القرآن المدني يمثل المنهاج التنفيذي للدولة الإسلامية؛ فسورة البقرة شملت كل العصر المدني للرسالة, فهي الحكومة التنفيذية: مشروعيتها, ومسئولوها وتاريخها, وتكليفاتها ومسئولياتها العامة في المجتمع, حتى تسيطر بكتاب الله على حدودها وتمنع الاعتداء والفتنة, ليكون الدين لله داخل الدولة.
ثم تتولى الدولة مسئولياتها العالمية, فتمثل سورة الأنفال الأهداف الاستراتيجية العسكرية والسياسية للدولة (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) وفي كل مرحلة من المراحل يدعو الله المؤمنين إلى السلم والجنوح له, حتى مع وجود احتمالات خديعة, ويدعو المحاربين من الكافرين: (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) ثم يؤسس لبناء التحالف بين المسلمين في العالم, مما يمكن تسميته الولايات المتحدة الإيمانية, فيقف أمام تحالف قوى الذين كفروا (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض, إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) دون أن تكون ثروات الشعوب هدفا للقتال, فالأنفال لله والرسول, بل الهدف منع الفتنة, وهداية الناس, (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) حتى يحكم دين الله العالم كله (ويكون الدين كله لله).
وسورة آل عمران تُعِدّ وتبني القوة العظمى الإسلامية, التي تحقق هذا الهدف أن يكون الدين كله لله, وهو يوم الفرقان, فتجمع وتلم شمل الذين آمنوا بآيات الله, وتقارب بينهم, وتدعو الجميع إلى كلمة سواء, فتبين للناس الحق فيما يعتقدون, وتقيم حكم الله لا إله إلا هو قائما بالقسط, بشريعته ونظامه الذي أنزله ليحكم مجتمعات الناس ودولهم وحكوماتهم, دون إكراه للأفراد في معتقداتهم الخاصة, بل ليحقق أجواء حرية العقيدة فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, ويرفع جور الحكام وظلمة القوانين والنظم الحاكمة عن كاهل الناس, لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؛ ولا يتأتى ذلك إلا بعد أن تبدأ دولة يكون الحكم فيها بكتاب الله كما بينت سورة البقرة (ويكون الدين لله), ثم يتكرر الأمر في دول أخرى, تتحالف كما بينت سورة الأنفال (ويكون الدين كله لله) ؛ ثم ينفذ الأمر الذي أمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حديث البخاري: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا صلاتنا ويستقبلوا قبلتنا ويذبحوا ذبيحتنا, فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله). والناس هنا ليسوا الأفراد, حيث لا إكراه في الدين, ولكن الناس هم الدول والحكومات التي تحكم مواطنيها بالظلم والطغيان والطاغوت, وتعتدي على دول أخرى, وتستولي على مقدراتها وتسعى في الأرض فسادا فتهلك الحرث والنسل. إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يقاتل الأفراد من المشركين والكافرين وأهل الكتاب في المجتمع, حتى يقولوا لا إله إلا الله, ولكنه ضرب جيوش كفار مكة الذين كانوا يعذبون المسلمين ويمنعونهم الصلاة ويخرجونهم من ديارهم, بعد أن دعاهم سنين عددا, كما عرض الإسلام برسائل سلمية (أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين) على كسرى فارس وهرقل الروم ونجاشي الحبشة, ومقوقس مصر, وجهز الجيوش لمحاربة مَن تعالى وتجبّر منهم ورفض دعوة رسول الله للسلم وإلى كلمة سواء, وتحدّى بتمزيق رسالة رسول الله له, فمزّق الله ملكهم استجابة لدعوة رسوله, وأكمل الخلفاء الراشدون رسالته ليحكم دين الله الناس في كل الأرض المعمورة حينئذ, ويكون الدين كله لله, فيحيا الناس في ظل شريعة تناسب فطرتهم, وتحفظ حقوقهم, وبعد ذلك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولم يسجل التاريخ أن قادة المسلمين وإداراتهم قد قهروا أحدا على الدين في البلاد التي فتحوها, ولكنهم غيروا الأحكام فيها, والقوانين, إلى عدل الإسلام وشريعة الله وما بينه رسوله صلّى الله عليه وسلم.
والأمور الأربعة التي وضعها رسول الله شرطا لعصمة دماء وأموال الناس, هي أن يقولوا لا إله إلا الله, أي يعترفوا بأن الحكم لله وحده, حتى لو ظلوا على معتقداتهم الخاصة, وأن يسمحوا بأن تقام الصلاة وتستقبل القبلة وتذبح الذبائح على شريعة الله, وهي الظروف اللازمة لحياة المسلم, فيحكم بشريعة الله, ويسمح له بالاجتماع على الصلاة, واستقبال القبلة, والطعام الحلال من الذبائح على الشريعة. وهي أمور لا تضر غير المسلمين في شيء, وتتيح للمسلمين الحياة بغير حرج في أية دولة وتحت أي حكم. فإن منعت أية دولة المسلمين فيها عن تلك الأمور, فدولة الإسلام تقاتلها, لا طلبا لثرواتها, ولكن تحقيقا لحرية ممارسة العقيدة والشريعة. ودولة الإسلام تحقق حرية ممارسة العقيدة والشريعة لغير المسلمين فيها, وتسمح لهم بإقامة شعائر دينهم, والطعام والشراب الذي يتفق مع شريعتهم وعقيدتهم, بل ويحافظ على أماكن عبادتهم من أن تهدّم: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)(سورة الحج).
أما إن كان بين دولة المسلمين ودولة أخرى ميثاق فلا قتال بسبب منع الأمور المذكورة, طبقا لما في سورة الأنفال (فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) ولكن بالمساعي السلمية والسياسية.
إن هذا الذي حدث في دولة الإسلام الأولى في المدينة وما تلاها من قرون لهو آية يمكن أن تتكرر, بل حتما ستتكرر قبل قيام الساعة, فيُحكم العالم بشريعة الله ويكون الدين كله لله, كما سيتبين من سورة آل عمران. وعندئذ فإن النموذج الإسلامي الصحيح الضامن لحرية الاعتقاد, يكون باديا وعمليا أمام الناس, ويخرج من النظرية والاعتقاد إلى التطبيق.
حين شكا القرشيون إلى أبي طالب من النبي صلّى الله عليه وسلم, وسأله أبو طالب: ما تريد من قومك؟ قال: أريد منهم كلمة لو قالوها تدين لهم بها العرب وتدفع لهم العجم الجزية. قالوا: كلمة واحدة؟ قال: كلمة واحدة, قالوا: فما هي؟ قال: قولوا لا إله إلا الله. قالوا: إلها واحدا, إن هذا لشيء عجاب. فنزلت سورة ص.
وفهمت من هذا أن قائلي لا إله إلا الله, العاملين بها, سيحكمون العالم, بحيث تدين لهم بها العرب وتدفع لهم العجم الجزية. وهذا ما حدث في دولة الإسلام الأولى, وهذا ما سيحدث قبل قيام الساعة. وفي حديث رسول الله بشارة بنزول عيسى ابن مريم عليه السلام فينا حكما مقسطا, ومن تأكيد الله سبحانه (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون, هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) فإن من عقيدة المؤمن أن دين الله سيسود ويحكم. فما الواجب علينا تجاه ذلك, وكيف نستعد لهذا اليوم؟
وكلمة دين : الدال والياء والنون أصلٌ واحد إليه يرجع فروعُه كلُّها، وهو جنسٌ من الانقياد والذُّل. فالدّين: الطاعة، يقال دان له يَدِين دِيناً، إذا أصْحَبَ وانقاد وطَاعَ، وقومٌ دِينٌ، أي مُطِيعون منقادون. وَالمَدِينَة كأنّها مَفْعِلة، سُمّيت بذلك لأنّها تقام فيها طاعةُ ذَوِي الأمر
وليكون الدين كله لله, أي ليكون الانقياد والطاعة لله وحده لا شريك له, أي تكون شريعة الله هي الحاكمة, لكل الناس في كل الدنيا, على اختلاف عقائدهم, ولا إكراه في الدين بالنسبة للأفراد.
وتحقيق ذلك لا يكون إلا بأمر الله, وفي الموعد الذي يشاؤه سبحانه, وإنما ما علينا هو أن نؤدي واجبنا ونعد لهذا اليوم, بمحاولة إزالة الخلافات بين المسلمين بعضهم البعض, وبين المسلمين والذين أوتوا الكتاب. وحيث أنه أمر جليل خطير, فإن الله بينه في سورة آل عمران, ونفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة في المدينة, وعلينا أن ننفذه في كل عصر, إلى أن يشاء الله ويظهر دينه على الدين كله, ويكون الدين كله لله.
محاور سورة آل عمران:
وللسورة ثلاثة محاور: ألف الحق, لام الموعظة التي تثبت الحق, ميم التكاليف التي يعلو بها الحق فلا يعلى عليه.
محور “ألف” الحق: ويُنشئ الله به في القلوب والعقول سلطان الحي القيوم, وكيف أنزل الفرقان, ليفرق به بين الحق والباطل, وأن كتابه سوف يحكم بين الناس, ليكون الدين كله لله.
لقد افتتحت السورة (الله لا إله إلا هو الحي القيوم), وهما الاسمان اللذان وردا من قبل في سورة طه المكية في مقام حكم الله النهائي يوم الحساب: (وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما), ثم في آية الكرسي بسورة البقرة المدنية, المبينة لحكم الله وسلطانه في السماوات والأرض. بصفته الحي القيوم, ثم هنا في سورة آل عمران, فهو سبحانه الحي القيوم المسئول عن حياة الناس ومعيشتهم ومئونتهم, وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء, وهو الذي يتحكم في تصويرنا في الأرحام كيف يشاء, بعزته وحكمته, وهو سيغلب الذين كفروا ويأخذهم بذنوبهم كدأب آل فرعون أطغى طغاة التاريخ, والذين من قبلهم, وهو الله الذي شهد أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط, وهو سبحانه مالك الملك, يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء, ويعز من يشاء ويذل من يشاء, وأنه يؤيد بنصره من يشاء, وإن الدين عند الله الإسلام, وكتاب الله يحكم بين الناس, كل الناس, فعلى مستوى الحكم والخضوع والطاعة والاستسلام ينبغي على المسلمين أن يحكموا دولهم بشريعة الله, وأن يدعوا الدول الأخرى والطوائف المختلفة للحكم به (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم, فإن أسلموا فقد اهتدوا, وإن تولوا فإنما عليك البلاغ, والله بصير بالعباد), ويبدأ هذا المحور من بداية السورة, إلى قوله تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
محور “لام” الموعظة: ويمثل القصص الذي يبين كيفية تأسيس جند الله الذين يُظهر بهم دينه على الدين كله, منذ مبدئهم ووجودهم جنينا في بطون أمهاتهم؛ فامرأة عمران نذرت لله ما في بطنها محررا, وحين وضعتها أعاذتها بالله من الشيطان الرجيم, فتقبلها ربها بقبول حسن, وأنبتها نباتا حسنا, وكفلها زكريا, وكفاها برزقه بغير حساب. وهذا ما ينبغي أن تفعله كل أم مؤمنة حين تحمل, لكي تبدأ في تجهيز مولودها ذكرا كان أو أنثى, كجندي من جند الله الغالبين. وكذا فإن ما فعله زكريا هو ما ينبغي أن يفعله كل رجل طالبا من الله أن يهبه من لدنه ذرية طيبة, ترث مسئولية كتاب الله ليكون الدين كله لله, فيهبه الله طفلا سيدا, لا يخضع إلا لله, مثل يحيي عليهما السلام, وهذا اليوم آت لا محالة, حيث ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيطهره الله من الذين كفروا فادّعوا أنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلاثة, ويجمع الذين آمنوا بآيات الله على اختلاف طوائفهم, فيصحح عقيدة أهل الكتاب, ويصحح عقيدة الذين في قلوبهم زيغ ممن نزل الكتاب إليهم, ثم يجعل الله الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة, يقول الله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) وهو من العلامات الكبرى للساعة(وإنه لعلم للساعة ), بشر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حديثه بالبخاري حيث قال: (والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكما عدلا) والأمة الإسلامية تستعد لهذا اليوم بتجهيز أبنائها ليكونوا جندا في جيش عيسى عليه السلام حين ينزل فينا حكما عدلا. ويبدأ هذا المحور من الآية: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) ويستمر إلى قوله تعالى: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
محور “ميم” التكاليف: ويمثل التطبيق العملي لما أنشئ من سلطان وما تبين من القصص, فيبين المهمات والتكاليف التي يكلف الله بها جنده من الذين آمنوا, الذين أخرجهم للناس خير أمة, يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله, ويدعون إلى الخير, فيصبرون ويصابرون ويرابطون ويعبدون ربهم ويفعلون الخير لعلهم يفلحون.
وضمت سورة آل عمران كل أهل الكتاب في جانب, والذين كفروا في الجانب الآخر, وحرضت على قتال الذين كفروا المحاربين المتربصين للذين آمنوا, لرد حكم الناس إلى الله وشريعته, ودعت أهل الكتاب بالحكمة والموعظة الحسنة, إلى كلمة سواء تبعد الجميع عن عبادة غير الله, وعن اتخاذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله, دون ضغط أو عنف أو قتال(فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). ويبدأ هذا المحور من قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) وإلى نهاية السورة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200). وإلى تفاصيل السورة…