منهاج القرآن الكريم في بناء الأمة المستخلفة
أولا: العلم وإزالة الجهل:
في البداية, تتجه الآيات والدعوة لإخراج الناس من الجهل إلى العلم, العلم بحقيقة الدنيا, وأن بعد الموت بعث, وحساب وجزاء وثواب وعقاب. ويثبت ذلك للناس بشواهد وأدلة علمية عقلية بحتة, لا تعتمد بالضرورة على إيمان وعقيدة, وإنما يراها الناس في حياتهم. فيخرجون من الجهل والعمى إلى العلم والبصيرة, فيكونون قوما يعلمون.
ومن أبى ذلك وأغلق عقله وقلبه, فإن هؤلاء يكونون قوما عمين.
ثانيا: الإيمان وإزالة الكفر:
فإن هم رأوا حقيقة الدنيا في آيات الله الكونية, تصدقها وتطابقها آيات الله في كتابه, فإنهم يبدأون في التفكير فيمن قالها وبشّر بها. ومن أين جاء بهذه المعلومات والحقائق فيتعرفون على مصدر هذه المعلومات, فتدلهم الدعوة ويهديهم الرسل إلى الله رب العالمين, فيهتدي إليه من شاء الله له أن يهتدي, ويتعرفون على الله بأسمائه وصفاته, وقدرته وقهره فوق عباده. فيكونون بعد هذه المرحلة, قوما يؤمنون.
والذين يخالفون ذلك فهم الذين كفروا, أي حجبوا وحاولوا إخفاء حقيقة وجود الله وأنه الخالق المالك رب العالمين, وبالتالي فهم الذين كفروا, وما كانوا مؤمنين, وعلاجهم يأتي بالتخويف من غضب الله.
ثالثا: الشكر وإزالة الاستكبار:
ثم بعد أن يؤمن المؤمنون بربهم, فإن مرحلة ثالثة تبدأ معهم في الدعوة, يتعرفون فيها على ماذا يريد الله منهم أن يفعلوه؛ وماذا يريد منهم أن يجتتبوه, حتى إذا قاموا بعد الموت وحاسبهم فإنهم يفوزون برضاه, وبما عنده من الجنات والنعيم, ويتجنبون ما عنده من النار ومن العذاب, فإن هم فعلوا ما يأمرهم وانتهوا عما ينهاهم, وأخذوا نعمته بقوة وهمة دون تقصير, وعملوا فيها بجد واجتهاد واستثمروها ونمّوها, وأدوا حق الله فيها, فإنهم بذلك يكونون قوما يشكرون, ويصرف الله لهم الآيات, أي يوجهها لهم ليزيدهم بشكرهم.
ومن تهاون في تناول نعم الله, أو لم يعمل فيها باجتهاد, أو أنكر حق الله فيها فأولئك القوم الذين استكبروا, عرفوا أن بعد الدنيا الدار الآخرة, وبعد الموت حساب, وعرفوا ربهم, وعرفوا ماذا يريد منهم, ثم هم يستكبرون عن عبادته وطاعته, وعلاجهم يأتي بالنصيحة لهم.
رابعا: حسن الخلق, والبعد عن الإسراف:
والآن لدينا إنسان مؤمن بالآخرة, وبالله وحده وحقه في أن يطاع ويعبد, ولا يستكبر عن عبادته, ولكنه تغلبه شهواته فيرتكب الفواحش ما ظهر منها وما بطن, ويوجّه نعم الله إلى غير ما يرضي الله, وفيما يغضبه سبحانه, فإنه بذلك يكون من المسرفين, ويكون علاجه في تقوية نفسه على الشهوات وتوجيهها إلى ما يرضي الله بغير إسراف.
خامسا: حسن المعاملات, وعدم الإفساد:
انضبط الإنسان الآن في عقيدته وخلقه, غير أنه يتعرض في كل لحظة من حياته إلى معاملات, في تجارة , في ميراث, في أداء أعماله, في حقوق الناس, فيمكن أن يقصّر في كل أو بعض ذلك, في كل أو بعض الوقت, ينقص المكيال والميزان, يغش في تجارته, لا يعطي للناس حقوقهم مقابل ما يأخذ منهم من أجر, فيكون بذلك من المفسدين. وله توجه النصيحة والتذكير, فإما أن يستجيب, وإما أن يستكبر, فلا يطيق ناصحيه ويتمنى لو تركوه فلم يذكروه, ولو تركوا البلاد كلها حتى لا يتذكر حين يراهم ما هو فيه من تفريط وتقصير في جنب الله وحقوق الله عليه بالطاعة والبعد عن المعاصي.
والله يحب أن يكون عباده يعلمون ويؤمنون ويشكرون, وهو قد لام عليهم أنه يمكّن لهم في الأرض ويجعل لهم فيها معايش, قليلا ما يشكرون.
الخلاصة
إذن نستخلص من هذا التسلسل ما يأتي:
● إن قوما نريد أن نطورهم وننميهم, لابد أن نبدأ معهم أولا بالعلم وبالتعليم الذي هو إزالة للجهل بصفة عامة, وإزالة للجهل بحقيقة الدنيا بصفة خاصة, وأنها إلى زوال, وأن الآخرة سوف تعقبها, فنصل بهم إلى أن يكونوا قوما يعلمون.
● ثم يلي ذلك بناء الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله بالنصيحة الأمينة, فنصل بهم إلى أن يكونوا قوما يؤمنون.
● ثم بعد ذلك نعلمهم أنهم بموجب علمهم وإيمانهم عليهم أن يتناولوا نعم الله التي في أيديهم ومن حولهم ومن تحت أرجلهم, بالشكر, أي:
o بعدم الكسل أوالتقصير في أخذ نعم الله بقوة. وبالعمل فيها واستثمارها بما يرضي الله وبما يحقق ما يريد الله من الإنسان أن يعمل بإخلاص فيما أنعم عليه.
o وحين يرزق من عمله في نعم الله وأخذها بقوة, فإنه لا ينبغي له أن ينفقها في غير ما أحل الله وشرع, فلا يستغل قوة ولا مالا ولا جاها أو سلطانا إلا في طاعة الله, ونصرة دينه وكتابه وعباده الصالحين, ولا يكون من المسرفين.
وهذا هو أول ما أمر به الله ونبه إليه في قوله في بدايات سورة الأعراف: ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش, قليلا ما تشكرون.
وهو أيضا, ما يخالف تربص الشيطان ببني آدم حين قال: ولا تجد أكثرهم شاكرين,
وفي نهاية هذه المرحلة تصل الدعوة بالناس إلى أن يكونوا قوما يشكرون.
ومن هنا يبدأ القرآن في تفصيل أخبار الأمم الأولى في تاريخ البشرية, ذكر قصة آدم, فيقص قصة قوم نوح وهود وصالح, ولوط وشعيب, ثم قصة موسى عليهم جميعا الصلاة والسلام. والقصص هنا تتناول التطور الذي حدث في الحوار بين رسل الله وأنبيائه, وبين قومهم, والتطور الذي مرّ به المجتمع الإنساني , وهو انعكاس لما يمكن أن يتطور به المجتمع في كل زمان ومكان.
وقد تسلسل في الحديث عن قوم عمين لا يعلمون, ثم قوم كفروا فهم لا يؤمنون, ثم قوم استكبروا ولا يحبون الناصحين, ثم قوم يأتون الفاحشة فهم مسرفون ومجرمون, ثم قوم استكبروا وقوم كفروا, وضعفوا أمام الكيل والميزان وفي المعاملات وضاقوا بالنصيحة حتى عزموا على إخراج النبي والذين آمنوا معه من قريتهم أو ليعودن في ملّتهم.
ويأتي الشوط التالي مع موسي عليه السلام, حيث بعثه الله إلى فرعون وملئه, ثم إلى بني إسرائيل كأمّة أورثها بعد إهلاك فرعون وجنوده.
وتتحدث السورة عن الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم, فآمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.
ثم ينتقل الحديث إلى أصل تكليف الله لبني آدم وتعريفهم بنفسه سبحانه, بأن أخذ من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم, قالوا بلى. فلم يدع جلّ شأنه مجالا لحجة من يحتج بغفلته ولا باتباعه لآبائه المشركين, ولا بمن اتبع هواه, فكل من لم يستعمل فؤاده ليفقه به أو عينه ليبصر بها, أو أذنه ليسمع بها, فأولئك هم الغافلون.
وفي كل أمة من الأمم, يشخص الله عيبها, وأساليب الإصلاح, وحالة الأمة أمام العقيدة, وتكوين طوائف المجتمع على أساس الاستجابة لرسالات الله ورسله.
● فمن بداية قصة نوح, نجد من يتعرض له بالمحاورة هم الملأ من قومه,
● ثم مع هود يحاوره الملأ الذين كفروا من قومه,
● ثم مع صالح, نجد الملأ الذين استكبروا من قومه يحاورون الذين استضعفوا من آمن منهم.
● ثم في لوط يضيق به قومه المسرفون ويدعون إلى إخراجه من قريتهم.
● ثم مع شعيب نجد أن المجتمع الإنساني ينقسم إلى طائفة آمنوا بما أرسل به وطائفة لم يؤمنوا, أي صار المجتمع أمام أمر العقيدة طوائف, والطائفة التي لم تؤمن نجدها تنقسم أيضا إلى الذين استكبروا وإلى الذين كفروا, وتتسع دائرة الإيمان وتنحصر طائفة الكفر والاستكبار.
● ثم مع دعوة موسى, فنجد أن الكفر والاستكبار والإفساد في الأرض يتلخص ويتجمع في شخص فرعون وملئه, فيبعث الله موسى إليهم فإن اهتدوا فقد أزيل أساس الفساد, وإلاّ فإن موسى يدعو الله عليهم: ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. فيدمّره الله ويزيحه من أمام دعوة الحق, فيخلّي بين الدعوة وبين الناس. وكأن جسدا أصيب بحمّى شديدة, ثم تجمّعت الحمّى في ورم في موضع واحد, ثم تركّزت الحمّي والورم في رأس ملتهب مملوء بالفساد والتلوث, حيث أنه هو سبب الحمّى وسبب الورم, فيأخذه الله أخذ عزيز مقتدر, ويزيل بذلك رأس الفساد والإفساد والطغيان والظلم, فيوقف تأثيره على الناس, ويخلّي بينهم وبين الدعوة, ويبدأ في معالجة ما بالأمة من قصور, وما يستجد عليها من أوجه الإسراف والفساد إلى يوم القيامة.
● وتبدأ قصة تطوير المجتمع الإنساني أو الأمّة, مع قوم موسى وهم يعلمون أمر الدنيا والآخرة, ويؤمنون بالله. ولكن الشيطان يحاول معهم بالقعود لهم صراط الله المستقيم, فبمجرد أن يهلك الله فرعون وجنوده, يطلب بنو إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلها كما لبعض القوم آلهة, فيقول لهم إنكم قوم تجهلون, تماما كما كان قوم نوح في بداية التاريخ قوما عمين. ثم يكفر بعضهم, ثم يخالفون أوامر الله بالشهوات وبعدم اتباع ما أمرهم والانتهاء عما نهاهم, وبالامتناع عن نصرة نبيهم, فنرى محاولات موسى معهم لكي يكونوا قوما يعلمون, وقوما يؤمنون, وقوما يشكرون, فلا يستجيب أكثرهم, حتى إن موسى عليه السلام يقول: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين.
● وفي النهاية, فإن الله يقص علينا القصص ويبين لنا ما خلقنا من أجله, ومراده منا كأمة خاتمة مسئولة عن خلافة الله في الأرض, والقيام على رسالاته للإنسان, فتقوم باستكمال مسيرة الأنبياء والرسل, ومسيرة دعوة الله لتنمية الإنسان وهدايته إلى الطريق المستقيم, وهو سبحانه ينبه ويبين للأمة أخطاء وخطايا الأمم السابقة حتى نتعظ منها فلا نكررها ولا نقع فيها.
ومسيرة الأمم في طريق الصلاح متواصلة, رغم فوارق الزمن بين كل منها, ورغم وجود كل منها في منطقة جغرافية من الأرض تختلف عن مناطق الأمم الأخرى, ورغم ضعف وسائل الاتصال في ذلك الحين, بالمقارنة بالقرن الواحد والعشرين, فيستشهد كل نبي من أنبياء الله بماحدث في الأمة التي تسبقه, ويذكّر قومه بأن الله جعلهم خلفاء من بعدهم, مما تشعر معه أن المسيرة واحدة , وأن الإنسانية تتطور بتراكم الخبرات بين الأمم, وأن كل أمة أخذت فرصتها, لينظر الله كيف يعملون, وأن دعوة الله تناسب أحوال كل أمة, وتتطور مع تطور الإنسان, ومتطلباته للهداية, فمن قوم نوح يرونه في ضلال مبين, إلى قوم هود يرونه في سفاهة ويظنونه من الكاذبين, ويتحدّونه إن كان من الصادقين, فيأتي صالح أول ما يأتي ببينة من ربهم, ناقة الله, فلا يكذبونه شخصيا ولكنهم يقولون إن كنت من المرسلين, ثم تسير سنة الله في أنبيائه ورسله بدءا من صالح بأن يأتوا لقومهم ببينة أو ببينات, مثل شعيب, وموسى عليهم جميعا السلام.
والداعية من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم يمكنه أن يتبع نفس الأسلوب, كما أنه يتوقع أن يواجه بنفس المقاومة والمعارضة والمحاربة, ثم هو ينتظر من الله النصر والمؤازرة والتوفيق. إلا أنه لا يقول (ولكني رسول من رب العالمين) وإنما يمكنه أن يقول إنه يبلغ عن رسول رب العالمين, وكأنه رسول رسول رب العالمين. مع كل الأمانة في النقل عن كتاب الله وسنة رسوله.
ومن هنا نستعرض التفاصيل, لنستنبط منها منهاج الدعوة , ومنهاج رب العالمين لبناء الفرد والأمة….
قوم نوح
قوم هود
قوم صالح
قوم لوط
قوم شعيب