إن الله يزرع في بني آدم مسئولية ميراث الكتاب, والعمل به, والتمكين له في الأرض, ولشريعة الله أن تحكم الناس. إن هذه المسئولية, لم تعد تنحصر في قوم دون قوم, ولم تعد تقوم على علاقات الدم ووشائج القربى, وإنما هي منذ رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم, أصبحت تقوم على الإيمان بالرسول النبي الأمّى وتعزيره ونصرته واتباع النور الذي أنزل معه, أولئك هم المفلحون. وهذا غير مقصور على أحد, وإنما هو مفتوح للناس أجمعين, لمن شاء منهم أن يستقيم.
ويحول دون تحقيق هذه المسئولية, أسباب رئيسية, تتعلق بالأمة, وأخرى تتعلق بالفرد, وثالثة تتعلق بالأسرة. وقد استعرض الله في السورة أسباب قصور الأمم المستخلفة عن التمكين لدين الله , ثم هو الآن سبحانه يبين أسباب مخالفة الفرد ومصدرها وعلاجها. حتى يستكمل سبحانه تحرير بني آدم واستقلاله إلاّ من عبوديته لله وحده لا شريك له.
واحتمالات المخالفة من بني آدم تأتي:
● إما من الغفلة,
● أو عن التنشئة على غير الإيمان بالله وتوحيده,
● أو عن اتباع الهوى,
● أو عن اتباع شركاء من دون الله.
ويفصّل الله ذلك فيما يأتي من السورة… كما يبين كيف يعالج حتى يعود الإنسان إلى فطرته التي فطره الله عليها, يعبد الله ربّه, ولا يشرك به شيئا ولا أحدا. مستقلا ألا عن عبوديته لله.
اتجهت الآيات إلى بني آدم لكونهم بني آدم, قبل أن يولدوا, بل قبل أن ينتقلوا من ظهور آبائهم, إلى أرحام أمهاتهم, وربما وهم مازالوا في ظهر آدم, يحمّلهم الله مسئولية خلافته في الأرض: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ….)
هذا ميثاق الفطرة في كلمة واحدة, أخذه الله على كل بني آدم, كلما خلق الله ذرية في ظهر ابن من بني آدم, نسلا بعد نسل وجيلا بعد جيل, أخذهم الله وأشهدهم على أنفسهم, ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا. بنو آدم كلهم جميعا, دون تمييز على أساس النسب أو الجنس أو اللون أو السن, وطبع الله على ذريتهم فطرته التي يتعرفون بها على ربهم, ويشهدون له بالربوبية, بأنه ربهم, خالقهم, مالكهم, رازقهم, القائم عليهم, الملازم لهم, المصلح لهم, وهذه كلها تصف معاني لفظة ربّ, ولا حجّة بغفلة, ولا باتباع الآباء على شركهم.
يحيد الإنسان عن هذه الشهادة وعن هذا الميثاق, لأسباب محتملة. ولو حاد فسوف يتبع من دون الله أولياء, ولن يتبع ما أنزل إليه من ربه. هذه الأسباب المحتملة هي:
- الغفلة: (..أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172)
- التربية في جو من شرك الآباء: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ(173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(174)
اتباع الهوى والتكذيب بآيات الله:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ(175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(176)سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ(177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ(178)
ويبين الله المسببات التي تؤدي إلى كل من هذه الأسباب, ثم يبين كيفية علاجها وإزالتها حتى يعود الإنسان إلى الفطرة التي فطره الله عليها:
- سبب الغفلة:
تكررت ألفاظ تدل على غفلة الإنسان في سورة الأعراف أكثر ما تكررت في كتاب الله. وكلها تنسب إلى الغفلة المخالفات التي تودي بالإنسان إلى النار والهلاك:
فقد انتقم الله من فرعون وقومه وقال: (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ(136)
ويصرف الله عن آياته الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ(146) فالتكذيب بالآيات والغفلة يتسببان في التكبّر في الأرض, وعدم الإيمان أو اتباع سبيل الرشد, بل باتخاذ سبيل الغي سبيلا.
ولا يقبل الله هنا من بني آدم بعد أن أشهدهم على أنفسهم أن يحتجوا بالغفلة: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172)
ثم يبين الله أسباب الغفلة, بأنها تأتي من عدم استعمال الحواس التي خلقها الله للإنسان, في التعرف على آيات الله واتباعها, ونتيجة لذلك يدخل جهنم كثير من الجن والإنس الغافلون: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ(179) فلقد خلق الله للإنسان قلبا وعينين وأذنين, وأمام هذه النعم, على الإنسان شكر الله عليها, بأن يستعملها في أن يفقه بقلبه حقيقة العقيدة, فيتعرف على ربه ويتذكر ميثاق الفطرة الأول, ويبصر بعينيه, ويسمع بأذنيه, وإلا فإنه يكون كالأنعام بل هم أضل, أولئك هم الغافلون.
- سبب اتباع الآباء:
السبب الثاني لمخالفة الإنسان لربه وعدم اتباعه ما أنزل إليه من ربه, هو عدم تنشئته على الإيمان والتقوى منذ طفولته, وهذه مسئولية الآباء. غير أن الله يُعلِم بني آدم أنهم مسئولون عن أنفسهم, بصرف النظر عن أداء آبائهم لواجب تربيتهم وتنشئتهم. فبعد أن يبلغ الإنسان رشده, عليه أن يراجع عقيدته, ويفكر في ما حوله من الآيات الكونية, لتنجلي فطرته التي فطره الله عليها. لعله يرجع إليه وإلى العهد الذي شهد عليه وهو في مرحلة الذرّ. كيف يتم ذلك؟ هذا ما بينه الله فيما يتلو من آيات..
والآباء عليهم أيضا واجب تنشئة أبنائهم على العقيدة الصحيحة, وتلك خطوة أخرى تالية..
في سورة الأعراف أكثر تكرار لاحتجاج الأبناء باتباع الآباء, بين الله ذلك في ميثاق الفطرة الذي أشهد عليه ذرية بني آدم: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ(173)
كان ذلك بعد أن نادى الله بني آدم بالحذر من فتنة الشيطان: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) حجة لتبرير فعل الفاحشة, يدحضها الله, ولا يقبلها. ولكن وضع العلاج الذي ينبغي اتباعه للعودة إلى الفطرة كما بدأنا الله عليها, كما تبين ذلك عند تدبر هذه الآيات في أوائل السورة.
وبعد أن احتج قوم هود باتباعهم لآبائهم:(قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
ودحض الله حجتهم على لسان هود: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) فليس لمعتقداتهم سلطان يعتمد عليه وإنما هي من تسميتهم هم وآباؤهم.
وأخذ الله على الذرية أنهم لم يتعظوا مما حدث لآبائهم من البأساء والضرّاء لعلهم يضّرعون, وظنوا أنه كان خاصا بآبائهم فقط, (وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) فأخذهم الله بغتة وهم لا يشعرون.
لهذا فإن الله يحذر الذرية من بني آدم من أن يحتجوا بمعتقدات الآباء. إن الإنسان بموجب ميثاق الفطرة, مسئول عن نفسه, مستقل عن غيره, حتى عن غفلة عقله. فإن حدث شيء من ذلك في فترة من فترات الحياة, فإن ما طبع على الذرّيّة ربما يرجع الإنسان إلى الميثاق مرة أخرى. واستقلال الفكر والعقيدة بربطها بالله دون التقيد بمعتقدات الآباء لو خالفت الفطرة والعقل الذي كلف الله به وفطره على التوحيد ومعرفة ربه. (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(174)
ويعالج الله غفلة الأبناء الناتجة عن إشراك آبائهم وعدم تأديتهم لواجب التنشئة على العقيدة الصحيحة, فيقول فيما يتلو من آيات: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ(182)وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(183) ويأتي العلاج كالتالي:
- التفكّر الحرّ المستقل في شأن رسول الله:
أول ما يتعامل معه العقل هو النص, وكيفية وصوله إليه. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي بلّغنا بآيات الله, فإن الذين يكذبون بالآيات عليهم أن يراجعوا عقولهم بالتفكُّر في شأن رسول الله: هل يمكن أن تكون به جنّة؟ هل لو كان به جِنّة وله أصحاب, أما كان يمكن لأصحابه أن يكتشفوه؟ بل هل كان يمكن أن يخفى أمر جِنّته عليهم, وهم مصاحبوه في كل حال؟ إن هذا أمر مستحيل. والصاحب لا يمكن أن يخدع في صاحبه الذي يصاحبه في كل ظرف ووقت. فلو كان به جِنّة, فإن أول من يعلم أمره هو أصحابه. وهم أيضا الشهود عليه في حالة ألا يكون به جِنّة: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ(184)
والقياس هنا عقلي بحت. يستطيعه أي إنسان عاقل, كافر كان أو مؤمن. إذن يمكن للعقل أن يصل إليه وحده بمجرد التفكّر. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما به من جِنّة, إن هو إلا نذير مبين.
- النظر في ملكوت السموات والأرض, وما خلق الله من شيء:
(أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ(185)
ثم استثمارا لحواسهم وعيونهم وعقولهم, يدعوهم الله إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض, وما خلق الله من شيء, فيتوصلون من هذا النظر إلى أن هذا الملكوت يستحيل أن يخلق نفسه بنفسه, وحتما فإنه من خلق الله. وهؤلاء الذين ينسبون إلى الطبيعة إيجاد هذا الملكوت بحجمه غير المحدود في علمنا, وبدقته المتناهية وقوانينه الصارمة, فإنهم يعتقدون أيضا أن الطبيعة ذكية وقادرة ومهيمنة, إنما هم في الحقيقة يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. يستبدلون الطبيعة بخالق الكون والملكوت, وهي أيضا عقيدة ولكنها باطلة فالخالق هو الله سبحانه الذي تراه في كل ما خلق من شيء وهو أيضا قياس عقلي, ونتيجة يصل إليها التفكُّر الحر المستقل, دون تأثير من أحد. وبالتالي لا ينبغي أن يحتج الأبناء بإشراك الآباء كسبب لعدم إيمانهم بربهم الله, واتباعهم له وعدم اتباعهم من دونه أولياء.
وعلى بني آدم أيضا ألاّ يسوّفوا في اتخاذ قرارهم بالإيمان والالتزام بما أمر الله, حيث أن الوقت يسرقهم إلى الأجل, وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم, حيث لا ينفع إيمان في هذه اللحظة من الأجل, فبأي حديث بعد الأجل يؤمنون, وبأي حديث بعد كلام الله يؤمنون؟ وهنا نبه الله إلى أهمية عنصر الزمن وأهمية ألاّ يؤجل الإنسان قرار الإيمان. وحركة الدنيا التي يلاحظها من ينظر في ملكوت السموات والأرض, تدلل على اقتراب الأجل, فتوالي الأيام وتعاقب الليل والنهار, وجري الشمس والقمر, كل ذلك يدل على اقتراب الأجل.
أما إن طغى الإنسان, فإن الله يتركه في طغيانه ويضلله بما طغى, فلا هادي له: (مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(186)
فإذا توصل التفكير والنظر في ملكوت السماوات والأرض إلى أن الأجل آت, فإنه سيتوصل بسهولة إلى أن الدنيا كلها لها أجل, يتبين من متابعة وحساب حركة النجوم والكواكب والكائنات التي تسير كلها إلى أجل حتميّ. فيفكر الناس في الساعة, ومن هنا يسألون عنها: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(187) ويكون التذكير بالساعة والحساب ينبه إلى التصديق بآيات الله وترك التكذيب بها.
- اتباع الهوى:
السبب الثالث للمخالفة أن الإنسان البالغ الذي وصلته آيات الله, وهدايته عن طريق رسل الله وكتبه, فانسلخ منها, بدلا من أن يتبع ما أنزل إليه من ربه. وكنتيجة طبيعية لذلك, يتبعه الشيطان, فيكون من الغاوين. ولو شاء الله لرفعه بآياته- ومشيئته غالبة- ولكنه سبحانه له سننه في خلقه, وإنما ترك الإنسان لنفسه ولاختياره ولإخلاده إلى الأرض واتباعه هواه.
إن الإنسان الذي لم تأته آيات الله يتيه في الضلالة, فإن آتاه الله آياته فانسلخ منها واتبع هواه دون أن يتبع ما أنزل إليه من ربه, فإنه يتيه أيضا في الضلالة, فهو يلهث سواء ضل عن آيات الله, أو أتته فانسلخ منها, تماما مثل الكلب الذي يلهث بعد المجهود, كما يلهث لو تتركه حتى وهو جالس في راحة.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ(175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(176)سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ(177)مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ(178)
وقد وصف الله هذا الذي آتاه آياته فانسلخ منها, ولم يسمّه, ولو سماه فقد يفهم بعض الناس أن القصة تاريخية, ولكنها حالة من حالات عباد الله الذين ينسلخون من آياته ويكذبون بها, وأنفسهم كانوا يظلمون, وهذا هو المثل الباقي إلى يوم القيامة.
- الشرك بالله
والسبب الرابع للمخالفة هو الشرك بالله, في كل صوره, وهو الذي يجعل عباد الله يتبعون من دونه أولياء, ولهذا فإن الله يبدأ في صيانة بني آدم من الشرك, بأن يدلهم على أسمائه الحسنى كي يدعوه بها, ولا يلحدون في أسمائه.
الأسماء الحسنى:
ولمساعدة بني آدم في خلافتهم لله في الأرض, فإنه سبحانه يهديهم إلى أسمائه الحسنى فيدعونه بها, ليغنيهم عن الهوى وعن اتباع الآباء والمضلين, كما يغنيهم عن الإلحاد في أسماء الله, بأن نسمّي غير الله بأسماء الله, ومن باب أولى, ألا ننسب لغير الله ما ينبغي نسبته إلى الله, فلا يعتقدنّ مسلم بأن أحدا يرزقه إلا الله, ولا أحد بيده ملكوت كل شيء إلا الله, ولا وهاب ولا فتاح ولا عليم إلا الله وحده لا شريك له: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)
أمة يهدون بالحق وبه يعدلون:
وأمام هذه الأصناف من بني آدم التي لا تتبع ما أنزل إليها من ربها, فإنه أيضا توجد أمة ممن خلق الله يهدون بالحق وبه يعدلون. وكما أن الله أهّل قوم موسى لتكون منهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون, فإن هذا أيضا متاح لمن خلق الله عموما, والهداية ليست مقصورة على فريق دون فريق: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ(181)
معالجة التكذيب بآيات الله:
ويبين الله وضع رسوله صلّى الله عليه وسلّم, وأنه هو أيضا أول العابدين لله, لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله, وذلك حتى لا يغالي أتباعه فيصلون معه إلى ما بلغ أهل الكتاب بعيسى عليه السلام, ولو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير وما مسه السوء: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(188)
مما سبق, يعالج الله في الوحدة الأولى قصورها, في بني آدم, بدءا من إشهاد الذرية على أنفسهم, إلى التحذير من أسباب المخالفة لما أنزل إلينا من ربنا كخلفاء له سبحانه, إلى الحث على استخدام الحواس للوصول إلى رب العالمين, ثم إلى معالجة المكذبين, بواسطة إعمال الحواس والعقل في قياس صدق الرسول وصدق الوعد بنهاية الدنيا وقيام الساعة, والتسليم لرب العالمين الذي له وحده أن يشرّع ما يشاء والإنسان لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا إلا ما شاء الله, فلا يدع سبحانه مجالا للشرك حتى برسوله عليه الصلاة والسلام.
- شرك الأسرة باتباع أولياء من دون الله:
ثم بين بعدها جذور الشرك بالله بدءا من الوالد والوالدة, وتضرعهما لله أن يؤتيهما صالحا فيكونا من الشاكرين, ثم بعد أن آتاهما صالحا, جعلا له شركاء فيما آتاهما.
وتتجه الآيات إلى الخلية الأولى في المجتمع, بعد الفرد, إلى الأسرة, وتكوينها الأساسي من نفس واحدة, فيبين لها أن الأصل في الخلق هو الله سبحانه, وأنه هو الأحق بالتوحيد والطاعة وهو وحده الذي ينصر ويستجيب للدعاء وكل ما دونه مما يتبع الناس بغير حق, ليس لهم القدرة على نصرهم ولا حتى نصر أنفسهم, ولا حتى على الاتباع, فهم عباد أمثالنا, وليسوا مالكين ولا قادرين من دون الله على المشي بالأرجل أو البطش باليد وال البصر بالعين, ولا السماع بالآذان: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ(189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(190) - أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(191) وبداية, فإن ما يشرك الناس به, مخلوقون لله, وهم لا يخلقون شيئا, والله هو الخالق.
- وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ(192) وليست لهم الاستطاعة على نصرهم, بل ولا أنفسهم ينصرون.
- وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ(193) ولا يستجيبون لدعوة الهدى.
- إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(194) وهو في النهاية عباد أمثالكم, لا يستجيبون للدعوة
- أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلَا تُنظِرُونِي(195) كما أنهم ليست لهم القدرات التي يتحركون بها من دون الله في الدنيا, ويتحدى الله المشركين أن يدعو شركاءهم ثم يحاولون الكيد, فلا يستطيعون.
- (إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ(196) والعلاج هو في الاعتقاد بأن الله الذي نزل الكتاب هو الولي وهو يتولى الصالحين:
- وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ(197) وكل الذين تدعون من دون الله لا يستطيعون نصركم, ولا أنفسهم ينصرون.
- وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ(198) بل إنهم لا يسمعون ولا يبصرون.