وهل هناك برنامج وخطوات ينبغي اتباعها للتأهب والتأهيل للوصول إلى يوم الفرقان؟
إن هذا ما كان من آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران, وهو ما يتضح من المحور الثاني للسورة:
المحور الثاني: لام الموعظة: كيفية التأهب والتأهيل ليوم الفرقان:
إن يوم الفرقان؛ يوم يحكم الله الناس بشريعته وكتابه, آت لا محالة, ويحدد الله موعده. وإلى أن يأتي فإن على المؤمنين بآيات الله التأهب والتأهُّل لهذا اليوم, الذي يؤمنون بحتميته, وبأنهم سيكونون فيه من جند الله الغالبين, وتحت القيادة التي يحددها الله, وبهم يكون الدين كله لله, في كل العالم يخضع له كل الناس على كل الأرض. كيف يكون ذلك؟
إن لنا في بعض من رسل الله وأنبيائه الأسوة الحسنة في الإعداد, فقد أعد الله آدم لأن يكون هو وبنوه خلفاء في الأرض, فعلمه الأسماء كلها, وأسجد له ملائكته, ومن حضرهم ليعينوه على تلك المهمة. ثم تلاه نوح الذي ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما, دون كلل أو ملل, وما آمن معه إلا قليل, لم يكن منهم امرأته, وواحد من أبنائه, وهو ليس من أهله, ثم تلاه إبراهيم وآله إسماعيل وإسحاق, وأبناؤهم من أنبياء الله ورسله, ثم بلغ المطاف آل عمران الذين ضرب الله بهم المثل في كيفية إعداد أنفسهم وذرياتهم لبلوغ هذا اليوم, يوم الفرقان, يوم يحكم الله الناس بشريعته. (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
وآل إبراهيم هم إسماعيل وإسحاق, ومن إسماعيل رسول الله محمد, ومن إسحاق يعقوب ويوسف, وأنبياء بني إسرائيل, ومنهم موسى وعيسى, أما آل عمران فهم أهل مريم أم عيسى عليهم جميعا صلوات الله وسلامه, لا نفرق بين أحد من رسله.
إن امرأة عمران أسوة حسنة في كل أم رزقها الله بحمل في بطنها, فتوجهت بنذر ما في بطنها لله, وسألته القبول: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فاستعاذت بالله لها ولذريتها من الشيطان الرجيم. أي أنها وهي تعلم قدر الله وفضله ونعمته عليها, وجهت طفلتها لله, محررة من أن تنقاد لغيره من خلقه, وهنا فإن كرم الله وفضله يتقبل من توجه لوجهه ونذر أن يعمل لله, وحده لا شريك له, وينبتها ويكفلها ويرزقها:
● (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ …
● وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا …
● وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا …
● كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
وعلى كل أم حملت أن تفعل كما فعلت امرأة عمران, فترجو من الله كل تلك النعم لطفلها, وبالتالي تنشأ الأجيال المحررة التي تعمل لله ولا يشغلها عنه رزق. وهذه هي النوعية التي تصلح لأن تكون جنودا لله يغلبون بأمره, ويقيمون دينه وكتابه وشريعته, ويكون بهم الدين كله لله.
فماذا يكون دور الرجل؟
إن زكريا عليه السلام, يمثل الأسوة الحسنة للرجل الذي يطلب من الله الذرية التي تحمل مسئولية رسالاته إلى الناس. وزكريا حالة ميئوس منها كوالد, حيث بلغه الكبر وامرأته عاقر, ولكن الله رغم كل ذلك, يتقبل دعاءه ويهب له الطفل الطيب السيد, الذي لا يخضع إلا لله:
● هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
ويمثل يحيي شخصية الصبي المولود سيدا, وحصورا, أي لا يأتي النساء رغم قدرته على ذلك, ولا ينشغل باله بهنّ, ونبيا من الصالحين, وفي الحديث(ما من بني آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة, ليس يحيي ابن زكريا)
ثم يأتي دور مريم, المحررة من العبودية لغير الله, ومن العمل إلا لوجهه وحده لا شريك له, وكانت عليها السلام حالة مستحيلة كأم, حيث لم يمسسها بشر, فيصطفيها الله ويطهرها ويكفلها ويرزقها:
● وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
● ويخلق الله منها طفلا يكون هاديا للناس, ويكون قائدا لهم بشريعة الله: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)) وفي ذلك إشارة إلى المرحلة الأخيرة من حياة عيسى عليه السلام على الأرض, حيث يكلم الناس كهلا, بعد أن كلمهم في المهد.
● ويؤهله الله بتعليمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل, ويجري على يديه المعجزات التي تؤيد صدق إبلاغه عن الله, فيتبعه من يتبعه, ويعصيه من يعصيه, ويمكر من يمكر, والله خير الماكرين: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
إن عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته, عليه السلام, له وضع خاص بين أنبياء الله ورسله, بل بين بني آدم جميعا, ففي حديث البخاري رقم (3359) ـ حدّثنا أبو اليمانِ أخبرَنا شعيبٌ عنِ الزُّهريِّ قال: حدثني سعيدُ بن المسيبِ قال: قال أبو هريرة رضيَ اللهُ عنه : «سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلّم يقول: ما مِن بَني آدمَ مولودُ إلا يَمسُّهُ الشيطان حينَ يولد فَيستَهِلُّ صارخاً مِن مَسِّ الشيطانِ، غيرَ مريمَ وابنِها. ثم يقول أبو هريرة: {وإني أُعيذُها بكَ وذُرِّيَتَها من الشيطانِ الرجيم} (آل عمران: 36).
كما أن له دورا خاصا في المستقبل وقبل قيام الساعة, ليعدل المعوجّ من أمر كل أهل الكتاب بمن فيهم الذين يتبعون ما تشابه من كتاب الله ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله, حيث يأتي عيسى عليه السلام في مرحلته الأخيرة على الأرض, بعد أن توفاه الله ورفعه إليه دون أن يقتله اليهود: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) ثم يطهره من الذين كفروا, ومن الذين نسبوا له أقوالا كافرة, كمن قال إن الله هو المسيح ابن مريم, ومن قال إن الله ثالث ثلاثة- إن يقولون إلا كذبا, ويتم ذلك بتصحيح عقيدتهم, وبأن يطهر الله عيسى عليه السلام من قولهم, ويبرئه (.. وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا..) ثم هذه بشارة أخرى (.. وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ..) أي أن الله سبحانه سوف يجعل الذين اتبعوا عيسى عليه السلام فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة, فمتى وكيف يحدث هذا؟ ومن هم الذين اتبعوه؟
إنهم بالتأكيد ليسوا من قالوا الأقوال الكافرة التي يطهره الله منها. إنهم لابد أن يكونوا مؤمنين بالله, ثم بعد القرآن وبعد نزول آخر رسالة وآخر تشريع لله إلى الناس, لابد أن يكون أتباع عيسى على دين الله الإسلام, وعلى شريعة القرآن. إن هذا ما بشّر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم, في حديثه المشهور: «والذي نفسي بيدهِ، لَيُوشِكنَّ أن ينزلَ فيكُم ابنُ مريمَ حَكَماَ مُقْسِطاً فيَكسِرَ الصَّليبَ ، ويَقتُلَ الخِنزيرَ، ويَضَعَ الجِزيةَ، ويَفيضَ المالُ حتّى لا يَقبلَهُ أحد». والقسط الاعتدال بعد الاعوجاج, وبالتالي يجعل الله الذين يتبعون عيسى عليه السلام, فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة, هم كل أهل الكتاب بمن فيهم المسلمون.
إن هذه بشارة تحدث في المستقبل كما قال الله في هذه الآية, وكما بين لنا رسوله عليه السلام, في حديث أبي هريرة: (واقرَؤوا إِن شئتم {وإِنْ مِن أهلِ الكتابِ إِلا لَيُؤْمننَّ بهِ قبلَ مَوتهِ، ويومَ القِيامةِ يكونُ عليهم شهيداً} (النساء: 159)) .
إذن فهذا يوم لا ريب فيه في الدنيا وقبل قيام الساعة. وفي هذا اليوم, لا اظن أن أحدا يتصور أن يكون عيسى ابن مريم حاكما لبلد دون بلد, ولقطر دون قطر؛ ولا أن يُحكَم يومئذ بعض الناس بحكم الله, ويحرم منه البعض الآخر؛ لكي لا يكون للناس على الله حجة ولكي يعيش الناس في الأرض وليست عليهم ضغوط ولا ظروف تمنعهم من التفكير بحرية في عقيدتهم, ومن الاتباع أو التولّي كما يشاء كل منهم, فيستوي الناس في الاختيار, ثم يرجعون إلى الله فيحكم بينهم: (.. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58))
ويلاحظ قول الله (فأعذبهم عذاب شديدا في الدنيا والآخرة) إذن هناك موقف في الدنيا سيُرى في الذين كفروا.