حيث أن الله فاطر السموات والأرض, قد جهّز كل شيء فيها منذ الأزل, ونظّّّم حركته بقوانين حتمية وسنن لا تغيير فيها, فإننا نستنتج من هذا أنه حين يفتح الله للناس من رحمة, فإنه يفتحها بأمر سبق الإعداد له, وسبق خلق كل ما يتعلق به, وسبق الأمر الذي به يتحرك كل شيء نحو تنفيذ رحمة الله سبحانه, فلا ممسك لها.
وكذلك فإن ما يمسك سبحانه, فلا مرسل له من بعده, فالخلق الذي يشارك ويتداخل في تنفيذ أمر, لا سيطرة لواحد من الناس عليه, والأمر من سنن الله وقوانينه لا سيطرة ولا تحكّم لأحد فيها, إلاّ المهيمن على خلقه وأمره جلّ وعلا وتبارك اسمه, إذن (وما يمسك, فلا مرسل له من بعده…)
وإنما هو سبحانه يفعل ذلك بعزّة لا غالب لها, وبحكمة لا إفراط فيها ولا تفريط.
مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)
وحركات الإنسان وسعيه واختلاف تصرفاته وتنوعها, تكون ضمن ما أعدّه الله ورتّب النتائج عليه, بكل احتمالات تصرفات الإنسان. وبالتالي فإن نتيجة كل تصرف من تصرفاته, ينتج عنه نتائج سبق الإعداد لها من الخلق والأمر الذي فطره الله…. ولن تجد لسنّة الله تبديلا.
وسوف يفصّل ذلك في أمثلة متعددة ضربها الله في سورة فاطر…
إن الله فاطر السموات والأرض, وما حَوَت من العالمين والحياة كلها, قد فتح بذلك للناس من رحمته من الخيرات المادية التي قامت عليها حياة الناس, ومن الرزق, ومن الخيرات الروحية والنفسية التي بها يتعايش الناس.
والله جاعل الملائكة رسلا, قد فتح بذلك للناس من رحمته أبواب الوحي وما نزل به من أمر الله والهداية والخير والروح التي فيها وبها حياتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
ولم يكن للسماوات أو للأرض أو للناس أو للملائكة أو لغيرهم من الخلق دخْل في ذلك ولا خيار, فلا ممسك للرحمة إذا فتحها الله.
أين كان الناس حين فطر الله السموات والأرض؟
وأين كانوا حين جعل الله الملائكة رسلا بالهداية إليهم؟
وهل كان للملائكة خيار في زيادة الله في أجنحتهم مثنى وثلاث ورباع؟
وهل للناس خيار فيما يزيد الله في خلقهم أوينقص بما يشاء سبحانه؟
وهل للناس يد فيما يمسك الله؟ هل يستطيع أحد أن يرسل ما يمسك الله؟
وما يمسك فلا مرسل له من بعده, وهو العزيز الحكيم.
إن قدراته سبحانه في تحقيق ما يشاء وفي المنح والمنع لا يقف أمامها أحد ولا يستطيع شيء أن يغير من إرادته ومشيئته, فهو العزيز الغالب على أمره, المالك لكل أسباب الغلبة والنصرة والقوة. وفي نفس الوقت, فإن أفعاله كلها بحكمة فهو الحكيم, فتكون عزّته وحكمته نصرة للحق.
حين يدرك الناس تلك المعاني, فإنهم لن يلجأوا في حاجاتهم إلا لله, ابتغاء رحمته, وابتغاء العزة, ولن يأسوا على ما فاتهم لأنه تم بحكمة. ولا مبدل لكلمات الله ولا مغير لمشيئة الله, ولكن التسليم الكامل لما أعطى ولما منع ولما فتح من رحمته ولما أمسك فلا مرسل له من بعده, وهو العزيز الحكيم.
ولهذا فقد علمنا رسولنا صلّى الله عليه وسلم: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت.
يا أيها الناس:
بعد هذا التثبيت لقواعد العقيدة, يتوجه نداء الله للناس مؤمنهم وكافرهم في كل زمان ومكان, بنداءات ثلاثة:
- يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُون َ(3)
إن من يعلم أن الله فاطر السموات والأرض, جاعل الملائكة رسلا, ويعلم أنه ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها, وما يمسك فلا مرسل له من بعده, وأنه هو العزيز الحكيم, يوقن أنه ليس من خالق غير الله يرزق من السماء والأرض. فمن يستطيع التنسيق بين كل خلق الله حتى يتحقق وصول نعمة الله إلى يدك؟
ولنمشِ مع رغيف الخبز الذي تجده بين يديك لتأكله, لقد وصل إليك من فاطر السموات والأرض, بعد رحلة طويلة متعددة المراحل, فقد وصل إليك من المخبز, بعد أن خبزه الخبّاز من دقيق نتج من مطاحن القمح, المصنوعة في مصانع معينة, بعد أن تم درسه وتذريته بآلات زراعية, فور ضمّه من الأرض التي أنبت فيها, بماء ساقه الله من السماء إلى مجاري الأنهار مرورا بسدود وقنوات, بآلات للري, بعد أن بخرته شمس الله من البحار فأرسل الله الرياح بين يدي رحمته, حتى إذا أقلّت سحابا ثقالا ساقه الله إلى بلد ميت, فأنزل به الماء فأخرج به من كل الثمرات.
ويمكننا التسلسل في سرد الخطوات والوظائف والآلات والخبرات التي أوصل الله بها رغيف الخبز إلى يدك؛ بحيث يستحيل أن يتفق كل هؤلاء من خلق الله في الطبيعة وفي الناس على توصيل الرغيف إليك, فتسد به جوعك حين تجوع, وتطعم به أطفالك وأهلك, إلاّ أن الله سبحانه المهيمن قد فتح من رحمته ما لا ممسك لها, فتحرك خلقه في كل مكان, بأمره في كل زمان, حتى يصل إليك رزقك, وما يمسك فلا مرسل له من بعده, وهو العزيز الحكيم, أسباب القوة والغلبة في يده, والحكمة كلها في أمره.
وهكذا مع كل نعمة في يدك أو في الكون من حولك. وفي السورة المزيد…
إن من يذكر نعمة ربه عليه, ويتفكّر في آلاء الله فيسبّح بحمده, يعلم أنه ليس من خالق غير الله يرزقه من السماء والأرض, فإنه يستحيل أن يتّفق كل هذا الخلق ويرتّب كل هذه الترتيبات إلا بأمر الله وإذنه, لا إله إلا هو, فأنّى تؤفكون, أي لماذا تُصرفون عن الله إلى غيره, فتنسبون رزقكم إلى غيره سبحانه؟ ولماذا تؤفكون عن طاعته إلى طاعة غيره في معصية الله, ابتغاء رزق أو فضل؟
إن من يعلم كل هذا, لا ينصرف عن الله إلى غيره, ولا يلجأ إلا إليه, ولا يحتاج إلا إليه, ولا يتوكل إلا عليه, ولا ينشغل إلا به سبحانه وتعالي لا إله إلا هو.
ورغم أن التسلسل بالتفكير المنطقي, يوصّل إلى أنه ليس من خالق غير الله يرزق الناس من السماء والأرض, إلا أنّ بعضا من الناس يكذبون بما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما كذّبت رسل من قبله (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ(4). فهؤلاء يأتيهم النداء الثاني:
- يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(7)
إن من لم يتسلسل به تفكيره فيهتدي إلى مبدأ أن الله فاطر السموات والأرض, جاعل الملائكة رسلا, بالهدى ودين الحق, فإن الله يؤكد له أن وعده حقّ بالآخرة, والحساب والجزاء والثواب والعقاب, فهو الذي أعد الدار الآخرة بما فيها من الجنة والنار وما فيهما من نعيم وعذاب.
فلا ينبغي أن يؤفك الناس فينصرفون عن الله ووعده الحق, إما بأن تغرهم الحياة الدنيا فيظنون أنهم مخلدون فيها, أو أنها هي نهاية المطاف, فيقول أحدهم ” وما أظن الساعة قائمة”, أو أن يغرهم بالله الغرور, وهو الشيطان عليه لعنة الله, فيغرهم بأعمالهم, ويغرهم, فيزين لهم في عفو الله ورحمته وأنهم ناجون من عذابه مهما ساء عملهم وقبح خُلُقهم, فيقول أحدهم “ولئن رددت إلى ربّي لأجدنّ خيرا منها منقلبا”.
والشيطان هو عدو للناس, فينبغي أن يتخذوه عدوا, وأن يتركوا عداوة الخلق, وإلا فإنهم يكونون من حزب الشيطان الذين يدعوهم ليكونوا من أصحاب السعير.
والخطورة هنا تكمن ليس في الكفر الواضح ولكن في الخدعة التي ينخدع بها الناس بأنهم يرون عملهم حسنا وهو سوء, ولكن الشيطان يزينه لهم. نسأل الله ألا نكون منهم.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(8)