بعد التوجّه للضالين والتركيز عليهم, من المتوقّع أن يدخل في دين الله بعض الناس, يستجيبون للدعوة. هؤلاء يحتاجون إلى المزيد من الدعاة الذين يتفقّهون في الدين , فيرشدونهم وينقلون إليهم ما يتدارسونه من كتاب الله وسنّة رسوله. فلن يستطيع شخص واحد أن يغطّي احتياجات الدعوة في أماكن كثيرة , وأعداد كبيرة من الناس, وإنما لا بد من تجنيد دعاة أكثر.
كما ينبغي أن تترك الفرصة للذين دخلوا في دين الله , كي يدخل من شاء منهم إلى فئة الدعاة فلا يكتفون بالإيمان في قلوبهم أو بنفع أنفسهم فقط, وإنما تتعدّى جهودهم لتشمل مدارسة الكتاب والخروج به إلى بقية الناس بالدعوة التي تحتاج إلى دراسة.
والمسألة تحتاج إلى وقت وجهد.
فمن لديه من الوقت ما يتفرّغ به لهذه الدراسة إلى جانب عمله في كسب معيشته؟ خاصة وأنه ليس في الإسلام رهبانية , وليس فيه رجال دين , بل كل مسلم مؤمن يدعو إلى الله هو رجل دين.
إن الله قد أمر رسوله صلىالله عليه وسلم , وطائفة من الذين معه بقيام الليل (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ .. (20) المزمّل, رغم كل ما قد يشغلهم من مرض أوضرب في الأرض ابتغاء فضل الله , أوقتال في سبيل الله , فقد أمرهم بقراءة ماتيسّر منه وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة , وجعل ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا.
.. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(20)) المزّمّل
إذن, فقيام الليل لازم لطائفة من الذين آمنوا مع رسول الله , فهو الوقت الذي يتلقون فيه من الله . وهم يلزمون أنفسهم بقيام الليل دون أن يكون فرضا عليهم , وإنما هو بموجب هذه الآية يكون ضرورة من ضرورات الدعوة لا يمكن الاستغناء عنها,
والدعاة هم الطائفة التي تتكلف بالدعوة إلى الله, وتنشغل بها, وهذه الطائفة لا تشمل كل الذين آمنوا مع رسول الله.
وبعد العهد الأول, الذي مثّل فيه صحابة رسول الله رضوان الله عليهم الفصل الأول من هذه الطائفة في مدرسة قيام الليل, وهي مدرسة تأهيل الدعاة, وتجنيد المتطوعين للعمل في الدعوة, الذين ضربوا الأمثلة في حسن تطبيق أوامر الله واجتناب نواهيه, وحيث أن الدعوة مستمرة إلى يوم الساعة, فهي تحتاج إلى فصول مستمرة من الطائفة, يتفرغون في جزء من حياتهم للدعوة إلى الله بإذنه, وتبليغ رسالة الله إلى الناس بعد أن يدرسوها وبعد أن يتأهلوا للتبليغ والدعوة ويعلموا أساليبها. ولا يتم ذلك إلا بتفريغ جزء من الوقت لهذه الدراسة والتدريبات على الدعوة وفنونها, ويكون بالتحديد في الليل, يظهر ذلك من تأكيد الله على قيام الليل في سورة المزّمل, وضم طائفة إلى رسول الله في قيام جزء من الليل مهما كانت مشاغلهم
وفي سورة القدر , جعل الله ليلة القدر معسكرا وموسما لضم أعضاء جدد للطائفة, فهي فرصة متجددة للمؤمنين لقيام الليل ولو مرة واحدة في كل عام, حتى يذوقوا فضل القيام , فيستشعر بعض منهم متعة القيام بين يدي الله بالليل , وقراءة القرآن وتدارسه , والتي لا تعدلها متعة في الدنيا, حيث أنه الوقت الذي حدده الله للوقوف بين يديه لإلقاء قول ثقيل على نبيه صلى الله عليه وسلم.
ويربط الله بينها وبين الذكر الحكيم ,فقد أنزله الله فيها, فكانت ليلة الشرف العالي, ليلة القدر..
كما يضع الله جائزة كبرى لقيام ليلة القدر, فهي خير من ألف شهر.
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1)وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2)لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)
كما حشد فيها الملائكة والروح , فيتنزلون فيها بإذن ربهم من كل أمر.
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4)
فيدخل بذلك في معسكر ليلة القدر, ومدرسة قيام الليل طوائف كثيرة من الذين آمنوا فيذوقون طعم الوقوف بين يدي الله بالليل , فيدخل بعضهم في طريق الدعوة , ويشعرون بمسئوليتهم عن هذا الدين , فينضمّون إلى الطائفة من الذين مع رسول الله.
وأولى خطوات تأهيلهم هي قراءة ما أنزل الله , وقيام الليل بين يديه سبحانه بكتابه , فيتلقون منه جل شأنه من خلال قراءة ما تيسر من القرآن , ومن هذه القراءة يتعرفون على بعض من منهاج الله في بناء الفرد والأمة , ويبدأون في منهاج تأهيل الداعية, ثم في تطبيق ذلك على أنفسهم أولا, ثم في التعامل مع شرائح الناس المختلفة حتى يبلغوهم كتاب ربهم بما فيه من عقيدة وأوامر ونواه, وروح لقلوبهم.
إذن, فسورة القدر فرصة أو معسكر لضم مجموعة جديدة للطائفة الذين يتكفلون بالدعوة ويتفرغون لها, بدءا من قيام الليل, الذي يبدأونه بليلة القدر, فيذوقون طعم القيام, ثم يعتادونه, حتى يكون موعد مدارستهم للقرآن , فيخرجوا به إلى الناس في النهار داعين إلى الله بإذنه.
إن ليلة القدر الأولى, أنزل الله فيها القرآن.
ثم هو سبحانه يجعل الملائكة تتنزّل فيها بإذن ربهم من كل أمر, في كل عام, وهذا التنزُّل مستمر ودائم ما دامت السموات والأرض, ولم ولن ينقطع بإذن الله, فالفعل تنزّل يفيد الاستمرار, فلم يقل الله (تنزلت الملائكة والروح فيها).
والروح والأمر فيه حياة المؤمنين وذكرهم وشرفهم, تصحبه الملائكة تتنزّل بإذن ربهم في ليلة القدر. سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5)
فهو يعمق تعريف الناس بتنزيل الله الحكيم, بالقرآن , الذي هو تذكرة , وذكر للعالمين , وفيه الصراط المستقيم , وهو وحي يوحى , وهو الحديث.
وحيث أن الذكر شرف , فإنه أُنزل في ليلة الشرف وعلو المقدار والمكانة , هي خير من ألف شهر.
والخلاصة أن ليلة القدر هي معسكر تأهيل, لضم من يصلح من المؤمنين إلى طائفة من الذين مع رسول الله يزاملونه في الدعوة إلى الله , بعد أن يتدارسوا كتاب ربهم في الليل أثناء قيامهم بين يديه. وهي مدرسة مستمرة لتخريج الدعاة, والداعية الذي يتعرض للدعوة ولم يدخل هذه المدرسة- مدرسة قيام الليل- فلن يكون أداؤه مثل أعضاء الطائفة. خاصة وأنه قد جاء على لسان الأنبياء أنهم لا يسألون الناس على الدعوة أجرا. والداعية الذي يسأل أجرا ليس كالداعية الذي يصر على أن يحتسب أجره عند الله, أجرا غير ممنون.