كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعتكف في غار حراء – وَيُعْرَفُ الْيَوْمَ بجبل النور- فجاءه الملَك جبريل عليه السلام , وحي الله إلى رسله وأنبيائه, فقال له :اقرأ. قال : ما أنا بقارئ؟ ثم ردد عليه الأمر, ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: ما أنا بقارئ ؟ وفي المرة الأخيرة يقول له: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5) العَلَق).
إعداد الداعية:
لقد بدأ الله سبحانه أولى آيات كتابه الكريم, بالأمر بالقراءة , وهو الخطوة الأولى في الدعوة . فلابد أولا من إعداد إمام الدعاة, والأسوة الحسنة, رسول الله صلّى الله عليه وسلّم , كما لا بد من إعداد أي داعية ينتهج منهاج رسول الله
يقول الله بادئا منهاج إعداد الداعية: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ( . ولا يصلح عمل بغير علم , ولا يمنح علم بغير قراءة , والقراءة جمع وضمّ وفهم وإدراك واعتبار. ولا بد أن تكون باسم ربك, حيث أن أية قراءة بغير استهداف اسم ربّنا, أو بدون أخذ رضى الله في الاعتبار, لا تؤمَن أن يكون نفعها ممتدا لفائدة الناس ونفع صاحبها.
ولو أن غير مسلم, قرأ باسم ربّ يعبده غير الله, فإنها ستكون قراءة ضالة مضلّة, كالذي يقرأ ويجمع ويضم ويوجه جهده لدراسة وتطبيق فكر ماركس في الشيوعية, أو غيره من دعاة الضلال والإضلال.
أما المسلم فهو يقرأ باسم ربّه الذي خلق.
وهل للكافرين ربّ غير الله يخلق؟ لا إله إلاّ الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل.
فكيف يكون داعية إلى الله بإذنه , دون أن يقرأ ماذا يريد الله منه ومن الناس , وذلك بأن ينشئ صلة دائمة بينه وبين ربه , فيتلقّى من خلالها الهداية بقراءة ما أنزل في كتابه , فيفهم ويدرك ما يريد الله أن يقول, قبل أن يتوجه إلى الناس.. فيتعلم قبل أن يُعَلّم .
ومنذ اللحظة الأولى يعلّم الله عباده الداعين إلى سبيله الإخلاص له , وأن تكون أعمالهم باسمه سبحانه, فالقراءة باسم ربّك تكون قراءة مخلصة, الغرض منها البحث عن الحق, وعن مراد الله, وفهم أوامره ونواهيه , وتوجيهاته والعلوم التي يشير إليها في كلامه إلى خلقه. وليس الغرض منها مجرد التلاوة والترديد أو التعالي على الخلق.
ويسير الأمر بين الله وبين الذين يتولون تبليغ دعوته إلى الناس على نفس المنهاج. فحين يقرأ واحد منهم باسم ربه , فهو يتعرف عليه سبحانه, فهو (الَّذِي خَلَقَ) هكذا في تلخيص شديد, فقد خلق كل شيء , وأي شيء. وطالما أنه خلق , فهو يعلم كل شيء عن خلقه, ووسيلة التعلُّم هي القراءة باسم ربك الذي خلق, أي بإخلاص له وبما يرضيه وابتغاء وجهه وحده لا شريك له.
وهو جل شأنه قد (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) هكذا في تلخيص شديد أيضا. والعَلَقُ النُّشوب فـي الشيء , وهو يقال حين يناط الشَّىء بالشىء العالي, والعلق الدم الجامد الذي يكون مبدأ نشأة الطفل الذي يتعلق برحم الأم, وهو في كل حياته معلّق بربّه يحتاج إليه ولا يمكنه الاستغناء عنه. ومتعلّق بغيره من الناس يجعل الله مصالحهم جميعا مرتبطة ومعلّقة على بعضهم البعض, ولا غنى لأحد عن ربّه , ولا عن الناس, فيخلق الله الناس بعضهم من بعض, ويرزق بعضهم ببعض.
ثم يكمل الله تعريف عباده بنفسه جل شأنه , فيقول: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) فيعرّف نفسه أنه الأكرم , فيتعلّقون به وحده , ويستعينون به وحده , ويثقون فيما عنده. فهو ليس فقط الذي خلق, ولكنه هو الأكرم الذي يعطي ما خلق إلى من خلق.
وربك هو (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم) . والقلم منه التقليم , أي التمييز بين الأشياء . وهو أفضل أسلوب للتعليم. يُعمِل العقل في المقارنة والاختيار من بين بدائل. وهو رمز العلم والتعلُّم.
وهكذا ينبغي على من يكلّف نفسه بالدعوة إلى سبيل ربّه , وتبليغ هدايته إلى الناس , أن يتخذ نفس الأسلوب في التعليم , التعليم بالقلم , يبين للناس الفارق بين الأشياء, ويضرب الأمثلة. فيوضح لهم أن خالق هذه الأشياء واحد , مطلق القدرة في تنوع خلقه , وأنه متميز عن غيره في الصفات , فهو الأكرم , الأفضل في الكرم ممن سواه , ويتعرف الإنسان عليه بالقلم , كما يتعرف على خلقه بالقلم. والله سبحانه يُعلّم كل خلقه بالقلم الذي هو التمييز , فيميز الحيوان بين الأشياء, فيأكل البرسيم ولا يأكل الشوك, ويشرب الماء ولا يشرب الزيت. كما يميز النبات بين التربة والهواء , فيدبّ الجذر في التربة , ويتفرّع الساق في الهواء. فإن قلبت الحبة بعد بدء إنباتها, فصار الجذر لإعلى والساق لأسفل, يتحرك الجذر بأمر الله نحو التربة, ويتحرك الساق بأمره سبحانه, نحو الهواء.
وربّك(علّم الإنسان ما لم يعلم) .. فالإنسان يتلقَّى من ربّه علوم الدنيا , وأخبار الأمم السابقة , وتراكم خبرات الإنسان على الأرض , وأسرار الكون , بدايته ونهايته , ويتعلم منه إلى أين تنتهي الحياة بالناس , ويتعلم منه بماذا يأمر وعن ماذا ينهى. ولم يعلم كل ذلك إلا بتعليم الله له, وقد أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا.
جمهور الناس قبل الدعوة:
بعد هذا الاستفتاح بالقراءة باسم ربك, بدأ الله في تحديد فئات الناس وتطورات انفعالهم بالدعوة إلى سبيل الله. ففي البداية , لا يدري الإنسان عموما أنه محتاج إلى ربه ومنهاج ربه , فهو يظن أنه استغنى بنفسه عن ربه وعن غيره من الناس. استغنى بقوته, أو بماله, أو بأهله وعشيرته, أو بأي عناصر للقوة يرى نفسه استغنى بها , والمستغني لا يلتفت إلى أحد ولا يلجأ إلى أحد , ويتعالى على النصيحة , وبالتالي عن طاعة ربه , فهو لا يشعر بأهمية لذلك. بل هو يحقد على من ينصحه, ويحاول أن يسفّه من عمله, ويطمس تميّزه بالجدية والسير نحو التلقّي من الله . ويكون ذلك في شكل طغيان وكفر, وعدم قبول لدعوة أو لدعاة.
فقبل أن يتوجه الداعي إلى سبيل ربه إلى الناس ينبهه الله إلى هذه الآفة في الإنسان عموما, الذي سوف يلتقي به ليدعوه فيقول: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى(6)أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى(7)).
إننا نرى الإنسان الذي لا يشعر بالحاجة إلى الشيء يزهد فيه, ويترفع عنه, أن رآه استغنى. أي ظن في نفسه أنه استغنى, فإن أردت أن تحفّزه لهذا الشيء, فلابد أن تشعره بالحاجة إليه أولا.
وطغى الإنسان إذا جاوَزَ القَدْرَ وارتفع وغَلا فـي الكُفْرِ. وكلُّ مـجاوز حدَّه فـي العِصْيانِ طَاغٍ
وعليك كداعية إلى الله , في أول ما تتوجه إلى الناس بدعوة الحق, أن تعلم أولا أنك ستواجه عموم الناس الذين لا يشعرون بحاجة إلى الاستجابة للدعوة فيرون أنهم استغنوا .
ومفتاح المواجهة في هذه الحالة هو ما بيّنه الله في الآية التالية: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى(8))
ما هي الرُّجعى؟ ولماذا لم يقل الله هنا : إن إلى ربّك المرجع!؟
رجع: الراء والجيم والعين أصلٌ كبيرٌ ، يدلُّ على رَدّ وتَكرار. ورجع بمعنى عاد إلى الأصل الذي خرج منه, فيقول الرجل: أنا راجع إلى بيتي , حيث فيه مستقرّه كل يوم, ويقول المسافر: أنا راجع إلى بلدي, ونقول: َرَاجَعَ الرّجُل امرأتَه, حيث مكانها الطبيعي في بيتها مع زوجها.
والرُّجعى تدل على تكرار الرجوع إلى الأصل والمنشأ, تكرار في مرّات الرجوع , وتكرار في أحوال الرجوع, فالرجوع إلي الحق فضيلة. والحق هو الأصل الذي خلق الله الإنسان منه وأخذ الميثاق عليه.
والرجعى تختلف عن الرجوع , فنحن نرجع إلى الله يوم القيامة, رجوعا, ولكننا نرجع إلى الله في كل أمورنا في الدنيا والآخرة رُجعى, فيتنوّع الرجوع , ويتكرر في أوقات كثيرة, فنقول : إن إلى ربك الرُّجعى.
إذن فكلمة الرُّجعى تشير إلى البداية والأصل, كما تشير إلى العودة المتكررة حتى النهاية. فربنا الذي خلق, أنشأ وبدأ وأوجد. فالله هو الأول فليس قبله شيء, الخالق المبدئ المعيد, خلق الأشياء وخلق الإنسان, ثم إليه الرجعى في كل وقت وحين , وفي كل ظرف وشأن وأمر. ألا له الخلق والأمر, تبارك الله رب العالمين, ويتكرر رجوعه إليه في الدنيا قبل مرجعه إليه يوم القيامة.
وللإنسان إلى ربك الرجعى حيث سيحتاج إلى مخلوقات خلقها ربّك الذي خلق سبحانه, وكلما احتاج الإنسان إلى شيء مما خلق الله, وتكرر احتياجه, فإنه يجد ربه الأكرم, الذي يعطي فلا نفاذ لعطائه, حيث أنه يخلق هذا العطاء وهذه الأشياء, سبحانه, اقرأ وربك الأكرم.
ويبين حامل الدعوة للإنسان الذي يدعوه إلى سبيل ربّه, أنه راجع لا محالة إلى ربّه, راجع في أمور الدنيا والحياة, فمهما ظن بنفسه وقوته واستغنائه في الدنيا , فإنه لايمكن أن يدّعي أنه خالد فيها , فكل إنسان مهما كانت حاله وقناعته بهدى الله , فهو يعلم أنه سيموت وتنتهي حياته , فكيف به إن مات ورجع إلى ربّه, وهو حتما راجع إليه؟
ثم لماذا لم يقل الله : إن إلى ربه الرجعى ؟ حيث كان الحديث عن الإنسان بضمير الغائب, إن الله يبين لنا أنه لا يقص علينا ويبين لنا صفة من صفات إنسان لا علاقة لنا به, ولكننا مع هذا الإنسان الذي لا يعرف ربّه الحق, مسئولون عنه أمام الله , وعن إبلاغ دعوة الله له. إنما تربطنا به علاقة وطيدة , بل إن هذا الإنسان الذي يطغى أن رآه استغنى, هذا الإنسان هو الموضوع , ومجال العمل, الذي يجب على حاملي دعوة الله ورسوله أن يتوجهوا إليه , ولهذا ربط الله سبحانه بالحرف: ك , في كلمة ربّك, تدل على أنك حين تتوجه لعموم الإنسان الذي يري نفسه استغنى , فإنك ستنبهه أن إلى ربك أنت الرجعى, حيث ربما يكون لبعض الناس ربّ من الأرباب المتفرقين بغير الحق. ولكن الرجعى إلى ربنا نحن المسلمين المؤمنين.
كما أن الله سبحانه لم يقل “إن إلى الله الرجعى, فلفظ الجلالة يوجب العبودية لله, ولكن الله سبحانه يبدأ مع الإنسان الذي يراه استغنى, بأن يوجد عنده الشعور بالحاجة إلى ربّ من يدعوه إلى الحق.
وكلمة ربّ في اللغة تعني الخالق للشيء, المالك له, القائم عليه, الملازم له, المصلح له. فهو الباديء الخالق أصلا, ثم إنه يملك, فلا يهمل ما خلقه ويملكه, بل هو قائم عليه, ولا يكتفي بالقيام عليه دون أن يستمر في ذلك فهو ملازم له, ولا يتركه على حاله , وإنما هو المصلح له.
فكيف لمن عرف كل هذا عن ربّك أن يرى نفسه استغنى عنه؟ بل إنه حين يعرف هذه الحقائق, فسينتبه إليك ويستمع إلى ما تريد أن تبلغه عن ربّك أنت , وهو ربّ العالمين , وبالتالي لن يرى نفسه استغنى, وبالتالي فلن يطغى, ولن يتجاوز الحدود معك , حين تقول له وتشرح له وتعلمه أن إلى ربك الرُّجعى.
من اهتدى, ومن تولّى:
وسوف تسفر دعوة الناس إلى طريق الله , عن مستجيبين لها من الناس ,فيؤمنون بالله , ويتبعون هدْي الله , فيقيمون الصلة بينهم وبين ربهم , وأول أعمالها وأركانها الصلاة.
ثم قد يتمادى بعض الناس في الطغيان, ويتجاوز حد عدم الاستجابة إلى الدعوة , إلى محاربة من يستجيبون لها, فيحاربون دعوة الحق, إلى أن يمدواّ آثار عقيدتهم الفاسدة على من بدأ طريق الهداية, فينهونهم إذا صلوا, ويصف الله ذلك بقوله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)
وأول محاولة للرد على هذه النوعية من الناس, أن تدعوه هو نفسه للهدى , وتعرض له الصورة التي يمكن أن يكون عليها إن استجاب لدعوة الحق..
أو يمكنه أن يصل إلى أرفع من ذلك, بأن يكون هو نفسه داعية متميزا يأمر بالتقوى, ويتميز في هذا الاتجاه طالما هو يبحث عن تميُّز , ولا يحب أن يرى أحدا خيرا منه , فيعرض الله له هذه الصورة من التميُّز ولكن على طريق الهدى, فيقول سبحانه : (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى(11)أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى(12)
فإن لم يستجب , بل استمر في التكذيب والبعد عن الهُدى: (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(13), فإنه لابد هنا أن ينبه إلى أن الله يرى , لعل ذلك يكون كافيا لزجره ورده إلى الصواب. (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى(14)
فإن لم يرجع إلى صوابه , ولم ينته, فلابد هنا من تصعيد آخر بتهديده , فيقول الله له: (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاَ بِالنَّاصِيَةِ(15)نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16)) فالله سبحانه سيقود ناصيته بشدّة إلى النار, وهي المسئولة عن القرارات التي يتخذها الإنسان , من الصدق والكذب في القول , ومن الصواب والخطأ في التصرُّف.
فإذا تمادى هذا الإنسان المجرم , وحاول الاستعانة بأقرانه في مقاومة الدعوة , فإن الله يتحداه ويلوّح له بما عنده من جنود أقوياء غلاظ شداد , هم الزبانية , يواجهونه ويواجهون أقرانه وناديه المحاربين للدعوة , فيقول له الله : (فَلْيَدْعُ نَادِيَه(17)سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ(18))
ونلاحظ في المرحلة الأولى, أن الله يبدأ في معالجة الإنسان, تدريجيا حسب درجة فعله المضاد للدعوة, ففي البداية هو ينهى عبدا إذا صلّى, فينصح بإن يكون على الهدى, أو يأمر بالتقوى, فإن كذّب وتولّى, يُعلم بأن الله يرى, لعله يخجل من نفسه وفعله فيكفّ. ثم يهدده الله بأن يسفع بالناصية إن لم ينته, وينتقد ناصيته ولم يتهمه هو نفسه, ثم إن صعّد الكافر أعماله وعداءه بأن دعا ناديه, يهدد الله بأنه سيدعو الزبانية, ولم يقل للكافر ماذا سيفعل الزبانية به, ولكنه ردع وترهيب حتى لا يستمر في معاداته.
وحتى الآن لم يتعرّض الذي كّب وتولّى إلى شخص الداعية , وإنما تعرّض لمن استجاب للداعية.
ويحفظ الله الدعاة من شرّ هؤلاء المجرمين , ومن الاستجابة لضغوطهم ودعوتهم المضادة لدعوة الحق , بل يأمر الله عباده الصالحين بالمزيد من القرب منه سبحانه بالسجود فيقول لهم : (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ(19))
وهذه أول سجدة في كتاب الله بترتيب النزول. فما هو السجود الذي يكون به العبد مقتربا من ربّه, فيحميه من كيد الكائدين؟
معنى السجود
إن أصل كلمة ( سجد ) يدل على المعانى الآتية :
- أسجد الرجل : إذا أدام النظر .
- تطامن : وهو السكينة والاطمئنان .
- ذل : وكل ماذل فقد سجد .
- خضع : بمعنى أطاع وانقاد :
- أطاع : فيما يعلم ويدرك .
- انقاد : فيما لايعلم ولا يدرك .
كيف تتخذ قرارك بالسجود ؟ وأنت الذى خلقك الله فسوّاك فعدلك !!
أنّى لك و أنت المعتز بهامتك المرفوعة , ورأسك التى تناطح السحاب , وجبهتك التى تواجه بها الدنيا , أنّى لك أن تضع كل هذا على الأرض !! ؟
إن وضع الجسم والأعضاء حال السجود هو أضعف وضع لها على الإطلاق. فالساجد يضع جبهته على الأرض. والساجد تكون عيناه إلى الأرض فلايرى ماحوله من متغيرات حتى يتمكن من الانفعال تجاهها. وهو يلصق يديه بالأرض , فلا يتمكن من استعمالهما فى الدفاع عن نفسه أمام أى أخطار. كما أنه يضع ركبتيه وقدميه على الأرض , فلا تسعفانه فى حركة أو هروب , أو إقدام. إنه وضع لايرضاه الإنسان لنفسه تحت أى ضغط , ولا يفعله – إن فعل – إلا مكرها أشد الإكراه …
.. إلاّ أن يكون ساجدا لله رب العالمين .
فكيف يتخذ إنسان قرارا بالسجود ؟
ولنتناولها معنى معنى , ونتسلسل معها خطوة خطوة …
إن الإنسان يديم النظر أولا فى ملكوت الله , و يتفكّر فى خلقه ونعمه , ويتدبّر فى أمره , فيتعرف على قدراته , وصفاته , وإمكانياته , فيرضى به ربّا.
ثم هو يتعرّف على قدرات الله فى العطاء , وصفات الجمال فيه , وبأنه له كل شىء سبحانه , فيطمئن له.
ثم يتعرف على صفات الجلال و قدرات الله فى القهر والمنع , فيرى أنّه لاملجأ ولا منجى منه إلا إليه, ويؤمن به إلها واحدا, فيخضع له .
ثم حين يخضع , يطيع الله فيما يأمر وفيما ينهى , من أمور يقتنع بها عقله , كأن لا يسأم أن يكتب الديْن صغيرا أو كبيرا إلى إجله , لأن (ذلكم أقسط عند الله , وأقوم للشهادة , وأدنى ألا ترتابوا) ( البقرة 282).
ويجد أمورا لا يستطيع عقله إدراكها , فينقاد إليه بفهم وبغير فهم , خاصة فى الأمور التى لا يجد لها مبررا , كأن يصلّى الصبح ركعتين , والظهر أربعا , والمغرب ثلاثا. وأن يقبِّل الحجر الأسود , ويرجم الجمرات بنظام مخصوص , ليس للعقل تفسير له , إلا أن ينقاد لله , ويتبع رسله.
ثم يجد نفسه وقد أدام النظر , واطمأن , وخضع , وأطاع , وانقاد , وأنه لا يمكنه أن يفعل ذلك إلا لله , فيذلّ لله .
وبمذلتّه أمام الله , يعزّ أمام كل شىء سواه . سواء كان إنسانا , أو شيطانا , أو ذنبا.
هنا يكون الإنسان المؤمن قد سجد لله بعقله , أى اتخذ قراره بالسجود , وهو مازال واقفا على قدميه.
ومتخذ هذا القرار جزء فى مخّ الإنسان , هو ناصيته , التى هى خلف جبهته مباشرةً , فهى المسئولة عن قرار الفعل من صواب وخطأ , ومن صدق وكذب , وذلك طبقا لآخر ما توصّل إليه علماء المخّ والأعصاب فى العالم , حتى أنهم لاحظوا أن من يصاب فى ناصيته إصابات غائرة , تتغير تصرفاته عكسيا , بين الصدق والكذب , والصواب والخطأ .
… ويصدق ذلك ما سبق به القرآن فى قول الله تعالى منذرا ذلك الذى ينهى عبدا إذا صلّى (كلاّ لئن لم ينته لنسفعا بالناصية . ناصية كاذبة خاطئة (العلق 15-16) أى أن الله يتوعد ذلك الكافر , بأن يقذف بناصيته فى النار , فهى صاحبة القرار الخاطئ بالنهى عن ذكر الله وعن الصلاة.
هذه الناصية هى السلطة التشريعية فيك .
حين يتخذ الإنسان قراره بالسجود , بواسطة مركز اتخاذ القرار فى ناصيته , أو السلطة التشريعية , فإنّ أول ما ينفّّذ هذا القرار فيه هو ناصيته نفسها فيسجدها سجودا حسّيا بوضعها على الأرض.
ثم من الذى سينفّذ القرار المتّخذ من الناصية؟ من هى السلطة التنفيذية فى الجسم؟
إن ما ينفِّذ القرار بالفعل هى أعضاء الإنسان الآتية :
• اليدان : بأن تبطشا وتأخذا وتلمسا .
• الركبتان والقدمان : بأن تسيرا إلى حلال أو إلى حرام , فى طاعة أو فى معصية , إلى حيث يرضى الله , أو إلى حيث لا يرضى.
• العينان : تنظران إلى ما أحلَّ الله أو إلى ما حرَّم . تنامان عن ذكر الله , أو تبيتان تحرسان فى سبيل الله . تجحدان نعمة الله , أو تبكيان من خشية الله.
• اللسان : ينطق إما شاكرا وإما كفورا . إما ذاكرا وإما ناكرا . إما بالحق أو بالباطل . إما قولا سديدا أو منكرا من القول وزورا.
يحدث كل هذا تنفيذا لأمر الناصية .
فهل تسجد هذه الأعضاء هى الأخرى ؟
إنك تسجد اليدين لله , والركبتين , والقدمين , بأن تضعها جميعا على الأرض.ثم توجّه عينيك إلى موضع السجود , فهما ساجدتان .
بقى اللسان ! كيف يسجد اللسان ؟
إن اللسان يقول فى السجود : ” سبحان ربّى الأعلى “.
إنّ “سبحان” تقال عند إدامة النظر فى قدرات الله : سبحان الذى سخّر لنا هذا – سبحان الذى أسرى بعبده – فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء ….
إذن أنت تديم النظر فى قدرات الله , فتقول بلسانك” سبحان ” وهذا جزء من معنى السجود.
ثم تقول بلسانك “ربّى” : والربّ هو الخالق , المالك , القائم على الشىء , الملازم له , والمصلح له.
فحين تذكر هذه المعانى , فأنت تذل لخالقك وحده لا شريك له , ولاتخضع إلا له , فهو مالكك , وتطمئن له حيث أنه قائم عليك وملازم لك .
ثم أخيرا , أنت تطيعه سبحانه , وتنقاد له , حيث أنه مصلح لك.
ثم يكمل لسانك ذكر اسم ربك ” الأعلى ” فتقول كل التسبيح
” سبحان ربِّى الأعلى”
هكذا يسجد لسانك أيضا.
بذلك تكون قد سجدت السلطة التنفيذية مع السلطة التشريعية فى جسمك كلها , لله تبارك وتعالى, سجدت كل مراكز القرار فيك , الناصية المتخذة القرار ,والأعضاء المنفّذة وهى اليدان والرجلان والقدمان والعينان , واللسان.
… سجدت بكل معانى السجود العقلية , والنظرية, والحسية , والقولية , والفعلية .
وفى الحقيقة , فأنت ساجد لله منذ شهدت أنه لا إله إلا الله , وكلما تذكر أو يذكرك أحد بقدرة من قدرات الله , وطالما أنك تطيع الله فى سرّك وعلانيتك.
…. فأنت فى حالة سجود دائم لله ربّ العالمين .
وكما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد “
فالسجود لله فى جوهره : إدامة النظر فى خلقه وآثار نعمته فى كونه , والاطمئنان لله ولمنهجه , والسكون اليه , والذل له وحده دون سواه – وفيه العزة كلها – وطاعة الله , والانقياد له , والخضوع الكامل لأوامره سبحانه .
والسجود فى مظهره الشرعىّ : هو وضع الجبهة واليدين والقدمين على الأرض , وتوجيه العينين إلى موضع السجود , وتسبيح الله باللسان
سبحان ربِّى الأعلى .. سبحان ربِّى الأعلى .. سبحان ربِّى الأعلى .
إذن فحين تواجه إنسانا يصدك عن ذكر الله وطاعة الله, فإن وسيلتك في مقاومته والنجاة من الانقياد له, أن تسجد لله بكل معني السجود, فتقترب منه سبحانه وبالتالي تنقذ ناصيتك من السفع بها في النار, وتكون ناصيتك صادقة صائبة, وناصية عدوّك وعدوّ الله ناصية كاذبة خاطئة.
وخلاصة خطوة (أقرأ) كالتالي:
- لابد من البدء بدعاة مخلصين يهتمون بأمر الدعوة إلى الله , ويتحملون مسئولياتها.
- هؤلاء لابد أن يبدأوا من القراءة , المخلصة باسم ربهم. ويتعرفون على ربهم الذي خلق , الأكرم الذي علم بالقلم.
- سوف يواجه الدعاة فئات مختلفة من الناس , ففي البداية يكون جلّ الناس على ضلال وكفر وطغيان بسبب شعورهم بالاستغناء , وهؤلاء يُذكّرون مبدئيا بأن الرجعى إلى ربك, أي العودة والرجوع المتكرر في كل أمر وشأن وفي كل حين إلى ربّك الذي خلق , وأكرم وعلّم, ثم إليه الرجعى يوم القيامة للحساب وبالتالي عليهم أن يبحثوا عن مصالحهم ليس اليوم فقط , وإنما حين يرجعون إلى ربهم كذلك.
- سيستجيب للدعوة في البداية بعض الناس ويصلّون لله خاشعين.
- سيواجه الدعاة فئة أخرى من الناس , وهم لا يكتفون بعدم الاتباع والظن بالاستغناء , وإنما سينهون عن سبيل الله .
- هؤلاء يبدأ معهم بدعوتهم بالتميُّز في الهدى والأمر بالتقوى.
- فإن لم يستجيبوا , واستمروا في التكذيب , يُعلَمون بأن الله يرى.
- فإن لم ينتهوا يُهدَّدون بتدخل الله ضدهم بشدة.
- فإن تمادوا في المعاندة والحرب المضادة واجتمع ناديهم على ذلك , يُعلمون بأن الله سيدعو الزبانية للتعامل معهم.
- وفي كل الأحوال لا يتجاوز الدعاة إلى الله في هذه المرحلة أكثر من إبلاغ كلام الله لهم, وعدم طاعتهم, وإنما عليهم بالمزيد من القرب من الله والسجود له, أي المزيد من إدامة النظر والاطمئنان, والذلّ والخضوع والطاعة والانقياد لله ربّ العالمين.