المحور الأول: ألف الحق: سلطان الحي القيوم على العالم:
بسم الله الرحمن الرحيم* الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) يعلن الله سبحانه عن مسئوليته عن الأرض والسماء وكل ما فيهما, فهو الحي الذي لا يموت, الذي لا تأخذه عن ملكه سنة ولا نوم, وهو القيوم القائم على كل شيء, والمسئول عن تدبير معيشة الناس وأرزاقهم وأعمالهم. ومن هذه المسئولية؛ فهو يدبر الأمر لضبط حياة الناس ومعايشهم بشريعته التي أنزلها, وبسلطان عباده المتقين الذين آمنوا, فيطبقونها على أنفسهم وعلى الناس, يحكمون بها؛ ليكون الدين كله لله.
ويقول لرسوله الخاتم: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) لما بين يديه من كل ما أنزل الله على رسله وأنبيائه جميعا (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ..) على موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل, وهو كتاب اليهود, (.. وَالْإِنْجِيلَ (3) على عيسى عليه السلام, إلى بني إسرائيل, فهو كتابهم بالإضافة إلى التوراة أيضا, إلا أن التوراة والإنجيل كانا (مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ..) بوضعهما الذي نزلا به من عند الله, وفي الوقت الذي نزلا فيه. أما اليوم فهما ليسا هدى للناس بعد أن بدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم, ويفهم هذا من فصل كلمة من قبل عن التوراة والإنجيل, برأس الآية, فلو لم يكن هنا رأس آية لقرأ القارئ: (وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس), ولربما فهم السامع أن المقصود: وأنزل التوراة والإنجيل من قبل, وهما هدى للناس إلى اليوم.(.. وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ..) وهو الفارق بين الهدى والضلال. والحق والباطل، والغي والرشاد؛ يفرق بين المؤمنين وبين الكافرين الذين ينكرون آيات الله الدالة على وجوده, ووحيه المنزّل على رسله, وقد أنزل التوراة والإنجيل جملة واحدة, ونزّل القرآن مرتلا ترتيلا, لهذا قال (نزّل عليك الكتاب بالحق) ثم قال: (وأنزل التوراة والإنجيل)
(..إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)). وكل من آمن بوجود الله وآياته في الكون واتخذ أيا من كتبه مرجعا, فهو مؤمن به, رغم ما بين طوائف المؤمنين من اختلافات, وما دخل على العقيدة من شرك وتبديل, كما أنه سوف يفرق ويحكم ويبين ما اختلف فيه المؤمنون بكل طوائفهم من مسلمين ويهود ونصارى.
والملاحظ هنا أن كلمة الفرقان, جاءت فاصلة فارقة بين كل من آمن بكتاب من كتب الله, (الكتاب بالحق, وما بين يديه, والتوراة والإنجيل), وبين كل الذين كفروا بآيات الله.
والله سبحانه هو القادر على كل ذلك, يعلم ما في ملكه, (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5), بل هو الذي يصنعه كيف يشاء بدءا من تصويرنا في الأرحام بعزته وحكمته: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
وفيما أنزله الله على رسوله, (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ..), ويتفرق المؤمنون إلى قسمين: (.. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ..) (.. وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) (.. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7))
ينتج عن كل الطوائف المؤمنة المذكورة:
- طائفة من أهل الكتاب, أدخلوا على عقيدتهم وكتبهم تحريفا وشوائب,
- وطائفة من المؤمنين بالكتاب الذي نزل بالحق, يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
- وطائفة يهديها الله إلى ما نزله في الكتاب بالحق, وبين ما أنزل من آيات محكمات, وبالتصديق بالآيات المتشابهات, فيسألون الله التثبيت: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)).
الحتمية التاريخية لنصرة المؤمنين على الكافرين:
إن الناس جميعا مجموعون ليوم لا ريب فيه, (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)) وهو يوم القيامة, حيث يكون الفرقان الكبير بين كل طوائف الناس, وهو يوم الفصل. ولا يكون ملك ولا حكم إلا لله وحده لا شريك له.
كما أن هناك يوما لا ريب فيه, يأتي في الدنيا قبل القيامة؛ حيث يبعث الله عيسى بن مريم عليه السلام مصدقا برسول الله الخاتم عليه الصلاة والسلام, وحكما عدلا بين الناس بشريعة الله, فيتبعه المسلمون ويطهره الله من الذين كفروا وما نسبوه إليه من قول, فيصحح عقيدة أهل الكتاب فيتبعونه على الحق, ويصحح عقيدة الذين في قلوبهم زيغ ممن نزل فيهم الكتاب, فيجعل الله الذين اتبعوه المؤمنين بالحق من المسلمين ومن أهل الكتاب بعد تصحيح عقائدهم, يجعلهم جميعا فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.
عندئذ يتحقق قول الله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) فمهما زادت قوة الذين كفروا في الدنيا, عددا وعُددا, فإن الله ناصر دينه وممكّن له, ومصير الذين كفروا أنهم سيُغلبون في الدنيا, كما غلب فرعون والذين من قبلهم, ويحشرون إلى جهنم في الآخرة: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
هذه حتمية تاريخية, يبين الله في سورة آل عمران كيف كانت في تاريخ المسلمين الأول, وكيف يمكن أن تتكرر, ثم كيف ستكون في آخر الزمان وقبل قيام الساعة, وكيف نسعى لتحقيقها أفرادا وجماعات ودولا, وما هي حدود سلوكنا وتصرفاتنا إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي لا ريب فيه قبل يوم القيامة, …..
لقد حدث هذا في أول معركة بين الإيمان والكفر, وهي معركة بدر, قاتل المؤمنون في سبيل الله على قلة عددهم وعُددهم, فأيدهم الله بنصره على الفئة الكافرة رغم كثرة أموالهم وأولادهم
(قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
ثم إن دوام الحال من المُحال, فتتبدل أحوال كثير من الناس في الدنيا كلها, ويحبون الشهوات, ويسعون إلى تحصيلها وامتلاكها, وتكون بالنسبة لكثير منهم هي الحافز الرئيس لحركتهم في الحياة: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)
وليس في حب متاع الحياة الدنيا حرج, إلا أن يكون الهدف الرئيس للسعي وللحركة, لا يعلوه هدف, فيقع أصحابه في كل المحظور. إن الله لا يحرم عباده من نعمته: (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ ) ألا أنه سبحانه وتعالى, يربط عباده المؤمنين بخير من ذلك: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)) فهم يتحملون البأساء والضراء, يصدقون في إيمانهم, يقنتون إلى ربهم, وينفقون من أموالهم ووقتهم وحياتهم, ويتذكرون ذنوبهم وتقصيرهم في حق الله مع كل ما يؤدون إليه من طاعة, فيستغفرون بالأسحار, وهي الأوقات التي تسبق طلوع الفجر.
فرقان:
هذا فرقان (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18), يقطع الله فيه بشهادته, وبشهادة الملائكة وأولي العلم, أنه لا إله إلا هو, قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله عز وجل: عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة»,
… وفرقان ب(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ..)
… وفرقان بأنه (..وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19),
وهو إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلّم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهته. (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ..) وإسلام الوجه كناية عن إسلام القلب والعقل والجوارح لله رب العالمين, فيخضع المسلم كل شيء فيه لله, فلا يتجاوز ما أمره الله به, بل يتبع ويلتزم, ولا يأتي تصرف من جارحة من جوارح المسلم إلا وهو تابع لما أمر الله به, فإن حدث منه غير ذلك, فهو يعترف بأنه أخطأ؛ قياسا على إسلامه وتسليمه وجهه لله, وعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه, فيعود كما بدأه الله على فطرته المسلمة.
وبعد ذلك يعرض على الذين أوتوا الكتاب, وعلى الأميين (وهم الذين لم تبلغهم رسالة الله بعد) أن يسلموا فيهتدوا, (.. وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20).
وهكذا تكون النصيحة والعلاقة مع الذين أوتوا الكتاب ومع الأميين الذين لم يبلغهم رسالة الله بعد, ليس فيها عنف أو مقاتلة ولكن دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة, إلى إسلام الوجه لله, وهذا الأسلوب يختلف تماما عن معاملة الذين كفروا بآيات الله…
قوى الكفر:
وفي مقابل الذين يؤمنون بآيات الله, يوجد الذين يكفرون بآيات الله, ومنهم من يتجاوز ذلك إلى قتل النبيين, وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
هذه صفة لدول يتحكم فيها الذين يكفرون بآيات الله, ولهم سيطرة عليها؛ حيث أن الذين يكفرون بآيات الله, لو أنهم مواطنون يعيشون في دولة مسلمة, فقتلوا أحدا من الذين يأمرون بالقسط من الناس, فسوف يقدمون للمحاكمة ويعاملون بالقانون. أما الذين يكفرون بآيات الله في إدارة دول أخرى مثل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في عصرنا الحالي, فإنهم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس, في فلسطين والعراق وأفغانستان, وسائر بلاد العالم, ولا رادع لهم سوى الغلبة عليهم ومنعهم من ذلك, لهذا فلابد من إعداد العدد لهم. وتأتي من بعدهم حكومات مثل فرنسا التي حررت الممرضات البلغاريات اللاتي أدانهن القضاء الليبي حيث كن يقتلن أطفالا بإصابتهم عمدا بمرض الإيدز.
كذلك ينبغي أن يكون موقف الذين آمنوا من أي دولة تعمل على قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس, في أي مكان في العالم, فلابد من الاستعداد لردع تلك الدول الظالمة المحرضة على الظلم, انتصارا للإنسان وللقسط وللحق, ولا يتأتى ذلك إلا بتأسيس دولة المسلمين يحكمها شرع الله وأول دولة تأسست على هذا المبدأ كانت دولة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المدينة المنورة, أما في الوقت الحالي وإلى يوم القيامة, فإن الدول الإسلامية عليها أن تضبط شريعتها وقيادتها ليكون الدين فيها لله, ثم بتقويتها بتحالفات بين الدول المتفقة معها على نفس المبدأ, بتكوين الولايات المتحدة الإيمانية, فتكون بذلك قوتهم الذاتية وقوتهم باتحادهم كافية لإحقاق الحق وإبطال الباطل على مستوى العالم, ولو كره المجرمون, ليكون الدين كله لله؟
وخلاصة ذلك أن الهدف هو تضييق الخلافات بين المؤمنين بآيات الله, وبناء قوتهم الذاتية والتحالفية, لردع الذين يكفرون بآيات الله, ويقتلون النبيين ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس, وعلى هذا الأساس ينبغي أن يكون تعاملنا مع أهل الكتاب.
كتاب الله يحكم
إن الذي يصدق بيوم القيامة, ويعلم أن الحكم فيه سيكون لله بما أنزل في كتابه, فإنه لابد أن يرضى بتحكيم كتاب الله في الدنيا. أما الذي يتولى ويعرض, فهو إنسان غير صادق في إيمانه بيوم القيامة, ولا يقدره حق قدره. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
إن هذا يمكن أن ينطبق على أي ممن يرفض ويعرض عن حكم كتاب الله, سواء كانوا مسلمين أو من أهل الكتاب, وهناك بعض ممن ينتسبون إلى الإسلام يعر ضون عن حكم الله, فهو مؤمن به معرض عن تطبيقه والحكم به, ظنا منه أنه ينجو بإيمانه بالكتاب دون تحكيمه, وأنه لو مسته النار فلن يمكث ذلك إلا أياما معدودات, ولكن هذا لا ينفعه بين يدي الله: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
ومن خلال أن الملك بيد الله, فإنه يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء, ويرزق من يشاء: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
الملك ونزعه, والعز والذل, والموت والحياة, والرزق كله بيد الله, فلا معنى لأن يعرض إنسان عاقل عن التسليم لله رب العالمين, والرضى بحكمه المنزّل في كتابه.
وإن صدّق المؤمنون بهذه الحقيقة؛ فلا معنى لأن يخشوا على أنفسهم من ملك ظالم, ولا ينافقون ولا يوالون من أوتي الملك: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ..)
ولا حجة لهم أمام الله, إلا أن يكون موقفهم نابعا من اتقاء شر هؤلاء الكافرين: (..وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) فإن ادعى أحد بغير حق أنه يوالي الذين كفروا اتقاء شرهم, وهو ليس كذلك, فإن هذا لا ينفع مع الله الذي يعلم ما في الصدور: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) ثم يوم القيامة تكون كل النوايا والأعمال واضحة في الكتاب الذي يتلقاه كل إنسان: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) ومن رأفة الله بعباده, أنه يريهم بآيات كتابه ما سوف يحدث يوم القيامة, حتى يتجنبوا الوقوع في شره, فيعملون الخير ويمتنعون عن السوء, والله رءوف بالعباد.
وأما من يدّعي أنه يحب الله وأنه من أوليائه, فإن هذا الادعاء له دليله, من الاتباع والطاعة:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)) ولا معنى لمحبة بغير اتباع, وحتى لو حدثت فإنها ستكون من طرف واحد, فإنسان يدعي حب الله, ولكنه لا يتبع رسوله, ولا يطيع الله ولا رسوله, فإن الله لا يحب الكافرين.
والكافر حاجب منكِر, فإن أنكر وجود الله أصلا, فهو كافر بالله, ولو أنكر شريعة الله وكتاب الله وحكمه, فهو كافر بكتاب الله وشريعته, حتى لو كان مؤمنا بوجود الله, ولو أنكر طاعة الله والرسول فهو أيضا كافر,(.. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)
وخلاصة القول في هذا المحور(ألف):
● أن الله الحي القيوم, المسئول عن مصالح عباده وإقامة حياتهم على عدل شريعته وحكمة كتابه, قد أنزل الفرقان, الذي به يفرق بين:
o من يؤمنون بآيات الله التي أنزلها في كتبه كلها: (القرآن وما بين يديه والتوراة والإنجيل), وبين الذين يكفرون بآيات الله,
o كما يفرق بين من يؤمنون بآيات الله, ولكنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله, وبين من يقولون آمنا به كل من عند ربنا,
o ثم يفرق بينهم وبين من أوتي نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم, ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون, فهم مؤمنون بالله, مؤمنون بيوم القيامة, ولكنهم يتولون عن تحكيم كتاب الله بينهم.
● ثم إنه سوف تحدث مواجهات حتمية بين الجميع لتصحيح المواقف, سواء كانت:
o بالحكمة؛ والتي مجالها العقل والموعظة الحسنة, (فإن أسلموا فقد اهتدوا وأن تولوا فإنما عليك البلاغ), ولا تكون الحكمة مع إكراه.
o أو تصل المواجهات إلى النزاعات المسلحة, فتكون بين (فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين, والله يؤيد بنصره من يشاء),
o ولا ينفع فيها أموال ولا أولاد, وإنما تكون الغلبة فيها لجند الله الناصرين للحق,
o والذين كفروا سيغلبون ويحشرون إلى جهنم وبئس المهاد.
● والله هو مالك الملك, يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء,
● وإلى هذا الحين الذي تحدث فيه المواجهات, فعلى الذين آمنوا الذين يحبون الله, ألا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين, إلا أن يتقوا منهم تقاة, وأن يتبعوا رسول الله ليحبهم الله ويغفر لهم ذنوبهم, وأن يطيعوا الله والرسول, ومن تولى فإن الله لا يحب الكافرين.