتوة والشباب تستغرق أكثر من عشرين سنة, وحتى سن الأربعين, ففيها مد حرف العين(4 حركات) ثم تتلو بعد ذلك مرحلة بلوغ الأشد, وتستمر إلى آخر العمر, وربما تزيد عن العشرين عاما ففي الصاد مدّ (6 حركات)
والكاف تشترك في الكلمات الآتية على سبيل المثال:
كُن: شيء خفي,(ك) أوغير موجود, فأراده الله شيئا, أو قضاه سبحانه أمرا, فأصبحت له ذات وكينونة (ن).
كشف: شيء خفي (ك) فظهر وتفشّى (ش) وهي حرف تفشّي, والفاء خروج سهل أو حركة سهلة خفيفة للخارج
كتم: شيء خفي (ك) , التزم موضعه بشدة وهمس(ت) ثم أصبح ملموما أو مجتمعا (م)
كسد: شيء خفي (ك) أصبح مستفلا (س) وصل إلى نهايتها (د) فالدال ينطقها اللسان في نهاية مشواره داخل الفم, وقبل أن يخرج من وراء الأسنان فيصبح (ذ) فيدل على نهاية كما سيأتي تفصيله فيما بعد.
كدّس: شيء خفي (ك) وصل إلى نهايته بشدة (دّ) فأصبح مستفلا (س)
كمل: شيء خفي (ك) تم لمه, وجمعه وضمه (م) وأجزاؤه موصولة (ل)
كدم: شيء خفي (ك) وصل إلى نهايته (د) ثم تم لمه وجمعه وضمه (م)
كمد: شيء خفي (ك) تم جمعه وضمه (م) ثم وصل إلى نهايته (د)
والكلمات الآتية يمكن تحليلها أيضا, ولكن لم تظهر معي بعد مدلولات بقية الحروف
كفل, , كبس, كحت, كفر, كلم, كشر, كسر, كسم, كبد
وتتأكد مدلولات الها واليا والصاد التي سبق تناولها(والله أعلم)
كما تبدو ملامح الكاف في الخفاء , وتبدو ملامح العين في الاعتدال والتوسط, مع الجهر والظهور
● طه
وقد سبق الإشارة إليها في المفاتيح الأولى للحروف, (المفتاح الثالث بعد ص, وبعد طسم)
وهي تمثل (ط) الحرف الأقوى, يتلوه(هـ) الحرف الأرخى والأضعف.
كما سبق تحليل الحرفين مبدئيا, ونحتاج إلى المزيد
(ط) صفات الحروف يستدل منها على مدلول اللفظ, فالطاء كل صفاتها الستة صفات قوة, وليست لها أية صفة ضعف (الجهر والشدة والإصمات والاستعلاء والإطباق والقلقلة) فكل لفظ يبدأ بالطاء يدل على هذه الصفات. مثال ذلك: (طوفان, طغيان, طلقة, طامّة طاغوت, طبع, طمس, طلق, طخ) والاستثناء يبحث فيه الحروف التالية للطاء (طيّب), ويتلو الطاء ياء مشددة مكسورة. فكان حرف “ط” دالا على صعوبة وشدة وقوة, والألفاظ التي تبدأ بحرف الطاء, تدل على ذلك, (طبع, طمس, طغى, طلق, طفر, طار, طوفان) وهناك ألفاظ لا تدلّ على ذلك, فتفحص حسب الحروف التالية للحرف “ط” وحسب تشكيل الحرف, حسب جذر الكلمة الذي يدل على مدلولها, الذي ربما لا يكون ظاهرا للوهلة الأولى لمن اعتاد على استعمال اللفظ دون الرجوع لجذره, مثال ذلك كلمة (طِفل) فالطاء مكسورة, والفاء حرف يعكس التأثير وهناك المزيد من التوضيحات تأتي فيما بعد.
ومن هنا أصبح للفظ (طه) معنى ليس موجودا في قواميس اللغة العربية, وهو يدل على قوة يعقبها ضعف, أو شدة يتبعها رخاوة, ومنها مثال اللفظ (طهى) وهو الفعل الذي يحدث في طعام قوي اللحم مثلا فيؤدي به إلى أن يصبح هينا سهلا للمضغ وللطعام, وكلمة (طهر), هنا يعبر حرف (ط) في شدته عن لزوم الشيء مكانه, ثم تهوينه ورخاوته (هـ), وتكرير ذلك مرارا, (ر). فإذا ضعّفت الهاء أي (طهّر) دلت على التأكيد على ترخية وتهوين الشيء اللازم لمكانه, واستمرار ذلك.
● طسم الشعراء
وقد سبقت الإشارة إليها كثاني مفتاح للحروف , ولكنها مفتاح المفاتيح للسان عربي مبين, وتتلخص في (ط) شدة أو صعوبة أو ارتفاع وعلوّ, ثم (س) سهولة وسلاسة ويسر, ثم (م) مهمّة وضمّ وتكليف.
● طس النمل
تبدأ سورة النمل بداية فريدة. يوجه الله فيها الحديث للمؤمنين, (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين* هدى وبشرى للمؤمنين), وكانت فاتحة سورة طه موجهة لذات رسول الله صلّى الله عليه وسلم, تخرجه مما يشعر به من شدة (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) وفاتحة سورة الشعراء (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) تخرجه مما يشعر به من احتمال ألا يكونوا مؤمنين. وهنا في سورة النمل يوجه كتاب مبين (هدى وبشرى للمؤمنين) يهديهم الله كيف يشاركون في التغيير بأنفسهم, ولا يكونوا سلبيين, وتبشرهم بعون الله لهم, وبالقصص التي نصر الله فيها الدعوة بسبب أداء دور المؤمنين في الدعوة, فغير الله ما بهم.
ثم هنا في سورة النمل, يبين الله سبحانه أن لكل مؤمن دورا في الدعوة إلى سبيل ربه, بما وهبه الله من نعم وفضل. بدءا من تسع آيات مبهرات منحها لموسى عليه السلام, إلا أنهم لما جاءتهم آيات الله مبصرة قالوا هذا سحر مبين, وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا, فعاقبهم الله على فسادهم.
وبين سبحانه أن نصيحة نملة صالحة, ساهمت في إنقاذ أمتها من التحطيم تحت أقدام سليمان وجنوده وهم لا يشعرون,
كما أن الهدهد بقدرته على الطيران والسفر البعيد والاستطلاع, بعين المؤمن, كان سببا جعله الله لهداية أمة من الناس كانوا يسجدون للشمس من دون الله, وزين لهم الشيطان أعمالهم, فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.
كما أن عفريتا من الجن يملك القوة والأمانة عرض المساهمة في هداية سبأ إلى الإسلام, وعرض الذي عنده علم من الكتاب استخدام ما وهبه الله في الدعوة إليه.
وعلى الجانب الآخر, فإن تسعة رهط من قوم صالح كانوا في المدينة يفسدون في الأرض ولا يصلحون, تآمروا على قتل صالح وأهله, ومكروا مكرا, كما فعل رهط قريش, ولكن الله عاقبهم على مكرهم, وأنجى الذين آمنوا وكانوا يتقون,
كما انتقد لوط قومه لعصيانهم وهم يبصرون, بل هم قوم جاهلون,
ثم أثنى الله على عباده الذين اصطفى, وعدّد الآيات الكونية التي كان ينبغي أن يهتدي بها الناس.
وتنقسم السورة إلى محورين فقط, فتعرض كلا من المحورين في كل قصة من القصص, محور استعراض الصعوبات التي واجهت الدعوة إلى الله, ثم تتلوها التسهيلات التي تمت على أيدي عباد الله الذين اصطفى, فساهموا بإيجابية في مواجهة الصعوبات والأزمات, كل حسب طاقته ومقدرته وعلمه, ومدهم الله بالمدد.
وتكرر في السورة لفظ السلام بمرادفاته ولفظ العلم بمرادفاته, كأكثر تكرار في سورة من سور القرآن. فبين الله أن العلم يلقي مسئولية على صاحبه في الدعوة إلى الله, فعلم النملة بقدوم سليمان وجنوده, وبما يمكن أن يحدث لعبورهم وادي النمل, دفعها لأداء واجبها نحو أمتها من النمل, وعلم الهدهد بما رأى من أمر سبأ وملكتهم, دفعه للمشاركة في دعوتهم لدين الله, وكذلك الذي عنده علم من الكتاب, ساهم بما وهبه الله من علم في هداية الله لسبأ وملكتهم. وكان ترتيب القصص في السورة على قدر الآيات التي وهبها الله لعباده الذين اصطفى وساهموا بها في الدعوة إليه. فتسع آيات مع موسى, وسليمان أرسله الله بعلم منطق الطير, وتسخير الجن والإنس والطير فهم يوزعون, والإتيان بعرش ملكة سبأ قبل أن يرتد إليه طرفه, ثم ببناء صرح ممرد من قوارير. حتى أسلمت.
وكان إهلاك الكافرين من قوم صالح آية لقوم يعلمون,
غير أن المحور الأخير في سورة الشعراء, لم يتكرر هنا في سورة النمل, وهو محور التكليفات, فليس فيها تكليفات مباشرة لرسول الله ولا للمؤمنين, ولكنها هدى وبشرى للمؤمنين.
وبالتالي كانت فاتحة السورة (طا سين) وليس فيها (ميم)
● طسم القصص
(طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) هي أيضا آيات الكتاب المبين
تتوجه السورة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم, ولقوم يؤمنون, (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)) وتبدأ بالصعوبات الشديدة (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
ثم تبشر بالسهولة والتيسير(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)) وهكذا في كل مرحلة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون عليه لعنة الله, تستعرض الصعوبات ثم السهولة والتيسير, هذا في المحور الأول,
ثم تعقب بالمحور الثاني المهام والتكليفات: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88))
وبالتالي تؤكد سورة القصص مدلولات الحروف طسم
● السور ذات (ألر)
من مدارستي للقرآن بترتيب نزوله, تأتي السور ذات (ألر) متوالية إلا من سورة إبراهيم, وفيها تكرار للحكمة, (تلك آيات الكتاب الحكيم) يونس, و(كتاب أحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير) هود, و(إن ربك عليم حكيم) وتكرار الاسمين (العليم الحكيم) في يوسف, و(إنه حكيم عليم) في الحجر.
وحرف الراء له صفة منفردة, وهي التكرير, والحكمة من (حكم) وهي أصل واحد يدل على المنع, وبالتالي فإن الحكمة هي عبارة مانعة من الخطأ ومن الجهل, ومن الظلم, ومن الكفر, ومن الذنب, وهي عبارة يمكن تكرارها في أي زمان, وفي أي مكان.
(ر) حرف الراء له صفة منفردة, وهي التكرير, ومن خلال السور ذات ألر, فإن الحكمة تحتاج إلى التكرير بعد الإقناع بها في كل زمان ومكان. مثل: (ردد, رجّ, رفع, رشّ, ردم, رجم, رشد, ردّ, روى, برّر)
والهمزة الأولي فيها السلطان والأول والأساس, فيبني الله سبحانه سلطانه في القلوب والوجدان. ثم يعقب في المحور الثاني من كل سورة, بالصلة بالقصص, ثم تنتهي وتتوج بالحكمة في نهاية السور..
فمثلا, سورة ألر يونس: من أولها إلى الآية (70) فيها إقامة سلطان الله في القلوب والوجدان, باعتباره يدبّر الأمر بعد أن خلق, فيصل في نهايات هذا المحور إلى أن يجعل المستمع المؤمن يعتقد ويوقن بأنه يحتاج إلى إذن من الله حتى في أمر طعامه وشرابه, حيث أن الذي يدبر الأمر في السماوات والأرض, هو أيضا يدبر الأمر لعباده, فيقول: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59))
وفي المحور الثاني, يقص الله القصص الدال على أن الحكمة مقبول الوصول إليها طالما لم تكن تحت قهر, ففرعون يمثل الذي وصل إلى الحكمة ولكن بعد أن أدركه الغرق, فلم تقبل منه: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91))
في حين أن قوم يونس قد وصلوا إلى الحكمة قبيل وقوع العذاب عليهم, وبعد أن أنذرهم يونس به, لهذا قبل منهم (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98))
ثم تختتم السورة بالحكمة البالغة التي يمكن تكريرها في أي زمان وفي أي مكان, وفي أي ناس: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)) ثم في النهاية لا يزيد الداعية تجاه العقيدة على أن يدعو الناس إليها ويترك لهم الخيار دون قهر:
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109))
وفي سورة هود, المفتتحة ب (ألر) يقول الله سبحانه في نهاياتها: (وكلا نقص عليه من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك, وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) والمحور الأول للسورة هو إثبات الحق, وإقامة سلطانه في الوجدان, وتحريكه ليكون منهاجا عمليا ليبلونا الله أينا أحسن عملا. ثم في المحور الثاني يضرب الله لنا الموعظة من قصص الأنبياء والمرسلين, وما دعوا به أقوامهم, والإخلاص لله في دعوتهم دون أن يسألوهم عليه من أجر. ثم في المحور الثالث, في نهايات السورة, يلخص الله الحكمة والذكرى التي يمكن تكرارها في أي زمان وأي مكان, ومع أي ناس. وبالتالي يتبين ربط الحروف (ألر) بتلك المحاور, أي يكون حرف (أ) ممثلا للحق, للسلطان الحق, ويكون حرف (ل) ممثلا للموعظة والصلة مع الأمم السابقة وقصصها, ويكون حرف (ر) ممثلا للذكرى, والتذكرة, والحكمة المستقاة من الحق ومن الموعظة.
وللسور دراسة منفصلة ضمن منهاج القرآن لبناء الحضارة, وضمن مدارسة القرآن بترتيب نزوله كمنهاج للبناء.
فيكون بذلك مدلول حرف الراء التكرير, ويكون كتاب (ألر) هو كتاب الحكمة, الذي يبدأ بإقامة السلطان في الوجدان والقلب (أ) , ويؤكده ويعززه بالقصص الموصولة به (ل), ثم ينتهي بالتكرير (ر)
وفي الوقت الذي يتلى حرف الألف دون مدود, نجد اللام ذات مد (6 حركات) والرا دون مد, فهي الحكمة المختصرة بعد السلطان وبعد الصلة.
ومن أمثلة الكلمات المحتوية على حرف (ر) كرّر (وفيها يتكرر حرف الراء 3 مرات, مرة بالتضعيف بالشدة. وحرّر, وبرّر, جرّ, خرّ, درّ, سرّ, شرّ, أصرّ, أضرّ, عرى, غرّ, فرّ, أقرّ, كرّ, مرّ, هرّ, وكلها تعبر عن شيء يتكرر.
● السور ذات (حم)
وأما ذات الحاميم, فهي سور غافر, وفصّلت, والشورى, والزخرف, والدخان, والجاثية, والأحقاف, ويسبقها سورة الزمر, ولها علاقة بها كمقدمة لها.
وهذه السور تتحدث عن نظام فصل الخطاب, أو الفصل في المسائل المختلف عليها, سواء كان عن طريق القاضي في المحاكم, أو عن طريق التحكيم بين الناس على أي مستوى, بدءا من خلافات أفراد الأسرة, إلى الخلافات العائلية, وإلى التحكيم بين الشركات, وغير ذلك.
ولها أيضا جزء من دراسة القرآن بترتيب نزوله, السابق الإشارة إليها, وهي باختصار كالتالي:
في سورة الزمر: الاتفاق على التحكيم عند الخلاف, وحيث أن الله سبحانه سيكون هو الفاصل في الخلافات يوم القيامة, فلابد أن نرتضيه حكما في الدنيا بأن نحكّم شريعته فينا,
وفي سورة غافر: تبدأ عملية فصل الخطاب, بعد وجود خلاف بين طرفين, يجادل كل طرف منهما للتعبير عن رأيه, فتتكرر لفظة المجادلة والجدال بتراكيبها المختلفة في السورة أكثر ما تتكرر في سور القرآن, وفيها أطول مرافعة ومجادلة في التاريخ بين مؤمن آل فرعون, وبين فرعون. ويسمى يوم القيامة في السورة (يوم التلاق) حيث يتلاقى المتخاصمون والمدعون والمتجادلون.
وفي سورة فصِّلت: نظام الشهود والقرائن والبينات, وفيها تكرير لكلمة شاهد أكثر ما تتكرر في سور القرآن, وفيها يقيم الله الشهادة على أنه الحق, وهو الغني سبحانه, لكنه يضرب لنا المثل في كيفية إقامة الشهادة على ماندّعي,
عـ سـ قـ
ثم يتلو ذلك في عملية فصل الخطاب, منصّة الحكم, حيث تأتي في سورة الشورى, والتي زادت على (حم) ب (عسق) فتبين سلطات المنصة من العزة والحكمة في إقامة الادعاء, (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)). .. ثم الفصل من موقع العلو والعظمة والترفع عن كل شبهة: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) . … ثم طلب المغفرة والرحمة للمذنبين بالدفاع: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وفي النهاية يكون الحكم إلى الله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) هذا, ويسمى يوم القيامة في السورة (يوم الجمع) حيث يجمع المتجادلون, مع الادعاء بالحق, مع الدفاع, مع هيئة المحكمة. (يوم الجمع)
وحرف القاف الذي تنتهي به مجموعة حروف سورة الشورى, فيه صفات الجهر (الظهور والإيضاح والإعلان), والشدة (القوة) والاستعلاء (العلو والارتفاع) والانفتاح (الافتراق) , والإصمات (المنع) والقلقلة (الاضطراب والاهتزاز). وهذه صفات منصة الحكم في المحكمة: القوة والاستعلاء والجهر. وصفات وضوح وحسم وحزم ففيها الانفتاح, وفيها الإصمات, أي القرار الحاسم.
وفي سورة الزخرف, يبين الله أن القاضي الذي يفصل في المسائل والأحكام لا ينبغي أن يعتبر أية اعتبارات عدا الحق, مهما كان صاحبه فقيرا أو غنيا, ضعيفا أو قويا, (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)), ولا العزوة والكثرة (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)) و سواء كان بسيطا أو ذا جاه, محكوما أو حاكما (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) يستطيع أن يعبّر عن نفسه أو لا يستطيع (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
لديه مال, أو قوة أو ليس لديه: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53), فالعبرة أولا وأخيرا للحق الذي يعلو ولا يعلى عليه, و(وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86))
ثم تنفيذ الأحكام في سورة الدخان (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)) (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42))
ثم في سورة الجاثية يستعرض الله أحوال الذين ينكرون آياته ويتخذونها هزوا ويبطلون أحكامها (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)),
ثم في سورة الأحقاف, يعالج الله أمر الفاسقين عن شريعة الله وحكمه, الذين يشركون في أحكامهم مع الله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)) ثم: (فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28))
إذن مجموعة السور ذات الحاميم, تتحدث عن نظام فصل الخطاب, والذي يقف على قمته شرع الله ينفذه القاضي, ومعه الادعاء بالحق, والدفاع وطلب المغفرة والرحمة.
(ح) حرف الحا, وصفاته الهمس والرخاوة والاستفال والانفتاح والإصمات. ومخرجه وسط الحلق بعد الهمزة والهاء. ورغم أنه به صفات الهمس والرخاوة والاستفال, ولكنه له صفات الحسم بالانفتاح والإصمات, وهي صفات الحسم, والحزم والحدّة, والحركة, والحماس, والحمية, والحشد, والحمد. والحرف يُنطق من داخل الفم إلى خارجه. ورسم الحرف باللسان يبدو وكأنه يتحرك من الداخل إلى الخارج. ويدل حرف (ح) على الحد الأول للشيء, وهو يدل على بداية حركة, مثل: (حرّك, حكم, حشد, حشر, حسر, حسم, حسب, حفر) وحركة للداخل إن تلاه حرف النون(حنّ, حنث), فإذا كان حرف (ح) في نهاية الكلمة دلّ على حركة عكسية (راح, حار) , (بح, حبّ), (ساح, حاس), (أشاح, حاش), (مسح, وحسم), (رشح, حشر), (سمح, حمس) (حبس, سبح)
وصفات حرف (ح) هي الصفات المثلى للقاضي الذي يحب الإنسان أن يمثل أمامه ويطمئن على أنه سيعطي كل الفرصة للمتخاصمين وللدفاع وللادعاء دون ملل لعرض وجهات نظرهم, , حيث لا تكاد تسمع همسه فلا داعي لارتفاع صوته فالحق قوي دون عون من صوت مرتفع, ثم في نهاية القضية لابد أن يحكم بأحد خيارين, إما الانفتاح, وهو الطلاقة والخروج السهل (أي البراءة) وإما الإصمات, وهو المنع (أي الحبس)
وحرف الميم سبق تناوله, يدل على الجمع والضم واللم
وسورة الشورى تزيد عن أخواتها(عين, سين, قاف), وحرف العين فيه الجهر(الظهور والإيضاح والإعلان), والتوسط (الاعتدال), والاستفال (الانخفاض), والانفتاح (الافتراق), والإصمات (المنع), والسين فيه التيسير والسهولة, وحرف القاف كما سبق في سورة “ق” فيه الجهر (الظهور والإيضاح والإعلان), والشدة (القوة) والاستعلاء (العلو والارتفاع) والانفتاح (الافتراق) , والإصمات (المنع) وهذه صفات الذي يفصل في الخطاب وفي الأحكام
حا الهمس الرخاوة الاستفال الانفتاح الإصمات
ميم الجهر التوسط الاستفال الانفتاح الاذلاق الغنة
عين الجهر التوسط الاستفال الانفتاح الإصمات
سين الهمس الرخاوة الاستفال الانفتاح الإصمات الصفير
قاف الجهر الشدة الاستعلاء الانفتاح الإصمات القلقلة
ويلاحظ التحول في الصفات بين الحا والميم, من الهمس إلى الجهر, ومن الرخاوة إلى التوسط, ومن الإصمات إلى الإذلاق, مع ثبوت الاستفال والانفتاح.
فإذا انتقلنا إلى (عسق) وجدنا التحول من الجهر إلى الهمس إلى الجهر, ومن التوسط إلى الرخاوة, إلى الشدة, ومن الاستفال إلى الاستعلاء, مع ثبات الانفتاح والإصمات.
وتكون فواتح سورة الشورى متحدة مع أخواتها في العملية القضائية ـ أو قل فصل الخطاب, حتى لا يذهب الذهن إلى المحكمة, ولكن يعم ذلك المحكمة وأي تحكيم أسري أو عائلي أو خاص ـ وتزيد عليها الحركة من (العين) وفيها الجهر والتوسط, إعلانا عن الادعاء بالحق, إلى السين وفيها الهمس والرخاوة طلبا للمغفرة والرحمة, ثم تنتهي بالقاف, وفيها الجهر بالحكم, والشدة التي هي القوة, والتزام الموضع, والاستعلاء.
وفي كل الحروف الثلاثة تتوافر صفتا الانفتاح, وهو الخروج السهل دون عائق, أو قل البراءة, والإصمات وهو المنع أو الحبس, وتزيد القاف بالقلقلة التي تقع من الناس انتظارا لصدور الحكم, والصفير, وهو الصوت الزائد الذى يخرج من بين الثنايا وطرف اللسان عند النطق بأحد حروفه, والله أعلم.
وبغض النظر عن النتائج والتحليلات التي يمكن أن نتفق فيها أو نختلف, فإن المطلوب في النهاية هو الوصول إلى مدلولات الحروف, لاستعمالها في وضع علم الحروف الفواتح, الذي يجعل الإنسان أيا كانت لغته ولسانه, تجعله يتعلم اللغة العربية بسهولة, قراءة ونطقا وفهما, ومنها يتسلم كتاب الله تاليا, قارئا, فاهما مدركا, فيصل إلى مسئولياته عن الكتاب, ويصله الكتاب ميسرا للذكر كما أراد الله له, وبعد ذلك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, لكي لا يكون للناس على الله حجة.
والله تعالى أعلى وأعلم, وأستغفره عن كل جهل وقلة إدراك..
● السور ذات (ألف لام ميم)
سبق تناول هذه الحروف في السور السابقة, وفي سورة الأعراف تجمعت كلها مع حرف (صاد). وتتلخص مدلولات الصيغة (ألم) بإقامة السلطان ثم الصلة ثم التكليف المبني على ذلك. ونرى في السور المفتتحة ب (ألم) أنها تبدأ بالحديث عن الله جلّ وعلا وأسمائه وصفاته, وقدراته وقهره فوق عباده, حسب موضوع السورة, ثم بتناول القصص التي تؤكد هذه الصفات وأفعال الله في خلقه, ثم تنتهي بالتكليفات والمهمات التي يأمر الله بها عباده.
وقد تم تناول ذلك في سورة الأعراف أولا. ثم في سورة لقمان (ألم) ضمن مجموعة الحكمة (ألر) وكأن سورة لقمان تطبيق وتنفيذ وأداء للحكمة, حيث ينقلها لقمان لابنه شكرا لله على أن آتاه الحكمة.
وقد بدأت مجموعة السور المفتتحة ب (ألم) بسورة السجدة, سبقتها سورة إبراهيم (ألر) حيث بدأت بالحكمة في منهاج إخراج الناس من الظلمات إلى النور, وتلتها بعد ذلك السور المبدوءة ب (ألم) وفيها إقامة سلطان الله, ثم الصلة بالقصص, ثم تكليفات الله للذين آمنوا, ليخرجهم من الظلمات إلى النور, كما في سور السجدة, والروم والعنكبوت, والبقرة, وآل عمران
● الرعد ألف لام ميم را
واختتمت السور ذات الحروف الفواتح بسورة الرعد (ألمر) وفيها تعتمد الحكمة في تنفيذ أوامر الله وتكليفاته (ألم) وتكرير ذلك إلى نهاية العمر, وإلى يوم القيامة.
والجدير بالذكر, أن هناك أسئلة كثيرة مازالت تحتاج إلى إجابات, وما زالت قيد البحث والتحليل. فلم أحلل بعد كل السور ذوات الحروف الفواتح, حيث أنها تحتاج إلى مدارسة لكل ما ذكرت من قبل في هذا البحث, وأهمها مدارسة مواضيع السور كلها, ومناسبات نزولها, والسيرة النبوية, وكل النقاط الأخرى, مما يحتاج إلى المزيد والمزيد من البحث والمدارسة, أسأل الله أن يعين ويوفق ويرزق إنه سبحانه علم الإنسان ما لم يعلم, الرحمان علّم القرآن, الذي قال لرسوله صلّى الله عليه وسلم: (وعلّمك ما لم تكن تعلم, وكان فضل الله عليك عظيما) وكذلك علمنا الله ما لم نكن نعلم, وعلمنا بكتابه وبرسوله, مما يجعلنا نرجو أن يعلمنا من كتابه ما جهلنا, ونسأله سبحانه أن يجمعنا حول كتابه نتدارسه بيننا, وأسأل كل مسلم أن يقرأ كتاب ربّه, وآخر رسالاته لخلقه, بعين دارسة, وبقلب وعقل متفتحَيْن, رجاء من الله أن يجعلنا من المدّكرين وييسر القرآن لنا للذكر. إنه سميع قريب مجيب الدعاء.