إن رسالات الله إلى الناس مرت بثلاث مراحل:
- مرحلة ماقبل رسول الله, حيث أنزل الله كتبه على أنبيائه ورسله, فهم يتلون كتاب الله, يشاركهم في ذلك المؤمنون به, ويقيمون الصلاة, وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية, فتستمر مسيرة البشرية بوحي الله إلى رسله وأنبيائه, يبين الله لهم كيف يتعاملون ويتعايشون, وكيف يتكافلون. (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ(29)لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(30)
إن هؤلاء والله أعلم, هم كل من تلقّى كتاب الله من آدم إلى عيسى عليهم السلام, ومن سار معهم وعلى هداهم من المؤمنين, يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقهم الله سرا وعلانية, هؤلاء مؤمنون, إلاّ أنه إيمان ينفع صاحبه, ويجعله فردا نافعا ونواة صالحة في المجتمع, وهؤلاء يرجون تجارة لن تبور. فهم في تجارة مع الله, يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله, ويغفر لهم ويشكر لهم.
إنهم يتلون كتاب الله, والتلاوة هي أول خطوة نحو التعرف على كتاب الله, يتلون كلمة تلو كلمة, ويمرون على الآيات فيستعرضون الكتاب ويستوحون منه ما يشاء الله لهم.
إن هذه العبادات هي بمثابة الإعداد الشخصي للإنسان المؤمن, لكي يبني عليها حياته, باستعراض آيات كتاب الله تلاوة, وإقامة الصلة الرأسية بين عباد الله, وبين الله, وكذلك الصلة التكافلية الاقتصادية الأفقية بين الناس بعضهم البعض, فيحدث التكافل في المجتمع بين القادر وغير القادر, بين الغني والفقير, وبين القوي والضعيف, فيبدأ المجتمع في التماسك, أفراده يلتقون حول تلاوة كتاب الله, ويجتمعون في المساجد لإقامة الصلاة, ويترابطون ويتكافلون بالإنفاق مما رزقهم الله, على من حددهم الله في كتابه الذي يتلونه.
- مرحلة محمد صلى الله عليه وسلم, وهي مرحلة واضحة المعالم في التاريخ, تتميز بأنها رسالة للعالمين, وهي رسالة هداية ونصيحة, في نفس الوقت التي هي حكم يمنع تحكّم المفسدين في الأرض, كما يمنع الفجّار ويضرب على أيديهم, فينضبط المجتمع الدولي. وفي هذه المرحلة, فإن الله أوحى إلى رسوله من الكتاب, أحسن ما أنزل, وأحسن الحديث, هو الحق مصدقا لما بين يديه. وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ(31)
- مرحلة ما بعد محمد صلّى الله عليه وسلم, وهي نقل ميراث الكتاب منه بصفته وارثا لكل ما بين يديه من الكتاب, ووارثا لكل مسئوليات الرسل والأنبياء من قبله, إلى أمته التي اصطفاها الله من عباده, فأورثها الكتاب, فمنهم ظالم لنفسه, فلم يأخذ نصيبه من الميراث, فأهمله ولم يقم بمسئوليته, ومنهم مقتصد, فاقتصر على نفسه وخاصة أهله, ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله, فهو يشارك في تنمية وتطوير وتوسيع دائرة الاستفادة من الكتاب لكل الناس في كل مكان وزمان,.
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34)الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35)
إن الفضل الكبير يقتصر على السابقين بالخيرات بإذن الله, ولا أظن أنه يشمل الظالم لنفسه, والمقتصد. ولنقرأ ما هو أجرهم, وما هي انطباعاتهم لحظة دخول الجنة, وما هي النعم التي كانوا محرومين منها في الدنيا, ثم هم يرونها في الآخرة, التي فيها كل خير, إلا إن السابقين بالخيرات بإذن الله يذكرون في هذا الموقف أكبر النعم من وجهة نظرهم.
إن أول انطباع لهم حين دخلوا الجنة, أن قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَن, وهو القلق من احتمال حدوث شيء يؤدي إلى حُزْن يقع فعلا. معنى هذا أنهم يظلون في الدنيا في حالة من الحَزَن, خوفا من الله ومن أن يفتنوا في الدنيا قبل موتهم, فهم على تواضع لله, لا يغترون بهدايتهم, ولا يأمنون مكر الله.
ثم هم يصفون نعمة ربهم الغفور الشكور, فيقولون: ( الذي أحلّنا دار المُقامة من فضله, لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) فدار المقامة لهم هي الجنة, وليس لهم في الدنيا دار مقامة, لا يعروف طعما لاستقرار فيها, فالموت بين أعينهم أقرب لهم من شراك النعل, لا يستغرقون في الأمل في الدنيا.
وإن أهم ما يلفت نظرهم في دار المقامة أنهم لا يمسهم فيها نصب, ولا يمسهم فيها لُغوب.
لو سألنا الآلاف من المؤمنين عن ماذا سيكون أول انطباع لهم حين يدخلون الجنة, وماذا ستكون أول كلماتهم فيها, إنني أتوقع أن أول انطباع لكثير من الناس سيكون انبهارا بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, بالجنات وبالأنهار والثمرات والحور العين, والقصور وغير ذلك, لكن هؤلاء السابقين بالخيرات بإذن الله, يكون انطباعهم مختلفا تماما, إن أول نعمة يستشعرونها هي أن الله سبحانه أذهب عنهم الحزن, الذي كانوا يحملونه ويهتمون به في الدنيا, مخافة ألا يكونوا من أهل الجنة, ولم ينقطع عنهم الحزن إلى في اللحظة التي يدخلون فيها فعلا جنات عدن.
ثم أول نعمة يرونها في الجنة بعد إذهاب الحزن عنهم, أن الله أحلهم دار المقامة من فضله, وأنهم أخيرا وبعد طول عناء استغرق حياتهم كلها في الدنيا, وجدوا مكانا يقيمون فيه فلا يمسهم فيها نصب أو تعب, ولا يمسهم فيها لغوب أو إعياء, وكان يمسهم في الدنيا نصب ولغوب حيث لم يعرفوا طعما لراحة ولا لاستقرار. إنهم يعملون في خدمة دينهم وكتاب ربهم الذي ورثوا مسئوليته عن رسول الله الوارثها عن رسل الله جميعا, ومن يفعل ذلك فليست له في الدنيا دار مقامة, ولا يعرف فيها إلا النصب واللغوب, وهم رغم ذلك يظل راجيا رحمة الله يخشى عذابه, إن عذاب ربك كان محظورا (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه, إن عذاب ربك كان محذورا)
● ومن كفر بعد ذلك فهو مستحق العذاب
وعلى الجانب الآخر, فإن هناك الذين كفروا, طلبوا الراحة في الدنيا فلا تكليف ولا مسئولية, وإنما ظنوا أنما هي حياتهم الدنيا يموتون ويحيون وما يهلكهم إلا الدهر, وهذا هو مصيرهم والعياذ بالله:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36)وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(37)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(38)
ثم ماذا بعد أن فطر الله السماوات والأرض, وما هو دورنا في هذه الحياة؟
يلقي الله المسئولية على عواتقنا, فهو الذي جعلنا خلائف في الأرض, فلا ينبغي أن نكفر به, ولا أن نشرك به أحدا ولا شيئا
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا(39)
والذين جعلهم الله خلفاء في الأرض, لا يحق لهم أن يتصرفوا في هذا الاستخلاف إلا بأمر الذي استخلفهم, وبالتالي لا ينبغي لهم أن يأخذوا من شركاء من دون الله, حيث لم يخلقوا شيئا من الأرض, وليس لهم شرك في السماوات, وليس لهم كتاب منافس, ولكنهم سيقعون تحت طائلة الظالمين والذين يدّعون القوة والغلبة, بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا(40)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(41)
إن الله سبحانه تكفل بفضله أن يمسك السماوات والأرض أن تزولا, ولا يستطيع ذلك إلا هو, وترك لنا الفرصة لعمارتها واستثمار نعم الله فيها, ولم يتركنا بدون هداية, ولكنه أرسل رسله بالهدى للناس, ولكن بعضا منهم أقسموا لو جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم, ولكنهم لم يبروا بقسمهم: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا(42)اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا(43)
ولم يتعظوا بما حدث في التاريخ لمن سبقوهم ممن أعطاهم الله القوة والهداية, ولكنهم قصروا وفرطوا واستكبروا, فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا(44)
ولولا فضل الله ورحمته وحلمه وعلمه, لما ترك على ظهر الأرض من دابة بسبب ظلم الناس وكبرهم وتقصيرهم, ولكنه جل وعلا يترك لهم ولنا جميعا الفرصة لنحسّن الوضع ونقوم بدورنا في خلافة الأرض…
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا(45)
نسأل الله أن يمهلنا ويلهمنا لكي نصلح ما فسد وما أفسدنا من أمورنا في الدنيا قبل أن نلقاه إنه سميع مجيب