نشأت الآن طائفة من الدعاة الذين آمنوا, وأمامهم جمهور من الناس بأقسامه الثلاثة. فمنهم المؤمنون الذين تقبّلوا الدعوة وصلّوا , ومنهم من يرون أنهم استغنوا , ومنهم الذي كذّب وتولّى ولم ينته وبدأ في تصعيد الموقف ودعوة ناديه للمشاركة في العداء.
الاتهام بالجنون:
وعلى ما يبدو أنه في بداية دعوة الحق, تكون أول تهمة سهلة يحاول بها المكذّبون تلويث سمعة الدعاة وصرف الناس عنهم , هي الجنون. تماما مثل اتهامات بعض كبار الساسة لأصحاب الرأي وأئمة الدعوة بالجنون, بل وأحيانا يضعونهم بالفعل في مستشفى الأمراض العقلية. فيتوجه الله سبحانه إلى الدعاة بتعميق ثقتهم في أنفسهم , والدفاع عنهم أمام هذه الدعوة الباطلة , فلو لم تنف عنهم تلك الادعاءات , فإن هذا سوف يضرّ بالدعوة نفسها , واستجابة الناس لها, والله يدافع عن الذين آمنوا ويأبى إلا أن يتم نوره.
وهذا ما حدث مع رسول الله , وهو ما يتكرر مع الذين آمنوا معه في كل زمان ومكان, فيقسم الله سبحانه : ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2)
لماذا أقسم الله هذا القسم بالذات على نفي الجنون عن رسوله؟
وحرف ن لم يتوصّل إلى معانيه وأسراره أحد بعد. غير أنه توجد ملامح مهمة لفهم الحروف في باب من أبواب الموقع (الحروف الفواتح) فاقرأ فيه إن شئت
أن الله سبحانه يقسم بأدوات الكتابة, بالقلم ومايسطر الناس, من التاريخ ومما أنزل الله على رسله وأنبيائه, وما يعلمون من صحف إبراهيم والتوراة والإنجيل, التي تحوي ذكرا لرسول الله وتبشر به , وتحوي ذكرا للذين معه من المؤمنين:
في دعوة إبراهيم (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129 البقرة)
وقول إبراهيم وإسماعيل: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)(128البقرة)
وفي قول الله في المسلمين على لسان إبراهيم عليه السلام (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا) الحج
والذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157 الأعراف ).
والذين معه صلّى الله عليه وسلم, قال الله فيهم بعد ذلك: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(29 الفتح)
إذن فهناك فيما يسطرون من كتب السابقين , شهادات تاريخية بنبوته صلّى الله عليه وسلم وتميُّزالذين معه, وهذه شهادات تنفي عنه وعنهم الجنون . وهذا يربط القسم بالمقسوم عليه, والله أعلم, وربما تكون “ن” مرتبطة بهذه المعاني. وهذا ما شهد به ورقة بن نوفل (ابن عم خديجة رضوان الله عليها) وكان ممن يسطرون , فكان يكتب الكتاب العبراني , فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ماشاء الله أن يكتب , فشهد لرسول الله بالنبوة, وبشّره بأن أهله سيخرجونه من بلده. ومثل ورقة كثير في التاريخ يسطرون ولديهم علم بمحمد رسول الله والذين معه, ليس فقط صحابته, وإنما أيضا الذين يتبعونه, والذين آمنوا به.
الأجر:
ثم يطمئن الله رسوله والذين آمنوا معه , على الأجر, فيقول: (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3)
والممنون هو المنقوص , أو المقطوع .
وما يحتاجه العاملون هو أن يطمئنوا على أجرهم أولا , بأن يكون كافيا لهم في الحال , أي غير منقوص عما يحتاجون . ومستمرا في المستقبل , فلا ينقطع بإنهاء العمل والتعاقد. فالأجر الذي يمنحه الله لمن يعمل في دعوة الناس إلى سبيله هو أجر مستمر حتى بعد أن يموتوا (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث , صدقة جارية , أو علم ينتفع به , أو ولد صالح يدعو له) وهم يعلمون الناس بمراد الله منهم, وأي علم ينتفع به خير من هذا؟ كما أنه مضمون من الله , غير معتمد على بشر , وغير مقبول من أحد إلا الله, فقاعدة ( قل ما أسألكم عليه من أجر) هي قاعدة أساسية لكل رسل الله وأنبيائه , ولكل من يتحمل مسئولية هذه الدعوة إلى الله , فلابد ألا يسأل الناس عليه أجرا , مها قلّ هذا الأجر أو كثر, حتى مجرد سماع الشكر والثناء منهم , وأجره على الله وحده , حتى يتحرر تماما من تأثير الناس عليه من أية ناحية , ويكون عبدا لله وحده لا شريك له , حرّا مستقلا عن كل ما سواه.
خلق عظيم:
ثم يحدد الله الهدف الأسمى من الرسالة كلها, فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4 القلم).
فقد بدأ صلى الله عليه وسلم الطريق الذي يوصّل إلى الخلق العظيم , وقال بعد ذلك ملخِّصا دعوته “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” , وبعد أن أتم الله عليه نعمته , قال صلّى الله عليه وسلم ” أدّبني ربّي فأحسن تأديبي”, ووصفته عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن.
إن الأنبياء والرسل من قبله , صلوات الله وسلامه عليهم , بعثهم الله بمنهاج الأخلاق يتواصلون في بنائه , وبُعث محمد صلّى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق , فهو على خلق عظيم.
والخلق العظيم هو الذي يربط الإنسان بربه , ويحسن تعامله مع الله , ومع الناس , ومع الكون من حوله , فيبني ويعمّر ويحفظ , ويصل به الخلق العظيم إلى أن يكون الله عنده أكبر , وأنه تهون عليه كل الأمور , إلا رضى الله , وطاعته لله , وإعلاء كلمة الله , فيصل في قمة حسن الخلق إلى أن يكون الله ورسوله أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه , فيضحي بها في سبيل الله , ومن ماله فينفقه فيما يرضي الله ويسلطه الله على هلكته في الحق, ومن أهله والناس أجمعين , فيجاهد في الله حق جهاده ويتمنى لو يغزو في سبيل الله فيقتل ثم يغزو فيقتل , ثم يغزو فيُقتل.
إذن , فرفع شعار الخلق العظيم في مطلع الدعوة , هو إعلان عن غايتها وهدفها, وهو يوسع مدى الخلق العظيم ليشمل كل التصرفات , من أدناها بإماطة الأذى عن الطريق , إلى أعلاها , بالجهاد في سبيل الله.
وكذلك ينبغي أن يكون هدف الدعاة إلى الله , أن يصلوا إلى الخلق العظيم بأنفسهم أولا , ثم بالناس, قبل أن يستهدفوا ظاهر الدين , بحيث يكون ظاهره معبرا عن باطنه , ويتوافق المظهر مع الجوهر, حتى يكون خلقهم القرآن , ولهم في رسول الله أسوة حسنة.
وربما تسبب سوء خلق بعض المسلمين في اهتزاز ثقة الناس بالإسلام ذاته, وهو خطأ أن يربط الإنسان بين صحة القانون , وسوء اتباع الناس له, إلا أن أفعال الناس تؤثر لا محالة.
والأسوة الحسنة في هذا الدين هي من صميم منهجه. ولا يكفي منهاج بغير إنسان ينفّذه. وإلا لكان كافيا أن ينزل الله كتابه , فيقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسخ نسخة طبق الأصل منه وتسليم كل مسلم , بل وكل إنسان نسخة للعمل بها, ولما كان هناك داع لأن يعيش صلى الله عليه وسلم في ضيق من الحياة يتحمل أذى المؤذين وعنت الكافرين وصد الضالين, ثم يتحمل عناء الجهاد في سبيل الله حتى تكسر ثنيتاه في أحد, بأبى أنت وأمّي يارسول الله.
كذلك شأن دعوة الإسلام من بعده , لا يمكن أن تتحول إلى نصوص مخطوطة من كتاب الله وسنّة رسوله وسيرته العطرة , فيقرأها الناس كل يوم ويختمون القراءة مرارا , وهم يتخذون هذا القرآن مهجورا, منهجه وتعليماته وأوامره ونواهيه , وهذه آفة قوم الرسول كما قال الله في سورة الفرقان. وإنما لن يصلح شأن هذه الأمة إلا بأن يكون فيها طائفة من الذين مع رسول الله على منهجه , يتدارسون القرآن ويكون خلقهم القرآن , وأسوتهم رسولهم, فيحولون القرآن إلى ناس تهتدي بهديه وتسير على نهجه , وإلى خلق وعمل, ويفعّلون القرآن ويثوّرونه ويتحركون في الحياة به , قولا وعملا, ويكونون على خلق عظيم كما أراد الله , يأمرون الناس بالبر ولا ينسون أنفسهم, نسأل الله أن نكون منهم, آمين…
كشف أساليب المكذّبين وكيفية مواجهتها:
إن الدعاة يحتاجون لتأييد من الله , حتى يقوموا بمهامهم في الدعوة. والمسألة تحتاج إلى صبر , فقد يتأجل الفصل في المسألة إلى يوم القيامة , حيث يعلن الله أي الفريقين هو المفتون. فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ(5)بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ(6) وفي كل الأحوال: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(7) هذا في شأن الضالين , وشأن المهتدين.
أما المكذّبون المحاربون , فيستكمل الله التحذير منهم. وفي هذه المرحلة حدد الله وسائل الذين كفروا في مواجهة الدعوة. فبعد موقفهم في (اقرأ) من أن ينهي أحدهم عبدا إذا صلّى, ويكذّب ويتولى, مع الاستعانة بناديه من أمثاله, فهم الآن يحاولون من طرق آخرى, فيظهرها الله وينهى أهل دعوة الحق عن طاعتهم, فلا طاعة للمكذبين ولا مهادنة للكفر من أول يوم. فيقول:
● فَلَا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ(8) وأهل الحق يعلمون أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
● وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9). الإدهان: اللين والمصانعة. وقيل: مجاملة العدو وممايلته. وقيل: المقاربة في الكلام والتليين في القول, والنفاق وترك المناصحة. أو أن تتراجع عن بعض ما تدعو إليه وترخّص لهم فيرخّصون لك, ويتراجعون عنك, وتركن إليهم وتلين وتترك الحق, ولو تنافق وترائي فينافقون ويراءون. وقيل: ودوا لو تضعف فيضعفون. ويقال أدهن في دينه وداهن في أمره; أي خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر.
وكل ذلك يدل على أن الحق حين يظهر ويحسن أهله التعبير عنه والتمسك به, فإن أهل الباطل يزهقون فليست لديهم حجج يدفعون بها , وإنما يودون لو أن أهل الحق يتراجعون عنه أو تظهر منهم أية بادرة للنفاق أو الركون واللين والمراءاة ومحاولة إيجاد حلول وسط بين الإيمان والكفر. وكل ذلك لا يرضاه الله , وإنما هو سبحانه يجيء بالحق ليزهق الباطل , وكل ما هو مطلوب من أهل الحق هو أنهم يتمسكون به بقوة, وبلا أدنى تراجع ولو شيئا قليلا, ويحسنون التعبير عنه.
● وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ(10) يلجأ المكذبون إلى كثرة الحلف حتى يصدقهم الناس فيصرفونهم عن دعوة الحق. وليس مطلوبا من أهل الحق أن يحلفوا لإثباته, كما أنهم لا يطيعون كل حلاف مهين حقير.
● هَمَّازٍ … وهذه محاولة أخرى من محاولات أهل الباطل, إنهم يكثرون الهمز. والهماز العيّاب, الذي يَخْـلُف الناسَ من ورائهم ويأْكل لـحومهم، يكون ذلك بالشِّدْقِ والعين والرأْس. والهَمَّازُ و الهُمَزَة الذي يَهْمِزُ أَخاه فـي قفاه من خَـلْفه. إنها أساليب وضيعة يلجأ إليها من لا حجّة له, فهو لا يواجه صراحة, بل يستعمل شدقه ولسانه وحركات عينه ورأسه في محاولة لإبعاد الناس عن طريق الحق.
● … مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ(11) فإن لم يجد الهمز من حركات الوجه واللسان , فإن أهل الباطل يلجأون إلى الإيقاع بين الناس بالنميمة. والنَّمُّ: الإِغْراءُ ورَفْع الـحديثِ علـى وجه الإِشاعةِ والإِفْسادِ، وقـيل: تَزْيـينُ الكلام بالكذب. وهذا تصعيد لمحاولات الإفساد بين الناس وبين أهل الحق الداعين له, فيحذّر الله الدعاة منهم, كما يحذّر عموم الناس.
● مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ …: ويستمر أهل الباطل في تصعيد الموقف, من حركات وكلمات, إلى فعل آثم بمنع الخير بكل شدة.
● … مُعْتَدٍ …: وبالاعتداء
● … أَثِيمٍ(12) والإثم في الأصل هو البطء والتأخُّر, والأثيم بطيءٌ عن الخير متأخِّر عنه. والإِثْمُ: الذَّنْبُ. وهو أَن يعملَ ما لا يَحِلُّ له.
● عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ …: العَتَلة هي عَمودُ حدِيدٍ يُهْدَمُ به الـحِيطانُ، ويُقْلَع بها الشجرُ والـحجرُ. ومنها اشْتُقَّ العُتُلُّ، وهو الشديد الـجافـي والفَظُّ الغَلِـيظ من الناس, الشديد الـخُصومَة. والمعارضة هنا بدأ المكذبون في أخذ شكل العنف والشدة والغلظة والمحاولات الجادة الفعلية للهدم واقتلاع جذور الإيمان.
● … زَنِيمٍ(13) زنم الزاء والنون والميم أصلٌ يدلُّ على تعليق شىء بشىء . من ذلك الزَّنِيم، وهو الدَّعِيُّ الـمُلْصَقُ بالقوم ولـيس منهم , وقـيل الزَّنِـيمُ الذي يُعْرَفُ بالشر واللُّؤْم, موسوم بهما. فالمكذّب ينفصل عن قومه بأفعاله التي تتسبب في الضُّر لهم , وهو يظن أنه منهم.
● أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ(14) لا تطعه لماله وبنيه. فهذا المكذّب المحارب المتآمر على دعوة الحق, قد يطيعه بعض الناس لماله وكثرة عزوته وبنيه وجاهه, فينهى الله عن ذلك ويحذّر.
● إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ(15) وقد ترجم كل معاداته لدعوة الحق في شكل كذب وادعاء بأن آيات الله أساطير الأولين. كبرت كلمة تخرج من أفواههم , إن يقولون إلا كذبا.
● سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ(16) فيتوعّده الله بالفضيحة وكشف أمره ووسمه على الخرطوم وهو الأنف, أكثر الأعضاء ظهورا, وعلامة الأنفة والاعتزاز, حتى لا يخدع الناس فيه, ولا يخفى عليهم، كما لا تخفى السمة على الخرطوم.
ويتلخص التصعيد في هذه المرحلة إلى محاولة تشويه صورة الداعية شخصيا باتهامه بالجنون, ثم بتكذيبه باستمرار, وكانوا قد كذّبوا من قبل وهم الآن المكذّبون, ثم هم يريدون المداهنة, ومنهم من يستخدم وسائل الحلف والهمز والمشي بنميم, ثم منع الخير , والاعتداء والإثم , ومحاولة اقتلاع الإيمان من جذوره, وارتكاب أعمال تضر بالناس بالشر واللؤم, ثم في النهاية يتعرض لآيات الله بوصفها بأساطير الأولين
مثل تطبيقي:
يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون. فالمثل يخرج الكلام من حدود فهمه بالعقل, إلى إدراكه وتصوّره بالحواس كلها, ويجسّد الكلام, فيزداد تأثيره.
فبعد أن بيّن الله أساليب المكذّبين وكيفية مواجهتها, ضرب مثلا لقوم كانت لهم جنّة مثمرة, وكان أبوهم يتصدّق منها للفقراء والمساكين, ولما توفّاه الله, أقسم أبناؤه على إغلاقها في وجههم. يقول الله:
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ(17)وَلَا يَسْتَثْنُونَ(18)فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ(19)فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ(20)فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ(21) أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ(22)فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ(23)أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ(24)وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ(25)فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ(26)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(27)قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ(28)قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(29)فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ(30)قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ(31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ(32)
إن مضمون الرسالة التي أفهمها من هذه الآيات أن الله سبحانه يحذّر الذين يحاولون منع خيره عن عباده, ويتآمرون بالسوء والإثم والبغي, فالله لهم بالمرصاد, يدمّر ما كانوا يصنعون, ويحرمهم من خيره ونعمه في الدنيا قبل عذاب الآخرة الذي ينتظرهم, وهو أكبر, ويبقى للطاغين الندم والحسرة, ثم في النهاية يعلمون أن الله غالب على أمره, ولا مفرّ ولا ملجأ من الله إلاّ إليه. وفي ذلك تهديد حيّ لمن حاول منع نعمة الله عن عباد الله, وقاوم وحارب أهل الحق والخير. وإن كان المكذّبون الضالّون يبعد عن تصورهم شأن عذاب الآخرة, فإن الأمثلة الحية في الدنيا أقرب لهم. كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(33)
حجج بالغة:
يحتاج المتقون إلى بشارات من ربهم. وما يسعون إليه بعد رضاء الله, هو الجنة. فيبشّرهم الله بها: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(34)) فمن أعطى لعباد الله مما يملك من جنات الدنيا, فإن له عند ربه جنات النعيم.
وهنا يوجّه الله الحديث منه مباشرة إلى المجرمين, بأسلوب المخاطب, وهي أول مرة في التنزيل المبارك. حتي يشعرهم سبحانه بأنه معهم ويراهم ويسمعهم, وحتى يكون لتهديداته وقع أشد عليهم, وحتى يهتموا بالكلام فهو موجه لهم مباشرة.
فالله سبحانه يبكّتهم ويسخر من كفرهم تكبّرهم وعزتهم بالإثم. فالمسلمون ليسوا كالمجرمين , بل هم يتميزون عنهم ويعلون عليهم: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)
وليس للمجرمين حجة يستندون عليها , ويحاجون بها من كتب منزّلة: (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ(37)إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا َتَخَيَّرُونَ(38). كما أنه ليست لهم على الله عهود ولا مواثيق تحميهم , (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ(39)
وحين جاء ذكر يوم القيامة, يتحوّل الله عنهم من أسلوب المخاطب إلى أسلوب الغائب, فيشعرهم بفضل حديثه المباشر معهم, وكأن الله سبحانه يحرمهم من أن يكلمهم في الآخرة , ولا ينظر إليهم , فالفرصة كانت عندهم في الدنيا حين خاطبهم الله مباشرة ودعاهم إلى الهدى ودين الحق , أما يوم القيامة, فإن هذه الفرصة قد انتهت. فإن هي ضاعت منهم في الدنيا, فلن تعود مرة أخرى. فيقول سبحانه موجها الخطاب إلى رسوله , ومن يسير على هداه: (سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ(40)) فهل يدّعي أحد منهم أنه بذلك زعيم أو ضامن؟
وليس لهم شركاء يساندونهم : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ(41))
ولهذا فإن الله ينبههم إلى أن فرصة الطاعة والهداية تضيع منهم فيقول: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ(42)خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ(43))
نسأل الله السلامة , وقد أمهل الناس في الدنيا .
ومن لم يُجب داعي الله , فإن الله يتولّى أمره , فيستدرجه بالنعم ويفتح الدنيا عليه , حتى إذا أخذه لم يفلته : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ(44)وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(45))
ويكمل الله التبكيت والاستهزاء بالمجرمين, أيضا بأسلوب الغائب, فيقول: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ(46)أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ(47))
وفي بدايات الدعوة, تتصاعد المواجهات بين الحق والباطل, وعادة يكون أهل الحق قلة بالمقارنة بأهل الباطل, ويشعر أهل الباطل بضيق الدنيا من حولهم, وربما يستيئس بعضهم, فهم يحتاجون إلى مساندة من ربهم وتعضيد, فيقصّ عليهم سبحانه قصة مشابهة لأحد أنبيائه, حيث ضاقت الدنيا به وأظلمت, فنادى وهو مكظوم, فأنقذه الله الذي يقول: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ(48)لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ(49)فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ(50)
ويصل الذين كفروا إلى أنهم يحقدون على أهل الحق الذين لا تجدي معهم محاولات الإثناء عن سبيل الله, والحرب الكلامية أو المعاداة الشديدة, والادعاءات الباطلة, ولكنهم يصمدون, ويبلغون الذكر للعالمين غير عابئين بمعاداة الذين كفروا, قائمين على الحق إلى يوم القيامة لايضرهم من خالفهم, ويشد الله من أزرهم:
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ(51)وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(52)
وخلاصة خطوة القلم:
- مواجهة ادعاءات المكذّبين بجنون أهل دعوة الحق
- وعد الله بالأجر لأهل دعوة الحق, وهو أجر غير منقوص وغير مقطوع.
- الهدف الأسمى لدعوة الحق هو الخلق العظيم.
- أهل الحق لا يدهنون, فلا حلول وسط بين الحق والباطل.
- يكشف الله حيل ومحاولات المكذبين ويرد عليها, ويحذر أهل الحق من طاعتهم مهما كان في أيديهم من مال وبنين.
- على الدعاة إلى الله توصيل كلام الله المباشر منه سبحانه إلى الذين كفروا, بحيث يشعرون بأنه يراهم ويخاطبهم ويدعوهم إلى السجود والطاعة كفرصة في الدنيا, فإن لم يغتنموها فإنها لن تتكرر في الآخرة.
- في هذه المرحلة, يترك أهل الحق أمر المكذبين إلى الله وحده, ويبلغون دعوة الله, وتهديده لهم فقط دون دخول في صراعات مباشرة معهم.
- على أهل الحق أن يصبروا على أذى أهل الباطل, ولا ييأسوا, فهي فترة عسيرة مظلمة من العداوة, ولكن الصبر عليها يكون مجلبة لنصرة الله وتدارك نعمة الله لأهل دعوته.
- سيتحول الذين كفروا لما سمعوا الذكر إلى الحقد والحسد, والادعاءات الكاذبة بالجنون لأهل دعوة الحق.
- كتاب الله هو شرف وتذكير للعالمين, وماهو إلا ذكر للعالمين