وصلنا إلى منصّة القضاء, وهي قمة الفصل في النزاعات. فماذا بعد!
إن الخوف الآن, أن يضع القاضي اعتبارات أخرى غير العدل والحق في حُكمه, فيضيع كل البناء السابق, ولا يجد الناس مخرجا بعد أن وصلوا إلى قمة اللجوء لعدالة القضاء.
هنا تأتي سورة الزخرف, ليحذر الله من ذلك, وليؤكد على أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه, وأن صاحب الحق لابد أن يحكم له, وأن يمكّن من حقه, مهما كان نسبه, ومهما كانت حالته الاجتماعية, ومهما بلغ ثراؤه أو قوته, أو مركزه السياسي.
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
والقرآن الحقّ عليٌّ حكيم: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
لا يمنع الله القرآن عن الناس حتى لو كانوا مسرفين, (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)) فلا تمييز أمام الحق, الكل ينزل عليه القرآن بلا تفرقة, كذلك فأمام الحق وأمام القانون صاحب الحق يُنصر ولو كان كافرا, ولو كان خصمه من المسلمين ولكن غير صاحب حق.
وباعتبار أن الأنبياء هم حملة الحق, فإن احترامهم واجب, وإن من يستهزئ بهم يستهزئ بالحق: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7))
والله يهلك الظالمين ولو كانوا أشد الناس بطشا, وأما الحق لا يراعي الله قويا ولا أشد الناس بطشا: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8))
ولا مفاضلة لأحد على أساس ملكه من أرض وأنعام وفلك, فكل شيء مخلوق لله, بنعمة منه, وبتسخيره سبحانه, ثم هو يرثه بعد أن ينقلب الناس إليه: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
وليس لله من عباده جزء يميّزه الله أمام الحق, فليس له من ولد, ولم تكن له البنات وللناس البنون, ولم يتخذ من الملائكة بنات, فالكل سواء أمام الحق: ( وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)
كما أنه لم يخص أحدا بكتاب بخلاف القرآن, حتى يستمسك به, ويترك القرآن (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
ولا مراعاة لاتباع الآباء وآثارهم إن لم يكونوا على الحق: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)) فالعبرة بالهداية والمفاضلة على أساس الحق: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)
وقد ضرب إبراهيم مثلا لمراعاة الحق, حتى ولو لم يتّبعه أبوه وقومه: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27))
ولا مراعاة للعظماء من الناس لعظمتهم, ولكن الاعتبار بحمل الحق حتى ولو حمله أضعف الناس: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32))
ولا مراعاة لأكثر الناس ثراء, فإن الله كان يمكن أن يخص بالثراء من يكفر بالرحمن: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
ولا اعتبار لكثرة لو كانت على الباطل: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
وأراد فرعون أن يستميل الناس لباطله, باعتباره له ملك مصر والأنهار تجري من تحته: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
كما أراد أن يبعد الناس عن الحق الذي جاء به موسى باعتبار أن موسى لا يكاد يبين, وأنه لا ثروة له ولا قوة معه: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)) وهذه كلها لا اعتبار لها أمام الحق.
ولا اعتبار لنسب حامل الحق, بأنه ابن امرأة من غير رجل, وإنما الاتباع للحق الذي جاء به, وهو به خير من آلهة بالباطل: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
ولا اعتبار لصداقات على حساب الحق, فيوم القيامة يكون بعضهم لبعض عدوا إلا المتقين: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
ومن أراد تمييزا وتفضيلا, فإن الله يجعلها له في الآخرة, إن كان من أهل الحق في الدنيا, أما الأمر في الدنيا فلا وزن لشيء غير الحق الذي يعلو ولا يُعلى عليه.
(يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
وأما المجرمون الظالمون, فليس لهم في الآخرة إلا العذاب, مهما ملكوا وراعوا في الدنيا بغير الحق, بل كانوا له كارهون: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)
كما أنه لا مراعاة لاتفاق الجميع على أمر واحد, إن لم يكن حقا: فاتفاق مجلس العموم البريطاني على إباحة الشذوذ الجنسي وزواج المثليين, لا يوزن عند الله, واتفاق أعضاء المجالس النيابية على شيء مخالف لدين الله لا يُعتدّ به: ((أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
ولا مراعاة لإنسان على أساس نسبه, بأنه ابن فلان, فالله سبحانه لم يتخذ ولدا, ولو فعل, سبحانه وحاشى لله- لكنت أول العابدين, ولكن حيث أنه لا ولد له, بل هو ربّ العرش, فإنه لا اعتبار لولد أحد من الناس على أساس نسبه, ولكن الحق يعلو ولا يُعلى عليه: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82))
وفي النهاية, فإن الله سبحانه في السماء إله وفي الأرض إله, وله ملك السماوات والأرض وما بينهما, ولا يملك أحد عنده الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
وحيث أن الله هو الخالق, فلا ينبغي للناس أن يلتفتوا عن عبادته إلى عبادة غيره: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
وهكذا فإنه لا يُمنع الذكر عن المسرفين, ولا ترجيح لأشد الناس بطشا, ولا استهزاء لحملة الحق, ولا مجاملة لمالكي الفلك والأنعام وراكبيها, ولا لجزء من عباد الله بادعاء نسبتهم إليه, ولا لحامل كتاب غير القرآن, ولا مراعاة لآثار الآباء بغير الحق, ولا لعظماء الناس, ولا لأكثر الناس ثراء, ولا لكثرة الأتباع والشركاء, ولا لصاحب ملك وأنهار تجري من تحته, ولا ضعف لحامل الحق, ولو أنه لا يكاد يبين, ولا لأنه ابن امرأة من غير أب, ولا مجاملة لأخلّاء, ولا لولد لعظيم.
وإنما التفضيل يأتي يوم القيامة حسب الإيمان والعمل الصالح, وبه يحصل الإنسان على كل المتاع خيرا مما تمناه في الدنيا, ومما حظي به غيره فيها بغير الحق. والمهانة والخذلان للمجرمين الظالمين.
وإن أحدا لا يملك الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون فالحق يعلو ولا يُعلى عليه
الزخرف- الحق يعلو ولا يُعلى عليه
المقال السابق