بعد أن رأى سليمان عرش ملكة سبأ مستقرا عنده , وشكر الله على فضله, طلب تنكير العرش لها :
( قال نكِّروا لها عرشها ننظر أتهتدى أم تكون من الذين لايهتدون)
أي طلب تغيير ملامح العرش حتى يصبح متنكرا لها , بهدف معرفة هل ستهتدى الملكة أم تكون من الذين لايهتدون .
أى أنّه يريد أن يجرى اختبارا للملكة. فما هدف الاختبار؟ وما أسلوبه؟
.. ذكرت بعض التفاسير أن المعنى الظاهر هو أن سليمان يختبر مدى دقة ملاحظة الملكة حين ترى عرشها متنكرا , هل ستتعرف عليه أم لا ؟
… فما الذى سيعود على سليمان من معرفته لدقة ملاحظة الملكة؟
… وما الذى يعود علينا نحن بالنفع أن نعرف أن ملكة فى قديم الزمان كان عندها قوة ملاحظة وذكاء خارق؟
… إننا لا بد أن نتعرف على الفوائد والعبرة من القصص , الذى قال الله أنه ” ..عبرة لأولى الألباب , ما كان حديثا يُفترى”.
.. إن القضية قضية عقيدة وهداية إلى صراط الله المستقيم , وليست قضية ذكاء وغباء.
وبتحليل الآيات , نجد أننا أمام اختبار يريد سليمان أن يجريه على ملكة سبأ بيانه كالتالى :
● وصف الحالة : امرأة عزيزة مسيطرة تماما على قومها كافرة تسجد للشمس من دون الله , ولديها عناصر تدعو إلى الاستكبار والإصرار .
الاحتمالات
● :أن يكون كفرها عن اعتياد وتقليد أعمى للآباء دون وعى.
● أو يكون كفرها عن اعتقاد راسخ , وإصرار على الكفر .
● هدف الاختبار: ترجيح أحد الاحتمالين : أهو الاحتمال الأول فتهتدى الملكة للحق عند عرضه عليها ؟ أم تكون من الذين لا يهتدون فتصرّ على الكفر؟
● أسلوبه : أن ينكِّر لها عرشها , أى يغير فى ملامحه , ثم يعرضه عليها وتُسأل ” أهكذا عرشك” أى هل عرشك بهذا الشكل ؟
● النتائج المتوقعة:إن قالت ” نعم إنه هكذا”, فستهتدى , أو تكون قابلة للهداية. وتيسر السبيل إلى دعوة قومها , حيث أنها تملكهم , وهم يفوّضون الأمر إليها
● وإن قالت “لا ليس هو” , فستكون من الذين لا يهتدون, أى غير قابلة للهداية. فلابد من إزاحتها من طريق الدعوة , لكى لا تؤثر على اختيارهم , وتخلّى بين الدعوة وبين الناس , فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
فما الارتباط بين تعرُّفها على العرش وبين اهتدائها؟
هذا سؤال يحتاج إلى إجابة !!.
إن الإنسان إذا كان على حال ورأْى , ثم عُرض عليه ما هو خير منه , فإما أن يرجع إلى الحق , فيكون إنسانا عاقلا سويّا , ولهذا كان الرجوع إلى الحق فضيلة .
وإما أن يصرّ على رأيه مستكبرا ,ولا تكون لديه مرونة للعودة إلى الحق .
وقد يبلغ حالة من الإصرار, لا يكون أمامه سبيل للعودة وللرجوع إلى الصراط المستقيم , خاصة حين يكون فى عزوته وبين قومه وقوّته , وفى كل مظاهر أبّهته وعظمته, فيصعب عليه الاستجابة إلى أية نصيحة , أو الرجوع إلى الحق وإن رآه . أما حين يتجرد من كل ذلك , ويخلو إلى نفسه , وإلى أنه إنسان فرد , فإنه يمكنه حينئذ أن يرى الحق وأن يتبعه
.. والإصرار على الباطل مذموم , فصفة أصحاب الشمال فى النار : “وكانوا يصرّون على الحنث العظيم” (الواقعة 46) وصفة الأفَّاك الأثيم : “يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها.. ” (الجاثية 8).
وكذلك كان قوم نوح الذين شكاهم نبيهم إلى الله فقال : ” وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فى آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا”(نوح 7).
لقد رفضوا حتى أن يسمعوا أو يبصروا أو يناقشوا , أى أغلقوا كل المنافذ إلى العقل . عندئذ قال الله له ( وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون )(هود 36) وهذا طبعا بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما داعيا بكل الوسائل .
وإن كان الموقف يخص العقيدة , فإن الإنسان الذى يصر على ما يعتقده حتى إن بدا له خيرا منه , فإنه ينضم إلى الذين كفروا , الذين وصفهم الله فى أوائل سورة البقرة : ” إنّ الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم , وعلى أبصارهم غشاوة , ولهم عذاب عظيم “.(البقرة 6-7)
إن هذه الآيات من سورة البقرة نزلت بعد أكثر من ثلاثة عشر عاما من المحاولات المؤيدة بالوحى وبكتاب الله , وبالمعاملة , وبالقول والفعل , في السلم والحرب , حتى ثبت أن الذين كفروا قد وصلوا إلى نقطة اللاعودة , فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم , و جعل على أبصارهم غشاوة . إن الله لم يختم على قلوبهم من البداية وهم كافرون قبل أن يعرض عليهم الإيمان , وإلا فلم يكن هناك داع للرسالات والرسل , فالرسل أرسلوا إلى قوم كافرين . ولكن هناك فرق بين الكافرين جهلا بالإيمان , وبين الذين كفروا واتخذوا موقفا متصلبا ومتعنتا من قضية الإيمان والعقيدة .
.. هناك حالة مشابهة سجلها القرآن فى بدايات رسالة الإسلام , وهى حالة أبى لهب , حيث بلغ فى عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلّم , ولرسالته , حدّا بعيدا , ووصل إلى نقطة اللاعودة فى موقفه , حتى أن الله سبحانه حين بشّره بأنه سيصلى نارا ذات لهب , لم يغير أبولهب موقفه ولو نفاقا , واستمر على عداوته.
وقد حلل بعض العلماء – جزاهم الله خيرا- هذا الموقف بأنه من إنباء الله بالغيب , وبأن أبا لهب لم يكن حرا فى تغيير موقفه ولو نفاقا , وأنه فى ذلك مقهور أمام إعلان الله عن مصيره. وأن هذا يتحدى الله به الكافرين بأن القرآن ينبىء بالغيب.
والله سبحانه عنده مفاتح الغيب لايعلمها إلا هو , وهو عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحدا . كما أنه سبحانه هو القاهر فوق عباده .
.. غير أنّ سنته جلّ شأنه مع الإنسان أن جعله يختار سبيله من بين خيارات متعددة , كلها يعلمها الله , ويعلم أن الإنسان يستطيعها , ويحاسبه الله على اختياره ويسجله عليه.
.. وأعتقد أن أبا لهب لا يخرج عن هذه السنّة , وإلا لكان أبو لهب قد احتج بأن الله لم يمهله كما أمهل أبا سفيان إلى وقت فتح مكة , إلا أن أبا لهب كان قد وصل إلى نقطة اللاعودة , وكان من الذين لا يهتدون وهو موقف عقلى له شواهده التى أشار الله إليها على لسان سليمان عليه السلام فى اختباره للملكة .
ولننظر إلى الفارق بين من يكفر جهلا ومن يكفر استكبارا وغرورا .
فهذا الوليد ابن المغيرة , حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن , قال فيه شهادة حق ربما لا يستطيع وصفها كثير من المؤمنين, قال:”والله لقد سمعت منه كلاما , ماهو من كلام الإنس ولا من كلام الجن, وإن له لحلاوة , وإن عليه لطلاوة , وإن إعلاه لمثمر , وإن أسفله لمغدق , وإنه يعلو ولا يعلى عليه , وما يقول هذا بشر”.
… كلام جميل !! فأين المشكلة؟!
ثم تناقش مع أبى جهل وقريش فى شأن رسول الله , فقال لهم الوليد : وإنكم تزعمون أن محمدا مجنون , فهل رأيتموه يخنق ؟ قالوا لا والله .قال وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط ؟ قالوا : لا والله . قال وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبا قط؟ قالوا لا والله . قال وتزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟ولقد رأينا للكهنة أسجاعا وتخالجا .فهل رأيتموه كذلك ؟ قالوا لا والله . فقالت قريش للوليد : فما هو؟
فماذا فعل الوليد أمام كل هذه الحقائق التى اعترف بها؟
.. إن الوليد بن المغيرة قد كفر استكبارا وعنادا وغرورا , ولم يكفر جهلا
يقول الله فيه فى سورة المدثر( 18-25) :
” إنه فكّر وقدّر* فقتل كيف قدّر* ثم قتل كيف قدّر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر *”
.. فهل لمثل هذا الرجل من أوبة أو توبة بعد أن وصل إلى كل الحق ورآه ؟
لقد وصل إلى نقطة اللاعودة. يقول الله بعد ذلك فيه: “سأصليه سقر* وما أدراك ما سقر * لا تبقى ولا تذر * لواحة للبشر * عليها تسعة عشر*” (المدثر 26-30).
وهذه مراحل تتم فى العقل: التفكير , والتقدير أى التروّى , ثم نظر ,أى أعاد النظر, ثم عبس , أى قطّب جبينه , وأصلها ما يبس على أذناَب الشاه فلا يتحرك ولا يسقط , وبسر من وقوف الشىء وقلة حركته , فلا يتقدم ولا يتأخر, ويظهر فى الوجه على شكل كلح , ثم أدبر أى عاد إلى ماكان عليه من الكفر والعناد , واستكبر على الإيمان.
… إن صفات عقل هذا الشخص أنه بعد أن فكر وقدر ونظر , عبس وبسر , أى يبس تفكيره , وتوقّف فلا يتقدم ولا يتأخر.
هذا ما أعنيه بنقطة اللاعودة , وما ربك بظلام للعبيد.
وعلى ذلك فإننى أرى – والله أعلم – أن الهدهد حين وصف الملكة وقومها في سجودهم للشمس من دون الله بأنهم زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لايهتدون , أى فى حالتهم هذه هم لايهتدون , فأراد سليمان عليه السلام أن يختبر الإمكانيات العقلية للملكة في الاهتداء : هل مازال فى إمكانيات عقلها أن يميز بين الحق والباطل ؟ هل ما زالت فيه مرونة للفهم والاهتداء حتى لو شابت الحق شوائب غيرت من بعض ملامحه فتنكّر ؟ أم أنها زعيمة للكفر ولا تجدى معها المحاولات؟ أم أنها وصلت في عدم اهتدائها إلى نقطة اللاعودة فأصبحت و حالها مثل حال الذين كفروا بعد محاولات كثيرة لهدايتهم , فلم يهتدوا حتى ختم الله على قلوبهم؟
وتكون كلمة “أتهتدى ” دالة على الاهتداء إلى طريق الله الحق , لا إلى العرش .
وتكون صفة ” أم تكون من الذين لا يهتدون” دالة على فئة الذين لا يهتدون إلى طريق الله , وليس إلى الذين لا يتعرفون على عرش الملكة.
وهذا مثال آخر من العصر الحالى : وصل صدام حسين قبل بدء حرب الخليج إلى نقطة اللاعودة , حتى أنه رغم اطلاعه على ما يخطط له , والقوى المهولة التى لاقبل له بها – لم يعلن – حتى على سبيل المناورة – لم يعلن أنه مستعد للانسحاب والتفاهم سياسيا , فيضع بذلك التجمع الدولي العسكري والسياسي أمام موقف حرج , فها هو يعلن استعداده للتراجع , فلماذا يضربونه ؟ ولكنه كان قد وصل إلى نقطة اللاعودة , ولم يتمكن عقله من التراجع وإبداء المرونة وهو على يقين من النتائج المدمرة , فكان من الذين لا يهتدون .
إذن فهناك لحظة لابد أن يدركها الإنسان قبل أن يتعامل مع من ضل عن سبيل الله , هل وصل إلى نقطة اللاعودة ؟ أم أنه مازالت تجدى معه المحاولات ؟ أيهتدي أم يكون من الذين لا يهتدون ؟ وسيكون لكل منهما علاج ومعاملة مختلفة.
والسؤال الآن موجه إلى علماء النفس , وعلماء المخ والأعصاب :
هل هناك تصلُّب ما, يحدث للمخ فلا يمكن تغيير موقفه من موضوع ما ؟
هل هناك مرحلة أو نقطة اللاعودة تحدث في المخ ؟
وهل يمكن تمييزها بعلم النفس أو بقياسات وقراءات الأجهزة ؟
هل يمكن الوصول إلى اختبارات نفسية أو قياسية على المخ تحدد إمكانية الاهتداء من عدمها ؟
وهل تحدث علامات وآثار فى المخ من جرّاء هذا الموقف المتصلّب ويمكن رصدها وقياسها؟
وهل لها شواهد في المواقف التى يقفها الإنسان في أى موضوع آخر خلاف العقيدة ؟
وما الارتباط بين تعرُّف الملكة على العرش وبين إمكان اهتدائها إلى الصراط المستقيم؟
إنه إن كانت هناك وسائل لمثل هذا الكشف , فسيكون كشفا خطيرا فى فائدته للبشرية , فكم من المجرمين الذين يحكم عليهم بالسجن , فيخرجون لمعاودة ممارسة نفس الجريمة مرارا وتكرارا , حتى تطلق عليهم أجهزة الأمن “مسجل خطر” أو “من معتادى الإجرام” ومع ذلك يتركون أحرارا فى كل مرة ليروِّعوا المجتمع الآمن .
… فلو أن هؤلاء تبين من الكشف النفسى أو الطبى عليهم أنهم من الذين لا يهتدون , فإن الإجراء معهم لابد أن يختلف إلى إجراءات تحمى المجتمع الآمن منهم إلى نهاية حياتهم .
.. .. ولك أن تتخيل أمثلة أخرى كثيرة فى هذا الصدد.
ولعلنا نكتشف أن بعض الجرائم تصل بمرتكبها إلى هذه الحالة فيكونون من الذين لا يهتدون , وأتوقع أن تكتشف البشرية أن هذه الحالات ستنطبق على الواقعين فى حدود الله على بعض الجرائم مثل القتل مع سبق الإصرار والترصُّد , أوالسرقة الموجبة للقطع , والله أعلم . .. أرجو أن يعمل فى مثل هذا العاملون ..