(وتفقد الطير فقال مالىَ لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين . لأعذبنه عذابا شديدا , أو لأذبحنه , أو ليأتينّى بسلطان مبين ) (النمل 20-21).
.. لم يكن سليمان عليه السلام , ذلك الحاكم الذى يكتفى بتقارير مرءوسيه الذين يفرضون وصايتهم عليه بإبلاغه بجزء من الحقيقة وإخفاء أجزاء , وفرض وجهة نظرهم على البيانات قبل أن يبلغوها له بنيّة حسنة أو بنيّة سيئة , فالنتيجة سواء , وسوء في نفس الوقت , وإنما ينبغى أن يطّلع الحاكم أو المسئول الأول على كل التفاصيل الدقيقة لما يؤثر على الأمن أو الخوف لدولته ومملكته.
وقد حذَّر الله من مغبّة مخالفة ذلك في آية سورة النساء (83)
{ وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به , ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}.
ومانشاهده من أحوال بعض المسئولين فى زماننا أنهم في بعض ما يمس أمن المجتمع وخوفه , يُعزَلون عن تفاصيله بحجة أن مرءوسيهم لايريدون مضايقتهم بسرد البيانات والحقائق كما هى , في حين تذاع هذه التفاصيل على عامة الناس وخاصتهم , وإن هى وصلت إلى الحاكم من خلال مصادر أخرى فإن تحرّى عنها من مرءوسيه , تأتيه تقارير مطمئنة نافية للأخبار المنقولة , ويكتفى هو بذلك , فهو يثق في مرءوسيه الذين قد يكونون أهلا للثقة فى حبهم له , وصدق نواياهم الشخصية , لكنهم ليسوا كذلك حين يخفون جوانب الحقيقة عن رئيسهم تحت أى مسمى وبأى حجة كانت . كما أنّ الحاكم أو المسئول يكون مسئولا ومقصرا حين لايتأكد بنفسه شخصيا من حقيقة الأمر, بالذات فيما يخص الأمور ذات الخطر .
ولاحجة له بسبب الانشغال أو فرط الثقة في أجهزته وتقاريرها .
فها هو سليمان عليه السلام , لديه من العلم ما آتاه الله , ومن الإمكانيات مالم يؤت مثله من خلق الله , ولديه من الجن ذات القدرات غير العادية في الحركة والعلم (والشياطين كل بناء وغواص) فوق الأرض وتحت البحر , ولديه من الإنس جنود , وكذلك من الطير ومالها من قدرات حركة ورؤية وفهم , وله ملك لاينبغى لأحد من بعده , ثم هو يتفقد الطير بنفسه .
ثم هذا درس آخر فى الكياسة وحسن تقدير الأمور : لقد احترم سليمان الاحتمال , بل بدَّاه وبدأ به , فلربَّما يكون الهدهد موجودا ولكن سليمان لايراه , فبدأ بإدانة نفسه أولا بأنه لايرى الهدهد ، كاحتمال أول ، (فقال مالىَ لا أرى الهدهد ..)
ثم تطرق إلى الاحتمال الثانى وهو أن يكون الهدهد من الغائبين ( أم كان من الغائبين)
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الكيّس من دان نفسه) .
وسبحانك اللهم !! كل كلمة فى كتابك ، بل كل حرف فيه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، فلنهتم ولنتدبر كل كلمة قالها الله ، ولانمر عليها كأن لم نسمعها.
والهدهد طائر غريب الأطوار , يبلغ طوله حوالى 28 سنتيمترا , له عرف كالتاج فوق رأسه,ومنقاره أسود طويل مدبب , ذو طرف منحن إلى أسفل , لون ريشه بين البنى والأسود والأبيض , موطنه الأصلى بين جنوب أوروبا , وأفريقيا , وجنوب آسيا . وهو طائر جوّال يهوى السفر والتنقل , ولا يُرى فى جماعات وأسراب مثل الحمام والعصافير. وهو يلتقط الحب والديدان المختبئة تحت سطح الأرض , وهذا ما يعرفه الفلاح المصرىّ عنه , حتى إن الأطفال فى الريف يراقبونه حين يقف على الأرض وينقر فى مكان معين منها , فإن ذهبوا إلى هذا المكان ونبشوا سطحه , وجدوا دودة أو حشرة مختفية تحت السطح.
كان الهدهد ضمن جنود سليمان من الطير , وضمن من يوزعون بأمره , فليس مسموحا له أن يتغيب دون إذن , إلا بسبب عذر قهرى مقبول لرئيسه , وسلطان مبين لسبب غيابه ,أى دليل قاطع على صدقه , وإلا فالحسم والحزم والعقاب الأليم , فهذه في الإدارة جريمة عظمى توجب العذاب الشديد , أو الذبح للهدهد. وربما يقابله الفصل للعامل , أو ليأتينّك بسلطان مبين .
ويقول الله سبحانه فى سورة النور (62): (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله , وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه).
ولقد تدرج سليمان فى الاتهام فاتهم نفسه , ثم اتهم الهدهد . ثم تدرج فى العقوبة من الأشد إلى الأخف , فمن العذاب الشديد , إلى الذبح , ثم إلى العفو الشامل لو يأتى بسلطان مبين.
وهذا التدرج هو من علامات الإيمان أن لا يترك الإنسان احتمالا لإدانة نفسه قبل إدانة غيره . وألاَّ يترك نفسه للانفعال الشديد , ولكنه يهدأ حتى يبلغ العفو ..وفى ذلك يقول الله سبحانه : (وجزاء سيئة سيئة مثلها , فمن عفى وأصلح فأجره على الله) (الشورى 40).
ويقول جلَّ شأنه : (والكاظمين الغيظ , والعافين عن الناس , والله يحب المحسنين) (آل عمران 134) .
هل كان هذا هدهدا خاصا دون سائر الهداهد؟ أم أنه أحد أجداد الهداهد الموجودة حاليا؟
إن ما جرى على لسان هذا الهدهد من أقوال وحكمة , قد جعلت كثيرا من الناس يميل إلى اعتباره هدهدا خاصا , خارقا لمألوف الناس من الهداهد. والخارق للمألوف قد لا يعنى خروجا عن سنن الله التى قال الله عنها( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنةالله تحويلا)(فاطر43).
ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله فى تفسير سورة النمل ( فى ظلال القرآن):
“.. حقيقة إن سنة الله فى الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه , ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان , وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة فى سلسلة التناسق الكونى العام , وإنها خاضعة-كحلقة مفردة- للناموس العام , الذى يقتضى وجودها على النحو الذى وجدت به.
… وحقيقة إن الهدهد الذى يولد اليوم , هو نسخة من الهدهد الذى وجد منذ ألوف أو ملايين من السنين , منذ أن وجدت الهداهد . وإن هناك عوامل وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول . ومهما بلغ التحوير فيه , فهو لا يخرج من نوعه , ليرتقى إلى نوع آخر .. وإن هذا – كما يبدو- طرف من سنة الله فى الخلق , ومن الناموس العام المنسق للكون.
ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان ان تقع الخارقة عندما يريدها الله خالق السنن والنواميس . وقد تكون الخارقة ذاتها جزءا من الناموس العام , الذى لا نعرف أطرافه, جزءا يظهر فى موعده الذى لا يعلمه إلا الله , يخرج عن المألوف المعهود للبشر , ويكمل ناموس الله فى الخلق والتناسق العام. وهكذا وجد هدهد سليمان وربما كل الطائفة من الطير التى سخرت له فى ذلك الزمان
والذى أراه _ والله أعلم _ أن هذا الهدهد لا يخرج عن صفات وخصائص أمة الهداهد , ولكنه ربما تتمايز الهداهد فيما بينها كما يتمايز الناس , وأن هذا هدهد متميز, ولكنه ليس فريدا من نوعه, بل يمكن أن يكون هناك مثله حتى اليوم . ولعل هذا- من وجهة نظرى – أقرب لإدراك الحكمة من سرد هذه القصة فى كتاب الله لكى نتعرف على خاصية من خصائص الهدهد , فيستفيد الناس من ذلك بأن يستعملوا الهداهد كما استعملوا الكلاب والصقور والخيل , أو أن يتعلموا منها كما تعلموا من الغراب كيف توارَى جثث الموتى , وكما تعلموا من الطيور كيف يحاكونها بصناعة الطائرات , ومن البط والسمك كيف تصنع السفن , ومن الخفاش كيف تعمل أجهزة الرادار , وهكذا .
وربما كان إخراج هذه المعانى الآن متناسبا مع ما توصل له العلم من أجهزة واختراعات تقرّب الأفهام من إدراك خصائص الهدهد التى ستتضح من تدبُّر هذه الآيات.
ويقول الله تعالى فى آخر سورة النمل : ” وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها , وما ربّك بغافل عما تعملون”
إذن سيرينا الله آياته بصفة مستمرة إلى يوم القيامة , فنعرفها , فعلينا أن نبحث عن أيات الله ونتعرّف عليها.