.. ثم أنزل الله سورة المدّثّر…
إن الله سبحانه يحدد فيها الصفات التي يجب أن تتوافر فيمن يتحمل مسئولية الدعوة إلى الله. فهي بمثابة التوصيف الوظيفي للدعاة. ويرتبها كالتالي: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)…
- ( قُمْ ) :لابد أوّلا أن يبدأ بالهمّة والعزيمة, فيترك الراحة إلى الكفاح والكدح المستمر , فالمهمة شاقة وطويلة, لا تنتهي إلا بنهاية الحياة نفسها.
- (فَأَنذِرْ) : ويواجه الانحرافات والبعد عن منهاج الله , بالإنذار. فينذر بنهاية العالم , وقيام الساعة , والبعث , والحساب , والثواب والعقاب , والجنة والجحيم.
- (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ): ويرتب أولوياته بتكبير الله, فلا يكتمل إيمانه حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما , ومن نفسه التي بين جنبيه. ولا يشغله عن الله شاغل. ويقول مؤمنا بها وعاملا :الله أكبر.
- (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ): ويهتم بمظهره في ظاهر علاقاته, ومظهره في ملبسه , فالناس يرونه أولا قبل أن يستمعوا إليه , والله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده , وهو سبحانه جميل يحب الجمال.
- (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ): وأن يترك كل إثم وخطأ, فالمخبَر لا يختلف عن المظهر , ولا يقل أحدهما أهمية عن الآخر , فالله يطلب ممن يؤدي الصلاة ألا يلتهي عنها , وهو مَخْبَر , كما أنه لا ينظر إلى الصف الأعوج , وهو مَظْهَر.
- (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ): وأن يعطي للناس بإخلاص دون أن يشعروا منه بمنّ , والناس لا يحبون من يتعالى عليهم مهما أعطاهم من الخير والعلم. ورغم ذلك يشعرهم بأنه يعطيهم أكثر مما يطلب منهم , يعطيهم ما يوصلهم إلى الجنّة, ويأخذ منهم التزامهم بمنهج الله .
- (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ): وأن يتحلّى بالصبر لربّه, فالطريق شاق وطويل ويحتاج إلى الصبر , والناس لا يحبّون الناصحين , وإخراجهم من حالة التسيّب بدون تكليف ولا حساب , إلى الطاعة في السرّ والعلن , وفي المغنم والمغرم , أمر ليس بالهيّن , ويحتاج إلى صبر .
هذه هي متطلبات العمل في الدعوة إلى الله , فمن اختار طريق الدعوة إلى الله , فليتحل بالهمة والعزيمة , والمواجهة , وتكبير الله عما سواه , وحسن المظهر , وصدق ونقاء المخبر , وحسن المعاملة وعدم المن والاستكثار , والصبر.
وبهذا أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم مؤهلا لمواجهة الناس بالدعوة إلى الله . وبدأ بعد ذلك في تلقّي هداية الله للناس, بعد أن خصص وقتا للمدارسة , ثم تلقّي منه سبحانه ما تأهل به لحمل الرسالة.
وكذلك يجب على كل داعية أن يراجع صفاته على هذه الخصائص , فما وجد منها فليحمد الله , وما لم يجده فليسع لاكتسابه , ثم ليدرس ويقرأ القرآن ليهتدي به, قبل أن يواجه عامة الناس بالدعوة.
ويتوجه الله إلى الكافرين بالإنذار بما سيحدث يوم القيامة لكي يهزهم ويرجفهم , لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا: (..فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8)فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9)عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ(10)
فإذا علم الإنسان أن هناك يوما عسيرا, فسيشعر بالحاجة إلى الله لإنقاذه من أهوال ذلك اليوم, وبالتالي فلن يرى نفسه استغنى, حيث أن إلى ربه الرجعى.
ورغم هذا فقد يتمادى البعض من الذين كفروا , فعلى الجانب الآخر , قد يبرز من المكذبين من يقف موقف المقاومة والتكذيب والكيد والتفكير الشيطاني لصد الناس عن ذكر الله وعن الهداية. ومازال الدعاة في المرحلة التي لا يمكنهم فيها مواجهة العدو والتعامل معه بالقوة , وإنما عليهم أن يبلغوه كلام الله وتهديداته لعله يرتدع.
فبعد أن لخّص الله في سورة المزمل موقف المكذبين أولي النعمة, فهو يوضح هنا تفاصيل تصعيد الموقف من مثال أئمة المكذبين, وكيفية التعامل مع هذه النوعية من البشر.
فلأن الكافر يجحد نعمة الله عليه , بل ويحاربه بها , فإن الله سبحانه يتولّى التعرّض له ومواجهته أولا بتذكيره بالنعم التي أنعم بها عليه: (.. ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا(12)وَبَنِينَ شُهُودًا(13)وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا(14)) وفي ذلك بيان وتفصيل لأمثلة من حاجة الإنسان إلى ربّه مما قال مجملا في سورة العَلَق (إن إلى ربك الرجعى)
.. ثم بأنه مازال يطمع فيما عند الله أن يزيده: (.. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15)
ورغم ذلك, فهو يعاند, وهو مقتنع بآيات الله , غير أنه رافض للإيمان: (..كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا(16)
والذي كفر وعادى هو من أولي النَّعمة, فيرهقه الله: (..سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا(17), فهذا أمره مختلف عن غيره من المكذبين, فقد وصل إلى حد الاقتناع بالحق, وكان الأحرى به أن يؤمن ويقف مؤيدا, ولكنه على العكس من ذلك , فإن تفكيره كله ينصب على كيفية مقاومة الحق وإطفاء نور الله , بالعناد لما أثبت الله له من آياته, فاستغل تفكيره ووجهه إلى إيجاد حجج جديدة للادعاء بالباطل لكي يصد الناس عن الحق والهدى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20)ثُمَّ نَظَرَ(21)ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22)ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23)فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24)إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ(25)
وهذا لا بد أن يهدَّد بزوال كل ما يرى نفسه يستغني به , فسقر لا تُبقِي ولا تذر: (.. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(27)لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ(28)لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ(29)عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ(30)
.. في حالة المكذبين أولي النَّعمة, في سورة المزمّل, لوّح الله فقط بأن لديه أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصّة وعذابا أليما, دون أن يقول إنه سيصيب المكذبين به, وأما في حالة من يصعّد الموقف من التكذيب, إلى الادعاء على الدعوة بعد أن تبين له الحق, فإن الله يهدده تهديدا واضحا بالعذاب المباشر: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26))
وهذا التهديد والوعيد , ينبغي أن يجعل الإنسان العاقل يراجع نفسه , ويعيد النظر في موقفه المعاند , وذلك إن كان عاقلا , ولكن الناس مختلفون أمام نفس الموقف , فذكر سقر وأفعالها, وأصحابها من ملائكة العذاب, يتفرق الناس أمامه:
● فالذين كفروا يتمادون في كفرهم وغيهم , ويخرجون من هذا الابتلاء بمزيد من الكفر والعناد : وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا.
● والذين أوتو الكتاب يستيقنون من صحة ما جاء به القرآن من عدد ملائكة العذاب , الذي يجدونه موافقا لما عندهم :لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
● وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا , فهم مؤمنون بكل ما جاء على لسان رسولهم من الحق , وهم هنا يزدادون إيمانا لما يذكر الله لهم عدد أصحاب النار ويجدون أنه مطابق لما جاء في الكتب السماوية لأهل الكتاب.
● وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ: يثبتون على عقيدتهم بالله واليوم الآخر والملائكة والجنة والنار.
● أما المنافقون والكافرون الضالّون , فيظلون على حيرتهم مما يسمعون من عدّة أصحاب النار : وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا
والله يضرب المثل فيضل به من يشاء ويهدي من يشاء الله , حسب أحوال الناس ومواقفهم كما تبين من قبل : كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
وعدد الملائكة ليس وحده المحدد للبيانات , ولكن كيف يكون هؤلاء الملائكة؟ كيف تكون قوتهم , وقدراتهم التي جعلها الله لهم ؟ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ(31)
يتلو ذلك أن يقسم الله بالقمر يتغير حاله من الظلام الكامل إلى النور الكامل (..كَلَّا وَالْقَمَرِ(32), وما يتغير من الليل ذي الظلمة الحالكة ثم هويدبر فجأة : (..وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ(33) وبالصبح يسفر عن الضياء: (..وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ(34), كذلك فالذكرى إحدى الكبر , توضح للبشر كل شيء , تزيل الظلام وتأتي بالنور والهداية , وتزيل الظلمة وتأتي بالضياء والوضوح , ثم تترك بعد ذلك الخيار للبشر , فمن شاء فليتقدم على سبيل الهداية ومن شاء فليتأخر إلى طريق الشقاوة ,: (..إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ(35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ(36)لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ(37)
ويذكّر المجرم من أنه قد يظل مستغرقا في الطريق الخاطئ , إلى أن تنتهي الفرصة للعودة والأوبة ,ولا مجال للعمل الصالح عندئذ , ولا تنفع شفاعة الشافعين: (..كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38)إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(39)فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(40)عَنْ الْمُجْرِمِينَ(41)مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48)
وإن لم يهتد الإنسان إلى الحق , فليستجب لتذكرة المذكّرين , ولكن الذين كفروا عن التذكرة معرضون ,فيهينهم الله ويحارب الكبرياء والغرور فيهم : فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ(50)فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ(51) , فهم كالحمر المستنفرة , حين تري قسورة , يجري كل واحد منها في اتجاه بلا هداية ولا عقل ولاحكمة .
أم أن التذكرة لا تنفعهم إلا أن تأتي لكل واحد منهم صحف خاصة به مكتوب فيها المطلوب منه شخصيا : بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً(52) .
وفي الواقع فإنهم لايخافون الآخرة : كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ(53)
رغم أن القرآن نفسه تذكرة لكل امرئ على حدة , والذكر ليس قسرا وقهرا ولكنه مشيئة كل إنسان , فلا إكراه في الدين : كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ(54)فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(55) ,
ومن شاء أن يذكر ويهتدي , فليتق الله , فيتجنب ما يسخطه ويعمل ما يرضيه, وليستغفره على ما قصّر فيه وفرّط في جنب الله, حتي يشاء الله له الهداية , وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ(56)
خلاصة خطوة المدّثّر:
- للدعاة إلى الله خصائص لابد لهم من التحلّي بها, قبل أن يواجهوا الناس بالدعوة.
- من الذين كفروا من سيقتنع بدعوة الحق, ولكنه يعمل تفكيره في كيفية صد الناس عنها بادعاءات باطلة, وهذا يهدده الله بسقر التي لا تبقي ولا تذر.
- ينقسم الناس أمام دعوة الحق إلى فئات: الذين كفروا, والكافرين, والذين آمنوا والمؤمنين, والذين أوتوا الكتاب, والذين في قلوبهم مرض. وكل فئة تختلف في انفعالها بالدعوة وتأثرها بها عن الفئات الأخرى.
- كل نفس بما كسبت رهينة . إلا أصحاب اليمين.
- عدم الاستجابة لدعوة الحق, أوعدم تحويلها إلى عمل صالح نافع للناس, تودي بأصحابها إلى سقر, بسبب أنهم لم يكونوا من المصلّين , ولم يكونوا يطعمون المسكين, وكانوا يخوضون مع الخائضين, وكانوا يكذبون بيوم الدين.
- القرآن تذكرة مفتوحة لمن شاء , ولكي يشاء الله له الهداية , فعليه أن يتقي الله فيرضيه, ويستغفر عن ذنوبه وتفريطه, والله هو أهل التقوى وأهل المغفرة. يقي من يتّقيه, ويغفر لمن يعترف بذنبه فيستغفر.