نحن الآن أمام دولة يحتوي مجتمعها على الأطراف الآتية:
● حاكم قوي, يملك الناس ويتصرف في مقدّراتهم وأمورهم كما يشاء. وهو كافر مفسد ظالم مستكبر, عال في الأرض.
● وله ملأ من قومه, وهم علية القوم الملتفون حوله.
● وفي قومه أهل اختصاص وعلم.
● وفيهم أمة ورثت رسالات الأنبياء, ولكنها قلّة مقهورة مستضعفة.
● ثم بقية الناس في البلاد, محكومون بالنار والحديد.
فالحاكم القوي يسيطر على الناس بالقوة والقهر ويمنع عنهم الهداية. وطالما ظل مسيطرا عليهم فإن دعوة الله فيهم لا تصل إلى الناس.
ولا يمكّن للأمة الوارثة لرسالات الأنبياء من أن تدعو الناس إلى طريق الله, ولا حتى أن تمارس حياتها وعبادتها لله في سلام.
فكيف تكون دعوة الله في أمة كهذه؟
ومن قراءة وتدبّر الآيات بدءا من قول الله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(103), في قصة موسى عليه السلام مع فرعون ومع بني إسرائيل, فإن سنة الله في إصلاح أمر هذه الأمة وهدايتها, جاءت بالتدريج الآتي:
أولا: توجيه الدعوة للحاكم, لاتباع دين الله الحق
● يوجه الدعاة إلى الله الدعوة إلى الحاكم القوي الذي لا يحكم بما أنزل الله, ويعلنونه بما جاءهم من بينات من الله, بالحق والآيات والنصيحة التي هداهم الله لها.
● فإن استجاب واهتدى, فإن قومه سيطيعونه ويتبعونه, فكما ورد عن أحد التابعين أنه قال: لو علمت أن لي عند الله دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان, ففي صلاحه صلاح أمور كثيرة وصلاح عباد كثيرين. والناس على دين ملوكهم. وعلى الأقل, فإن الحاكم القوي سوف يمكن لدين الله وشريعته في الأرض, ويحكم الناس بها, دون أن يجبرهم على اتباعها, فلا إكراه في الدين.
● أما إن كان من الذين لا يهتدون, فإن الله يأخذه بالسنين ونقص من الثمرات, ويرسل عليه آياته التي تؤثر في المجتمع بالبأساء والضراء, لعلهم يذّكّرون.
● فإن تذكروا فبها ونعمت, وإن استكبروا وكانوا قوما مجرمين, فلابد من إزاحتهم من وجه الدعوة حتى يخلى السبيل أمامها فتصل إلى الأمة الوارثة لرسالات الله مباشرة.
لقد بدأ موسى عليه السلام بإنباء فرعون بأنه رسول من رب العالمين, وبأنه لايقول على الله إلا الحق, وطلب أن يستنقذ بني إسرائيل (وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ(105)
ثانيا: البينة:
طلب فرعون آية على صدق موسى, فبين له آيتين (قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ(106)فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(107)وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ(108)
إذن لابد للداعية أن يتسلح بالبينة عندما يحاجّ السلطان في ربّه. فليس من اليسير أن تقنع سلطانا بأن ربّ السلاطين وملك الملوك وربّ العالمين هو الله سبحانه, هو المعبود بحق, ولا إله إلاّ هو, فحين تواجه السلطان بسلطان الله, فإنت في الواقع تريد أن تنزع منه سلطانه على الناس, وهذا أمر عسير. لابد أن يؤيد بالبينات. حتى ولو كان السطان مسلما ولكن لا يحكم بما أنزل الله. خاصة وأنه حينما تقدّم النصيحة والدعوة, فإنك تكون في مستوى أعلى من مستوى المنصوح, أو هكذا يظن أنك تريد ذلك. والحق أن نصيحتك هي التي تعلو وليس شخصك, ولكن الناس – خاصة سلاطينهم وحكامهم وملؤهم- لا يحبون الناصحين.
وقد سلّح الله أنبياءه بدءا من صالح عليهم جميعا السلام, بالبينات, وكانت خاتمة البينات لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم, هي القرآن, وهو بينة إلى يوم القيامة يحاج به كل من دعا إليه, الناس أجمعين, بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم. بصائر من زوايا لا نهائية, والداعية إلى الله بإذنه يمكنه أن يأخذ من القرآن أي البينات شاء, وأن يكون آية من آياته البينات, في الخلق, في التشريع, وفي العلوم المختلفة, في الآداب, في القصص, وفي كل جانب ينظر منه وينظر إليه. على أن يكون متبعا لما أنزل الله, فيكون هو نفسه بينة عملية من القرآن.
ثالثا: شهادة أهل الاختصاص وثباتهم:
تدخّل الملأ من قوم فرعون ردا على الآيات, وحتى لا تؤثّر في الناس (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ(109)يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(110)
رد بنو إسرائيل بموضوعية أن من يحكم على موسى وما جاء به هو كل ساحر عليم (قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(111)يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ(112)
حضر السحرة وطلبوا أولا الاتفاق على أجرهم إن غلبوا موسى (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ(113)
وافق فرعون وزاد على طلبهم (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ(114)
طلب السحرة في ثقة من موسى أن يختار أن يبدأ قبلهم (قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ(115)
وبدأ السحرة في إلقاء حبالهم وعصيهم(قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(116)
رد موسى بوحي من الله (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(117)
فثبت صدق موسى (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ(119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(122) فليس بعد البينة من تردد ولا استكبار بالنسبة للإنسان المعتدل المحق صاحب الاختصاص, من أهل العلم, بل عليه أن يكون أول المدافعين عن الحقيقة, ولا يطمسها ولا يغيرها ولا يبررها بهواه. والرجوع إلى الحق فضيلة.
أما المفسدون المستكبرون, فإنهم يخرجون عن المنطق إلى الأسباب الواهية (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(124)
ولكن من وصل إلى الحق بموضوعية لابد أن يثبت عليه ويطلب العون من الله أن يفرغ عليه الصبر طالما كان حيا, وأن يتوفاه مسلما حتى يلقاه في الآخرة بإسلامه وإيمانه وصبره (قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ(125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ(126)
هكذا يكون موقف الذين أوتوا العلم, حين يتبين لهم الحق, لا جدال في الحق بعد ما تبين. إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا. ولا تأخذهم في الله لومة لائم. وهو ثبات قد لا يباريهم فيه كثير من الناس. وبناء على ثباتهم فإن كثيرا من الناس يستمدون الثبات منهم.
موقف الملأ , وموقف فرعون أمام البينة:
لم يكتف الملأ بتهديد فرعون لأهل الاختصاص من السحرة, والتنكيل بهم, وإنما يعود الملأ إلى التشكيك والصد عن الحق, خوفا من ضياع هيبتهم لدى الناس, فيستَعْدون الحاكم على موسى وقومه (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) فيستعلي بلا موضوعية ولكن بطغيان القوة والقهر, ومحاولة الإرهاب بتقتيل الأبناء واستحياء النساء (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ(127)
ولا يمنع الحاكم والسلطان من هذه المظالم إلا أن يكون أوابا لله. فممن سيخاف ويحاذر إن لم يخف من الله؟ خاصة وملؤه عادة ما يستعدونه على أهل الحق ويبررون له الظلم والطغيان والفساد.
ولا ييأسنّ الدعاة من نصيحة السلطان ولا من نصيحة ملئه, فإنها ليست قاعدة أن يقف السلطان والملأ هذا الموقف. وفي قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام مثال في ذلك. وإنما اختبرها سليمان بتنكير عرشها لينظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون, وبناء على ذلك عرض لها بينات جعلتها تقول: رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
رابعا: ماذا يفعل المستضعفون؟
إن الحاكم الظالم من ابتلاءات الله للناس, فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده, والعاقبة في الآخرة للمتقين, وما على القلة المؤمنة في هذا الموقف, إلا الاستعانة بالله والصبر, استبقاء للخير فيهم حتى يقضي الله أمره في الحاكم الظالم: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(129) إن لكل ظالم نهاية, فسوف يهلك لا محالة, إن عاجلا أو آجلا, والعبرة لمن بعده إن استخلفهم الله, أن يغيروا ما كان يصنع الحاكم الطاغية ويصلحوا ما أفسد. وهذا ما نصح به موسى قومه.
ومن هنا أفهم أن موقف القلة المؤمنة من الحاكم الظالم الذي لا يحكم بما أنزل الله, هو النصيحة والبينة, فإن لم يسمع لهم, فليستعينوا بالله, وليصبروا, إيمانا بأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده, وانتظارا لأن يهلك الله عدوهم ويستخلفهم في الأرض فينظر كيف يعملون. ولا يُنصَح هؤلاء بالخروج المسلح على الحاكم, أو تجاوز كلمة الحق عند سلطان جائر وهي أفضل الجهاد عند الله كما روي عن رسولنا عليه الصلاة والسلام. ولله عاقبة الأمور. فهو سبحانه يتدخل بعد ذلك بما يشاء من تدخّل لتنفذ إرادته..
خامسا: تدخّل الله بآياته للتأثير على فرعون:
أرسل الله موسى بآياته, واستعرضها أمام فرعون وملئه, وصدّق أهل الاختصاص من السحرة بأن موسى نبي وآمنوا برب موسي وهارون. ثم لما أصر فرعون على طغيانه وإفساده, أخذه الله بالسنين وهي الأحداث الجليلة والإصابات والابتلاءات العظيمة, لعلهم يذّكرون. (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(130) فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(132) إنه الاستكبار على الآيات البينات.
فأكمل الله إصابتهم بما قد يذكّرهم ويفيدهم ويردهم إلى الإيمان والهداية: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وفعلا تأثروا بالآيات وعلموا أن الله حق, وأن ما يصيبهم من آيات مفصّلات إنما هو من ربّ موسى, ولكنهم استكبروا على أن يعترفوا بأنه ربهم كما أنه رب موسى ورب العالمين (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ(135)
فما لهم بعد ذلك من حجة على الله, وبالتالي فإن انتقامه سبحانه منهم حق, وبما يستحقونه, فلا فائدة فيهم من بعد تكذيبهم بالآيات والنذر وغفلتهم عنها (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ(136)
سادسا: ما بعد إهلاك فرعون:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ(137) ومنّ الله عليهم وجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين, ومكّن لهم في الأرض. ودمّر الله ما كان يصنع فرعون وقومه, ربما من الظلم والطغيان والفساد والإفساد وماكانوا يعرشون من قصور مشيّدة كانت رموزا للترف والعزة بالإثم.
وتحقق ما قاله موسى عليه السلام, بأن أهلك الله عدوهم, وترك لهم الفرصة من بعده فاستخلفهم في الأرض فينظر كيف يعملون.
سنة رسول الله في مثل هذه الحالة:
وقد كانت هذه هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد بدأ بدعوة أصحاب الشأن والرأي من قريش, فآمن بعضهم وكفر وصد بعضهم. فتولى المؤمنين, وترك الذين كفروا واستكبروا, واكتفى بأن يبلغهم رسالات الله لهم في القرآن, كما في سورة البروج, والمرسلات.
وفي توجيه الدعوة لأمم خارج جزيرة العرب. بدأ صلى الله عليه وسلم بملوكهم وحكامهم فأرسل إليهم رسالاته ورسله يدعوهم إلى الله تعالى. روى مسلم في صحيحه فقال: (كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى). وهذه أمثلة من هذه الكتب:
إلى هرقل : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
وكتب إلى كسرى : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس ” فلما قرئ عليه الكتاب مزقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ” مزق الله ملكه
وهناك حالتان متشابهتان في القرآن لدعوة أمة يملكها حاكم قوي:
● حالة فرعون وبني إسرائيل, وقد أرسل الله إليهم موسى عليه السلام.
● وحالة ملكة سبأ, وقومها, وأرسل الله إليهم سليمان عليه السلام.
في كلتا الحالتين, بدأ نبي الله بالتوجّه إلى الحاكم الذي يملك الناس, يدعوه للهداية, ويجيئه ببينة من ربه,
وفي حالة سليمان , فإن ملكة سبأ قد اهتدت وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين, وبعد ذلك, فلا داعي لسرد تفاصيل دعوتها قومها إلى الإسلام, وقبولهم ودخولهم في دين الله أفواجا, فذلك أمر متوقع لما تملك الملكة من قومها وأمرهم.
وفي حالة موسى, فإن فرعون لم يهتد, وإنما استكبر وحاول إلصاق التهم بموسى وقومه, ومحاربتهم وتهديدهم, ومطاردتهم. وفي هذه الحالة, فإن الله سبحانه قد تدخّل فأهلك فرعون وملأه, وأورث سبحانه القوم المستضعفين مشارق الأرض ومغاربها التي بارك حولها