ميز الله الانسان حين خلقه ، بأن علمه الأسماء كلها ، وجعله يضيف إلى الدنيا من حوله ، مما يجعلها تتقدم وتتطور إلى الأفضل ، فهو يزرع ويبنى ويصنع ويكتشف ويبحث ويطور .
ثم احتاج الإنسان إلى أن يكرر مايصنعه لكى يبادله مع غيره مقابل الحصول على خدمة أو سلعة أخر…
وحين وصل إلى حجم إنتاج أكبر من قدرة فرد واحد ، بدأ يضع المواصفات لهذا الانتاج ، بحيث لو اشتركت فيه مجموعة من الأفراد ، تخرج المنتجات كلها متطابقة.
ثم وضع نظاما لمراقبة الإنتاج لضمان تطابقه .
ثم اكتشف أن هذا لايكفي ، ولكن لابد من البحث فى تطوير الإنتاج ؛ والذى يبدأ بانتقاد المنتج الذى بين يديه ليتأكد من جودته ، أو ليصل إلى جودة أفضل بحثا عن الكمال .
ثم لم يعد يكفي أن تضمن جودة المنتج أو الخدمة ، بل يجب أن تضمن قبل ذلك جودة الشركة المقدمة لهذا المنتج أو الخدمة، حتى تضمن الاستمرار فى تقديم نفس السلعة أو الخدمة بنفس المواصفات على مدى زمنى طويل ، وحتى لاتخضع جودتها لظروف فرد فيها ، بل تستهدف الوصول إلى الجودة الشاملة ، والنجاح الطويل المدى ، والتطوير إلى الأحسن بشكل دائم ومستمر وإرضاء العملاء، وتحقيق منافع للعاملين وللمجتمع.
والجودة هى باختصار إحسان العمل ، وارتقاؤه ، وضمان استمراره وتقدمه .
وقد فهمت من قراءتي لكتاب الله ؛ أن للجودة مبادىء عامة ، أذكر منها :
- إحكام السيطرة على الأعمال :كلما كنت على كل شىء من أعمالك قديرا ، كلما سلم العمل لك وصار بيدك : فلله المثل الأعلى ؛ يقول سبحانه : (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)).
- إحسان العمل : خطط سياستك على أساس أن عملك يكون الأحسن دائما ، وأن عملك نفسه يكون اليوم أحسن منه بالأمس ، ويكون غدا أحسن من اليوم الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)) . بصرف النظر عن كسب سريع تناله فى الدنيا أو أجر تأخذه من صاحب العمل ” إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه “
- تقليل نسبة التفاوت فى إنتاجك لأقرب شىء إلى الصفر : ضرب الله مثلا فى الاتقان والكمال (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) والتفاوت هو نسبة الخطأ أو البعد عن الهدف ، وهو عند الله فى خلقه غير موجود ، أو يساوى صفرا .
- وضع نظام للمراجعة : للتأكد من مطابقة الانتاج للمواصفة المطلوبة : ويعلمنا الله أسس المراجعة للتأكد من الدقة والاحسان (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3 ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)) فيرجع الباحث بصره حتى يقتنع بعدم وجود تفاوت ، أو بأن المنتج أو العمل قد وصل الى الكمال ، وهو فى صنعة الانسان مستحيل ؛ حيث هناك دائما ماهو أحسن وأفضل.
- وضع نظام للمراقبة : يعتمد على مراقبة الانسان لعمله بنفسه أولا ، آخذا فى الحسبان أن الله سيرى عمله ، وثانيا أن رسوله سيراه أيضا ، وثالثا سيراه بعض من المراقبين من زملائه. وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) .
- إرضاء العميل : ليكن الهدف الرئيسى للجميع ، هو ارضاء الله حيث يوجه كل العمل والجهد والحياة لله رب العالمين (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ) .والله يشترى من المؤمن نفسه وماله (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) فالجزاء الرئيسى هو الجنة ، وما دونها من جزاء فى الدنيا ، انما هو أمر يسير بالنسبة للجنة .والله هو الذى ينبغى ارضاءه (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)) قبل أن يرضى عميله الذى يشترى منتجاته .
- العلم قبل العمل : فلايصلح عمل بغير علم ، (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وهذه ليست فقط من أجل عمل ناجح ، ولكنها مسئولية ان لم يستغل فيها الانسان ما وهبه الله من نعم (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)) ) .
- التخطيط يسبق التنفيذ: ينبغى أن يسير الانسان العاقل على منهج وتخطيط نحو هدف محدد ، يتميز به عن غيره ممن يسير بدون هدف (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)) .
- تسجيل البيانات : لتكوين سجل بالخبرات ، وللاستفادة من الغير وما وصل اليه من علم أو خبرة (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) ) ، فقد زرع غيرنا فأكلنا ، ونزرع فيأكل غيرنا .
- التحسين المستمر: لاتستصغر أية اضافة أو تحسين يضاف إلى العمل مهما صغر (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) ) . ” وفيما روى من الحديث : لاتحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق “.
- المبادرة بإصلاح وتصحيح أى خطأ: وأى عمل لايطابق الصحيح ” كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ” و لاتؤجل عملية الإصلاح وإنما بادر بها فورا ” إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها ” .. وكلنا يعلم جيدا وصية الرسول الكريم ” من رآى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان ” .
- روح الجماعة : النتائج تعتمد على مدى تعاون الجميع لا على فرد واحد (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ)
- الكيف قبل الكم :الجودة العالية أهم من كثرة الانتاج بدون جودة قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) )فمن تعود على أداء العمل ، أو الانتاج ذى الجودة العالية ، ولو كان قليلا فانه يسهل عليه أن يتدرب على رفع المعدلات وزيادة الإنتاج، أما من تعود على كثرة الإنتاج مع رداءته فإنه يصعب تدريبه على تحسين الجودة .
- والإحسان والإتقان هو كسب لسمعة وشهرة ، وكسب لقيمة العمل ، وتميز فوق المنافسين ، الا أنه فوق ذلك بالنسبة للمؤمن دين ، وخلق ، وعقيدة ، وشرف بين يدى الله ، ومفتاح للجنة التى سماها الله ” الحسنى ” وقبل ذلك كله وبعده ، رؤية وجه الله الذى جعلها جائزة للمحسنين (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ). كما أنه غاية الاسلام والايمان ، فالاحسان ” أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك”. والاحسان والاتقان ،للمنتجات والخدمات ، رغم أنه يكفى لها جزاء ماسبق بيانه من رضى الله وجنته الا أنها مربحة فى الدنيا ، فهى تميز الشركة فوق المنافسين ، وتعلى من سمعتها وشهرتها ، وتجعلها تنتقى عملاءها من الذين يقدرون الجودة العالية ويحتفظ به بدلا من أولئك العملاء الذين لايحسبون حسابا الا للسعر الأقل فقط دون النظر إلى مستوى الجودة (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) ، فالنجاح مع الأوائل الذين يقدرون الجودة ، يعنى تطويرا للمنتج وتحسينا له ، وشهادة بحسن الآداء ، وضمانا للاستمرارية ، وصعودا لأعلى ، وربحا أكثر وخسارة أقل ، ومكانا أفضل فى سباق التقدم ، وفرصة أحسن فى الخروج بالمنتج الى الأسواق العالمية.
أما النجاح مع الآخرين الذين يضعون الجودة فى أخر طلباتهم فهو نجاح موقوت ، ودعوة إلى السباق لأسفل ، نحو تكلفة أقل وجودة أقل وربما عمل أكثر الآن ، ولكن بلا ضمان للاستمرار وبلا خطط للتطوير ولاسمعة طيبة ، وهو سباق بين الباحثين عن ربح من أى طريق غير الطريق الصحيح السليم القويم ، وهو نجاح يعتمد على جهل الناس، أو فقر الناس ، أو حاجة الناس ، وهى كلها أمور موقوتة تزول بسرعة بزوال أسبابها ، ولاينبغى استغلالها لصالح الإنسان فذلك سوء خلق ، وسوء معاملة ، وسوء دين .
وهذا نموذج لسياسة الجودة مستوحى من ثقافة القرآن الكريم:
سياسة الجودة
تسعى الشركة إلى:
رضى الله : بأن نكون الأحسن عملا والأصدق قولا.
رضى المجتمع : بتقديم المنتجات المهمة والخدمات الممتازة.
رضى العملاء : بتوريد أجود منتج , بأفضل سعر , فى أحسن توقيت.
رضى العاملين : بتحسين المستوى الفنى والاقتصادى والاجتماعى وسلوكيات التعامل.
رضى الشركاء : بتحقيق أكثر المكاسب , وأعلى الأرباح.
رضى الإدارة : باستمرار النجاح والتطوير والارتقاء إلى أعلى المستويات العالمية.