موجة النجم الموجهة للضالين الذين لم يأخذوا الدعوة مأخذ الجد بعد, ولم يهتدوا بالحجج التي ساقها الله لصدق رسوله في السور السابقة , ولإثبات قدرات الله في الخلق, ومالديه سبحانه في الآخرة. فكانت الحجج التي ساقها الله في النجم أعمق وأكثر, وتزيد من قوة الحجج السابقة, فهي تؤكد صدق الرسول وسلامة عقله وطبعه ومصدر هدايته, وتنفي الآلهة إلا الله. ويجرد الإنسان إلا من مشيئة الله له, وتكشف وتبين فئات الضالين من الناس, من يتحكم فيه الجهل, والهوى, ومن يتولى, ويبين أفعال الله في الإنسان وقدرته عليه, حتى يصل إلى انتقاد الضالين لاستمرارهم في الضلالة , وعدم استجابتهم بعد كل هذه الحجج والبراهين, فيأمرهم بالسجود لله وعبادته, فتستجيب عقولهم للمنطق , ويسجدون لله رغما عن عنادهم.
- تأكيد وإثبات صدق الرسول:
تتوجه هذه الآيات إلى فئة الضالّين, الذين لم يستجيبوا بعد للدعوة, ولكنهم لم يحاربوها, فتواجههم بمنطق عقليّ, يؤكد الله فيها على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام , وعلى أسلوب تلقيه من الله , عن طريق الوحي , ويعضده بأنه قد صعد للقاء ربه مباشرة , و بغير واسطة.
إن من لا يؤمن بصدق الرسول, لن يؤمن بشيء من القرآن, ولا فائدة في إيمانه حتى لو قهرته حجج القرآن. فحين يوجد هذا الصنف من الناس الذين لا يؤمنون بصدق الرسول, فلابد للداعية أن يبدأ معهم بإثبات صدقه صلى الله عليه وسلم.
إن القرآن قد تحدث في سورة التكوير عن تكوير الشمس وانكدار النجوم, وكنسها بالجوار الكنّس. فكلما هوى نجم كلّيا, أو جزئيا بسقوط جزء منه, ورآه الناس, أو دلهم عليه علماء الفلك, كان ذلك دليلا على إمكانية سقوط الشمس التي سبق أن أنبأ الله بحدوثها( إذا الشمس كُوِّرت ) فالنجوم كلها سوف تنكدر, ثم تهوي, وبالتالي كان دليلا على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيما بلّغ من كلام الله. وكلما تعمقت علوم الفضاء وازدادت معرفة الناس بأسرارها, وكلما تطورت أجهزة رصد الكواكب والنجوم, وعلم الناس عن نجوم تهوي وتموت, كان كل ذلك تأكيدا على صدق بلاغ رسول الله عن ربه من أن الدنيا سائرة إلى اليوم الآخر الذي تكوّر فيه الشمس وتنكدر النجوم كلها.
إذن فحين يبلّغنا رسول الله من كلام الله سبحانه, ثم نرى شواهد تحدث أمامنا تؤكد ذلك, فلابد أن نعترف أنه رسول صادق , ماضل صلّى الله عليه وسلم وما غوى.
ورسول الله صاحبهم , الذي لا يخفى عليهم حاله , وهذا أقوى دليل على أنه ما ضل وما غوى , بشهادتهم كأصحابه. ولا تخفى حالة الصاحب على صاحبه, فيستحيل على أصحاب ألا يعلموا حال صاحبهم. فإن ضل أو غوى الصاحب , فإن أصحابه هم أول من يعلم بضلاله وغوايته.
.. من هنا يقسم الله سبحانه بالنجم إذا هوى, على أن صاحبهم ما ضل وما غوى.
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(1)مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(2)
إذن فمن أين يأتي بهذا الكلام وهذه المعلومات عن أحداث سوف تحدث في المستقبل؟ إنه ما ينطق عن الهوى. فيبين الله مصدر معلومات رسوله:
وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6)وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(8)فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(9)فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(12)وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى(13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى(14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى(15)إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى(16)مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى(17)لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(18)
والآيات تستخدم نفس الألفاظ أو أسلوب الاستدلال المستخدم في المرحلة الأولى في السور و الآيات السابقة. ولكن بتأكيدات أقوى.
أقسم الله في التكوير, بالخنّس , الجوار الكنّس , والليل إذا عسعس , والصبح إذا تنفّس , أقسم بذلك على صدق النبي , وآلية الاتصال بالله, عن طريق جبريل الأمين عليه السلام.
وهنا يبني على القسم السابق: والنجم إذا هوى(1).
في التكوير : وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ
وفي النجم : مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2).
وكلامه مصدّق: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)
والوحي – جبريل عليه السلام …
في التكوير : ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ
وفي النجم : عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5).
ووصف مكانة رسول الله في النجم أوسع منه في التكوير..
فكان تلقّيه صلّى الله عليه وسلم من جبريل في التكوير على الأرض , وأما في سورة النجم, فقد رآه نزلة أخرى, عند سدرة المنتهى , عندها جنة المأوى.
وقد رآه صلي الله عليه وسلم رأي العين
في التكوير : وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ
وفي النجم : وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى
حيث اقترب من ربّه جل وعلا , فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ,
وأكد سبحانه وتعالى في النجم على الرؤية المباشرة , خمس مرات متواليات فقال :
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى
.. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى
وعرج به إلى سدرة المنتهى , عندها جنة المأوى
- نفي الآلهة إلاّ الله:
بعد تأكيد صدق رسول الله, وبناء الحجج العقلية والبراهين المنطقية على سلامة عقله وبعده عن الهوى, يتوجه الداعية بالقرآن إلى بيان ضعف حجج من يعبدون آلهة أخرى من دون الله, فما هي حججهم؟
ففي التكوير ذكر اسم الله رب العالمين ..
وفي النجم , وقبل أن يذكر لهم صفات الله وقدراته , ذكر آلهتهم وانتقد أصل تسميتها , وهو يسفّهها , وينسبها إلى الظن وما تهوى الأنفس. وينتقد معتقداتهم , فينسخها,
ثم يذكر ربهم, فيثبّت عليهم أنه سبحانه هو ربهم,
أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى(20)أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى(21)تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى(22)إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى(23)النجم - التوحيد وتجريد الإنسان إلا من مشيئة الله له:
فإن كانت الآلهة من دون الله لا حجة بها ولا برهان عليها, فمن أين جاء بها الناس؟ إن الله يستنكر على الإنسان أن تكون عبادته لما يتمنى أو يظن أو يهوى, وإنما الأمر كله لله , (أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى) (24)
ويستمر إثبات عقيدة الآخرة .. والتأكيد على أن لله الآخرة والأولى
ففي الفاتحة قال : “مالك يوم الدين”
وفي الأعلى قال : “بل تؤثرون الحياة الدنيا , والآخرة خير وأبقى” , وهو انتقاد لمن يؤثر الحياة الدنيا.
وفي الليل قال : “وإن لنا للآخرة والأولى” , فمن يريد الآخرة فهي لله , ومن يريد الأولى فهي لله.
وفي الفجر قال بلسان حال الكافر: “ياليتني قدّمت لحياتي”, فالآخرة هي حياته , وقد نسي الدنيا وأنكرها .
وفي الضحى قال : “وللآخرة خير لك من الأولى” , ما يدعو إليه الناس ,فهو يدعو إليه رسوله صلّى الله عليه وسلّم
وفي النجم قال : (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى) (25) , تأكيد لكل ما سبق , وتأكيد على أن الأمر كله لله, وأن ما يتمناه الإنسان سواء كان في الآخرة أو في الأولى, فلله الآخرة والأولى, فليتجه إلى الله بتمنيه وسعيه ومشيئته فيقسمه الله له إن شاء, ثم يرضى, ثم يأذن لمن يشاء ويرضى.
وفي جميع الأحوال, لا تغنى عنهم مع الله شفاعة حتى ولو كانت من ملَك في السموات.
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى(26) فكل إنسان يتمنّى كما يحلو له, ولكن هذا لا يحقق له ما يتمناه, بل لابد من أن يشاء, ويشاء الله له, ثم يريد الله, ويأذن ويرضى.
إذن هناك تمنّي, ومشيئة, وإرادة, وإذن, ورضى.
ثم يبدأ الله في تصحيح العقيدة في الملائكة, فيبين منهاجه في العلم, فعلى الإنسان ألاّ يختلق تسمية أو أوصافا معتمدا على الظن, وإنما عليه أن يعتمد في كلامه على العلم, وعلى الحقّ في الوصول إلى حقائق العقيدة ويأخذها من مصدرها.
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى(27)وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا(28)
- وأن ليس للإنسان إلا ماسعى, وأن سعيه سوف يُرى:
جرّد الله الإنسان من المعتقدات الباطلة, ومن الظن, وما تهوى الأنفس, ومن اللجوء إلى شفاعة الملائكة , فأصبح بين يدي الله الذي له الآخرة والأولى.
ثم بدأ الله في توجيه الإنسان إلى العمل الذي يأمره الله به, وأنه محاسب عليه بين يدي الله.
وفيما سبق من التنزيل, كان سبحانه وتعالى قد حذر من الذين وقفوا أمام الدعوة , معادين مكذبين محاربين في كل المرحلة الأولى , حيث بدأ في هذه المرحلة ظهور فئتين فقط , فئة المصدقين بالحسنى , وفئة المكذبين بالحسنى , فاهتم القرآن بإظهار الفئتين , وقال عن المعاندين للدعوة :
قال في العلق :أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى(11)أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى(12)أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(13)
وقال في القلم : فَلَا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ(8)وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9)وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ(10)
وقال في المزّمّل : وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا(11)
وقال في المدّثّر : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11)
وفي الفاتحة قال : صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
وفي المسد : تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) وأبو لهب إمام يدعو إلى النار
وفي التكوير : وإذا الجحيم سعرت , (في إشارة إلى مصير المجرمين).
وقال في الأعلى : وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى(11)الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى(12)
وقال في الليل : فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى(14)لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى(15)الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى
وهنا في النجم , بدأ القرآن في التدرُّج بالإنسان من التولّي عن الذكر, والضلال, إلى الاهتداء, ومن الإساءة إلى الإحسان, واكتفى هنا من الإحسان باجتناب كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم , إن ربك واسع المغفرة.
ثم تدرّج بعدها مع الذي تولّى, وأعطى قليلا وأكدى, أي منع وقطع, فيعالجه بتذكيره بما عند الله في علم الغيب, وبما ذكر في سورة الأعلى بما في الصحف الأولى, صحف إبراهيم وموسى, حين بشّر القرآن من تزكّى وذكر اسم ربه فصلّى, بشره بالفلاح. وأن الآخرة خير وأبقى.
ثم يضع القاعدة العامة, وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يُرى. ثم يجزاه الجزاء الأوفى.
وهنا أيضا تتّضح أهمية ترتيب النزول في فهم القرآن وتدارسه, فما في الصحف الأولى بيّنه مجملا في سورة الأعلى, ثم أشار إليه هنا في النجم.
وتفصيلا فإن الله يقسم العاملين إلى فئات:
- فئة من تولى عن ذكرنا : نسب سبب التولّي والتمسك بالحياة الدنيا فقط , نسب ذلك إلى قلة العلم , وإلى الضلال عن السبيل فقال:
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(29)ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْم ِإِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى(30)
وجعل الضلالة مقابل الاهتداء, وهو فرز أول, دون تفاصيل للضلال , أو للاهتداء. - ثم يبيّن فئتين فرعيتين من العاملين :
فئة الذين أساءوا
فئة الذين أحسنوا, وهنا تقتصر فئتهم على اجتناب كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(31)الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى(32)
إن الله يأخذ بيد الإنسان من الكفر والضلالة إلى الإيمان والهدى, ينتشله من المعتقدات الفاسدة , التي لابد أن ينتج عنها ارتكاب كبائر الإثم والفواحش, وترك الحبل على الغارب لشهوات النفس بلا حساب ولا عقاب, وفي هذه المرحلة يكتفي منه باجتناب كبائر الإثم والفواحش, فإن هو فعل , فقد اعتبره الله من الذين أحسنوا, ويجزيه بالحسنى, ثم هو سبحانه واسع المغفرة, يعذر ضعف الإنسان, فهو أعلم بكم. - فئة من تولّى
ويفند الله مرجعية من تولى. أيرجع إلى علم الغيب فهو يرى ويطمئن لما سيحدث له, أم أنه لم يعلم مافي صحف موسى, وإبراهيم
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى(33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى(34)أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى(35)أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى(36)وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(37)أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(38)
وهو هنا يشير إلى مرجعيات الذين أوتوا الكتاب, فهم يرجعون إلى ما في صحف إبراهيم وموسى التي أشار الله إليها في سورة الأعلى, وهو هنا يبين بعضا مما تضمنته, إعلانا على شمول الدعوة لكل فئات الناس , فيضم الذين أوتوا الكتاب للدعوة, حتى لا يظن أحد منهم أنها دعوة خاصة لقوم بعينهم, كما كانت دعوة موسى وعيسى عليهما السلام إلى بني إسرائيل, وإنما يجمع كل الدعوات دعوة إبراهيم , ويعممها ويجعلها شاملة دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم, كما قال: كان كل نبي يبعث لقومه خاصة, وبعثت للناس عامة” , وهذه خصوصية رسالة الإسلام والتغيير الجذري فيها عما سبقها من دعوات ورسالات.
ثم بين مسئولية الإنسان عن سعيه بالمزيد من التوضيح عما جاء في المرحلة الأولى
ففي التكوير قال : عَلِمَتْ نَفسٌ مَا أَحْضَرَتْ(14)
وفي الليل قال : إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى(4)
وفي التكاثر قال : ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)
وهنا في النجم قال : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى(39)وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى(40)ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى(41)
فلا ينفع الإنسان انتسابه إلى آلهة باطلة فاسدة, ولا إلى الملائكة, ولا إلى أفكار وعقائد باطلة في النجوم والكواكب, بل ليس للإنسان إلا ما سعى , وأن سعيه سوف يرى, ثم يجزاه الجزاء الأوفى.
- أفعال الله:
ثم عرّف أفعال الله أكثر مما عرفه في المرحلة الأولى:
ففي البداية في العلق , وبعد أن عرّف رسوله بربه فقال (الذي خلق) , وفي الفاتحة بأنه (رب العالمين , الرحمن الرحيم , مالك يوم الدين) , بدأ بتعريف الناس :
فقال في التكوير : اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29)
وزاد في الأعلى : سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى(1)الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2)وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3)وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى(4)فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى(5)
وفي الليل قال : وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(3) وبين أنه هو الذي ييسر لليسرى أو للعسرى طبقا لسعي الإنسان للخير وللتقوى أو للشر والتكذيب
ثم بين أفعال الله بعاد وثمود وفرعون في سورة الفجر
وفعله سبحانه بأصحاب الفيل , وقدراته على أن يعيذ من يستعيذ به , وبأنه الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
وعند التوجّه إلى عامّة الناس, فإن من المتوقع لمن لم يسبق له معرفة الله, وعلى مدى حاجته إليه, أنه لن يلتفت إلى الدعوة كلها, وبالتالي فلن يستمع إلى الداعية, بيّن الله ذلك في سورة العلق, في الخطوة الأولى لمواجهة الناس حين قال: (كلاّ إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى) ورد في إجمال مبينا كيف يعالج الداعية هذه النوعية من الإنسان الذي يرى نفسه استغنى عن ربه وعن الدعوة, فقال سبحانه (إن إلى ربّك الرُّجعى)
وهنا في النجم, يفصّل كلمة الرّجعى بالمزيد من التفصيل والإيضاح, فهو يواجه ويعالج الفئات التي لم تؤمن من المرحلة الأولى , فيوسّع في تعريفهم بقدرات الله , كما عمّق للذين آمنوا معرفتهم بالله فقال في النجم :
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى(42) والمنتهى هو المحطة الأخيرة للإنسان, لأي نشاط له, وأي عمل يعمله, ينتهي به إلى ربّك, بنسبته إلى رسوله, وذلك حتى يهتم من يستمع إلى هذه الآية, برسول الله وسنته ودعوته, ويهتم من بعده بالدعاة الذين يبلغون عن رسول الله, فيبحث فيها عما يرضي رب رسول الله, الذي إليه المنتهى. أي أنه بنسبة الربّ إلى رسول الله, يقيم رابطة بين رسول الله وبين الناس, فمثلا لو أن رسول الله يبلّغ معنى هذه الآية إلى الناس, فإنه يقول لهم: إن إلى ربّي المنتهى, والناس يفهمون أن المنتهى إلى ربّ رسول الله, فيهتمون بما جاء به. وإلا لقال وأن إلى الله المنتهى, أو وأن إلى ربهم المنتهى.
وكما في سورة العلق, إن إلى ربّك الرُّجعى , فهنا في النجم: وأن إلى ربك المنتهى.
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى(43)وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا(44) وربما يعتقد بعض الناس أنهم يتحكمون في الضحك والبكاء, كما يعتقد البعض أن الموت له أسبابه دون مشيئة الله, ولهذا فإن الله هنا يؤكد بالضمير (هو) لينفي هذه المعتقدات الخاطئة, فحتى الضحك والبكاء, والموت والحياة , فالله هو سبحانه الذي يتحكم في كل ذلك, وهو يجعل لكل شيء سببا, ولكنه هو المسبب.
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(45)مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى(46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى(47)وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى(48)وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى(49)
فله جلّ شأنه الرُّجعى في كل هذه الأمور, وفي غيرها, منه المبدأ, وإليه المنتهى, وهي كلمة في كل أمر, وفي كل شيء, وفي كل وقت, في كل حالة, حتى في الضحك والبكاء, من بدء خلقه, وطوال حياته, وعند مماته, وفي النشأة الأخرى.
وأنه هو أغنى بالعطاء والأشياء, وأقنى أي أخدم أو أفاد من هذه الأشياء.
والشعرى نجم كان العرب والمصريون القدماء يظنون أنه يؤثر في العالم, وأن وضعه له علاقة بتقدير الله للناس الغنى بالحصول على الأشياء من نعمه سبحانه, وبالإفادة منها, فينسب الله كل ذلك لفعله سبحانه وحده لا شريك له, وأنه هو الذي يقدّر المقادير وهو ربّ الشعرى. والله هو الغنيّ , وهو الذي يوجد السبب, ويوجد المسببات, حسب تقديره جلّ شأنه. فالأرزاق أولا وأخيرا والتقدير, كل ذلك له سبحانه.
والملاحظ أن كل هذه من الأمور التي تؤثر في الإنسان, ولها أسباب جعلها الله, وهو هنا لا ينفي الأسباب, وإنما يؤكد أنه سبحانه هو مسببها, وهو من ورائها, فالضحك والبكاء والإماتة والإحياء, والخلق من نطفة إذا تُمنى, والنشأة الأُخرى, والإغناء والإقناء, مهما كانت أسباب كل ذلك, فالله هو المسبب سبحانه, ولكنه جعل لكل شيء سببا.
فماذا بقي للإنسان؟
إن الله سبق كل ذلك بأن حدد فقال: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى, وأن سعيه سوف يُرى, ثم يُجزاه الجزاء الأوفى.
ولا مبرر لأن يذل الإنسان نفسه لذنب ولا لإنسان مثله سعيا وراء ضحك أو حياة أو غناء أو اقنتاء أو حتى حياة أو موت, فكل ذلك من أفعال الله وتقديره وليس للإنسان إلا ما سعى.
- نذير من النذر الأولى:
ومن لم يصدّق, ومن لم يعمل بما أمر الله, وينتهي عما نهاه, فإن أمامه نذير من النذر الأولى, في الأمم السابقة التي خالفت أمره, ولم تؤمن به وبرسله, عاد وثمود وقوم نوح, وكانوا هم أظلم وأطغى, وقوم لوط: كيف كان فعل الله بهم:
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى(50) وقد بين الله وضعهم القوي في سورة الفجر.
وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى(51) رغم أنهم جابوا الصخر بالواد.
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى(52)وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى(53)فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى(54)فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى(55) هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى(56)
وإحياء ذكرى هذه الأمم السابقة, و تذكير الناس بها أمر هام في كل زمان, وبالتالي فإن الحفاظ على آثارهم, والكشف عما يختفي منها, واستمرار قصصهم حية أمام الناس تتردد وتشيع, أمر ذو شأن كبير في الدعوة , حيث أنه ربما لا يهلك قوم بمعصيتهم كما هلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط, وفرعون, فقد آتي الله موسى الكتاب من بعد ما أهلك القرون الأولى, ومن يأتي بعد ذلك ممن يعصون الله فإن الله إما أن يهلكهم, أو يؤخرهم ويمهلهم إلى الساعة, والساعة أدهى وأمرّ. وبالتالي يصبح إحياء قصص الأمم السابقة لازما من لوازم الدعوة إلى الله , لأن النذر الأولى جزء من القرآن, وجزء من ترهيب الله للظالمين والمجرمين, لا ينبغي أن يترك دون اهتمام, بل يضاف عليه ويضم إلى ملفّه كل الظالمين الذين يهلكهم الله, مثل دولة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي السابق وأوربا الغربية, وما شابه ذلك.
- فاسجدوا لله واعبدوا:
ثم ذكّر الناس بقيام الساعة والبعث والحساب , واستعجل الناس للإيمان والتصديق بعد كل تلك المقدمات , ودعاهم للتسليم لله , للسجود والعبادة , فقال:
أَزِفَتْ الْآزِفَةُ(57)لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ(58)أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ(59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ(60)وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ(61)فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا(62)صدق الله العظيم
اللهم اجعلنا من المؤمنين , المقيمى الصلاة , الساجدين لله والعابدين
وخلاصة القول في موضع سورة النجم من منهاج رب العالمين في بناء الفرد والأمة , هي أنها موجهة إلى الفئة الثانية من الناس , الذين لم يستجيبوا لمرحلة التكوير , فتوجهت إليهم النجم :
- تأكيد وإثبات صدق رسول الله , وتأكيد مصدر معلوماته , ومعلمه جبريل عليه السلام ومقابلته لرب العالمين مباشرة بالمعراج , لتأكيد تفويضه ورسالته.
- نفي الآلهة إلا الله , وتصحيح العقيدة في الملائكة , وبأن كل ذلك ظن وما تهوى الأنفس.
- التوحيد وتجريد الإنسان من كل ما يعتقد باطلا أنه يوثر فيه, إلا من مشيئة الله له
- بيان أن الإنسان ليس له إلا ما سعى, وأن سعيه سوف يرى , ثم يجزاه الجزاء الأوفى.
- أفعال الله وتعميق التعريف بالله وصفاته وقدراته.
- نذير لمن لا يستجيب
- أمر بالسجود والعبادة, لقطع الشك باليقين, وإنهاء حالة الكفر.
إن السجود لله, لابد أن يكون فيه تأثير على الساجدين, فهي حالة من التسليم, والخضوع بعد إمعان النظر, ويتبعها الانقياد لله وطاعته, والخشوع
لقد سجد كل الحضور في مجلس رسول الله من المؤمنين ومن الكافرين, حين قرأ صلّى الله عليه وسلم عليهم هذه الآيات وفي آخرها(فاسجدوا لله واعبدوا), لقد انفعلوا بكل ما فيها من تدرّج, أخذ بعقولهم بالحجج والبراهين , وساقهم حتى اللحظة الأخيرة التي لم يجدوا فيها مفرّا من أن يسجدوا لله , حتى وهم ما يزالون على كفرهم به سبحانه.
لقد سجدت عقولهم للبراهين, ولكن لم تسجد قلوبهم. ولكن الله لا يقبل سجود العقول فقط, وإنما لابد من سجود القلوب, حتى لو لم تسجد العقول.
والمتوقع بعد النجم , أن الدعوة اكتسبت عددا أكثر من المؤمنين , الذين كانوا في حاجة إلى مزيد من الشرح والتفصيل والتحليل والحجج والتأكيد, وليس لديهم ما يمنعهم من الإيمان إلا جهلهم بالحقائق, فحين يزال الجهل, يكون الإيمان.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ
ونسأل الله العفو عما نكون قد تجاوزنا فيه لجهل منا دون قصد أو عمد