منذ أن استخلف الله آدم عليه السلام في الأرض, وأسجد له ملائكته, وتاب عليه, ثم أهبطه وبنيه جميعا, قال: (فإما يأتينكم مني هدى, فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون, والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). منذ ذلك الحين, ورسالات الله للناس تتنزل ليهديهم ويؤهلهم لهذه الخلافة, ويضم خبرات الأمم مع رسلهم, إلى أن جاء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلّى الله عليه وسلم, وأنزلت إليه آخر رسالات الله إلى الناس, وكلفه سبحانه رسولا للناس كافة, ورحمة للعالمين.
إن رحمة الله للعالمين, لا تقتصر على النصيحة والأخلاق, ولكنها تمتد لتشمل كل الجوانب التي تؤثر في حياة الإنسان. إن ما تقوم عليه حياة الناس وتنضبط به معاملاتهم وأمور معاشهم, يشمل السياسة والقيادة والإدارة والسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية, وكل مسئوليات الوزارات والمجالس والهيئات والأنظمة المختلفة في المجتمعات المحلية, والعلاقات الدولية, في السلم وفي الحرب, بالإضافة إلى شئون الناس الفكرية والثقافية والاجتماعية والشخصية والروحية والعملية, بل لنقل هي تشمل كل مقومات الحضارة الإنسانية.
لهذا فإن الله سبحانه علم رسوله صلّى الله عليه وسلم كيف يبني حضارة بالناس وللناس. وكان تعليمه له من خلال الوحي بالذكر الحكيم, الذي بين أيدينا قرآنا عربيا غير ذي عوج, وبدراسته وتدبّره يمكن أن نستخرج مناهج بناء الحضارة بكل جوانبها.
وقد بدأ صلّى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة في تأسيس دولة, بكل معاني تأسيس الدولة, تضم كل الناس على اختلاف عقائدهم ومللهم, وتضع الجميع في مشاركة فعلية في البناء, فالكل مواطنون, وركب الحضارة يضم الجميع, كما تتطلع إلى أن تنتشر آثارها لتشمل الناس كافة بل والعالمين, في كل الأرض, وفي كل الزمان إلى يوم القيامة, حال وجود رسول الله, وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي.
وقبل أن يبدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بناء الدولة في المدينة, أهّله الله لهذه المهمة كرجل دولة, فلم يكن يتصرف برأيه, وإنما بما يوحى إليه من ربه (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها, قل إنما أتبع ما يوحى إليّ من ربّي, هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). وكان هذا التأهيل من خلال القرآن المكّي, في ست وثمانين سورة من (اقرأ) إلى (المطففين), تمثل كل سورة منها خطوة نحو الهدف, وتتجمّع في منظومات مجموعات في خطوات؛ إن اتبعناها فإننا نتمكّن من بناء حضارتنا- الحضارة الإنسانية- بهدي من الله, فتبدأ من:
- بناء الإخلاص والمخلصين عقيدة وسلوكا (من اقرأ إلى الإخلاص),
- ثم مدّ جسور التفاهم مع الناس ودعوتهم للاجتماع حول غاية واحدة مشتركة بينهم على اختلاف عقائدهم ومللهم, للمشاركة في بناء الحضارة (من النجم إلى القمر).
- ثم إذا اجتمعوا على أساس من إنسانيتهم؛ أتاهم كتاب الله بمنظومة للقيادة التي تدير شئون الناس وتقودهم في كل مكان وزمان(من ص إلى مريم),
- ثم تتبلور الهياكل القيادية والإدارية بمنهاج مواجهة الأزمات (من طه إلى القصص)
- ثم يحتاج الناس إلى الحكمة في تدبير أمورهم, فيأتيهم منهاج بناء الحكمة (من الإسراء إلى سبأ)
- ثم إذا دارت الحياة يختلف الناس في وجهات نظرهم واجتهاداتهم ورغباتهم, فيحتاجون إلى الفصل والحسم والبت بمنهاج فصل الخطاب (من الزمر إلى الأحقاف).
- ثم إذا استقرت الأحوال بالقيادة وبالحكمة وبالفصل, يعمل الناس آمنين بمنظومة العمل التي تحدد لهم أهداف العمل ونتائجه وعوامل نجاحه وفشله وتكامله (من الذاريات إلى نوح)
- ثم تعمل الأمة على نشر منهاج الله بين العالمين, بمنهاج الدعوة لإخراج الناس من الظلمات إلى النور, (من إبراهيم إلى المطففين), في منهاج الترقية والحسم, لتتبلور مواقف الناس وتتضح مستوياتهم, قبل الهجرة, وقبل تأسيس دولة الحضارة الإنسانية, للوصول إلى قمة التقوى والإيمان بالغيب, كأساس للعمل التطبيقي في دولة الحضارة, وترقية أحوالهم نحو غاية ما يرضاه الله لعباده في كل بقعة في الأرض
فيكتمل بذلك القرآن المكّي في ست وثمانين سورة.
ولو أن إنسانا يستعمل عقله قبل قلبه, ويسمع ويرى, فيقرأ القرآن المكي بهذا التسلسل البنائي, لابد أن يصل في نهاية مطافه معه إلى أن يقول وبحق وقناعة ودون تردد (ذلك الكتاب لا ريب فيه)
وإن وصل قلبه إلى هذه الحقيقة, فامتلأ بذكر الآخرة, وأحوالها وأهوالها, وما يراه في حياته الدنيا من صور العذاب الأدنى, فإنه يصل بأمر الله إلى أن يكون من المتقين, الذين يؤمنون بالغيب, فيصبح بذلك مؤهلا تماما لتلقي هداية الله في العمل والسلوك وتنفيذها دون تردد, فيكون ذلك الكتاب هدى له, فيقول بحق (ذلك الكتاب لا ريب فيه, هدى للمتقين, الذين يؤمنون بالغيب). ولا يسعه بعد ذلك إلا أن يقول: (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) وتلك هي فواتح وخواتيم سورة البقرة, أول ما نزل في المدينة, وفيها آخر ما نزل من القرآن, وبينهما تتنزل السور المدنية في تنظيم لسلوك الإنسان ومعاملاته في حياته, والتي بها يكون الإنسان متحضرا, مشاركا بإيجابية في بناء الحضارة الإنسانية بهدى من الله.
ونوجز هذه الخطوات كالتالي:
- بناء الإخلاص:
لا تُبنى الحضارة إلا على أيدي المخلصين. وهذا ما بدأ القرآن به, وهذا ما يبدأ به أي مشروع للحضارة والتنمية الإنسانية. فيختار الله واحدا من عباده, ويؤهله بالإخلاص, ثم يربي به مجموعة من المخلصين كأساس للبناء. كيف يحدث هذا؟
يبدأ الوحي بسورة العَلق (اقرأ) فيفتح الله بها الحديث مع رسوله صلّى الله عليه وسلم, ويضع له أسس الاتصال عن طريق وحي يأتيه فيقرأ, والقراءة هي الجمع والضمّ والفهم والإدراك, وعرّفه بربه الذي خلق, وبمن يستجيب له كيف يعامله, ومن يعاديه, وكيف يتقي شرّه ويعالجه.
ثم في سورة القلم, ثبت الله قلب رسوله وعقله أمام ثقل مسئوليات الوحي, ونفى عنه الجنون, ووعده بالأجر غير الممنون وأعلنه بهدف رسالته الأسمى (وإنك لعلى خلق عظيم) ودعاه إلى الصبر لحكم ربه.
وفي سورة المزمّل, حدد له مواعيد مدارسة القرآن بالليل, ومواعيد العمل بالنهار, وضمّ إلى قيام الليل طائفة من الذين معه تقوم بالقرآن ليلا للمدارسة والتدبّر لما تيسّر منه, ثم تعمل به في النهار.
وفي سورة المدّثّر, علمه الاستعداد للعمل بالعزيمة (قُم) والمواجهة (فأنذر) والأولويات (وربك فكبّر), والمظهر(وثيابك فطهر) والخُلُق(والرجز فاهجر) وحسن المعاملة (ولا تمنن تستكثر) والصبر(ولربك فاصبر), وحذره ممن يتربص به وكان لآيات الله عنيدا.
وفي سورة الفاتحة, سلمه خلاصة الرسالة, وجمع لمقاصد القرآن كله, يبدأ بها كل عمل, ويقسّم له الناس على أساس اتباعهم لله وموقفهم من الصراط المستقيم (صراط الذين أنعمت عليهم, غير المغضوب عليهم, ولا الضالين).
وفي سورة المسد, أبرز له العدو الذي وصل معه إلى نقطة اللا عودة, حتى لا يرهق نفسه في دعوته, أما بقية الناس فبالإمكان دعوتهم, وعلى الله هدايتهم.
وفي سورة التكوير, أعلم الناس بأن ما يظنونه ثوابت من حولهم سيتبدل ويتغير وينهار وينشأ من بعده بعث وسؤال وحساب, ووكلهم إلى أنفسهم ليشهدوا لصاحبهم بعدم الجنون, وأعطاهم الطريق للنجاة لمن شاء منهم أن يستقيم, وما يشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين
وفي سورة الأعلى, عمّق الله لرسوله تنزيه اسم ربه الأعلى الذي خلق فسوى, والذي قدّر فهدى, وبين له انقسام الناس بين من يذّكّر, وبين الأشقى الذي يصلى النار الكبرى, وبين من تزكى, وذكر اسم ربه فصلى, وربط بين رسالات الله (إن هذا لفي الصحف الأولى, صحف إبراهيم وموسى)
وفي سورة الليل, أخذ من آمن خطوة للأمام, فجعل علامة إيمانه أنه (أعطى واتقى, وصدق بالحسنى) وجعل الإخلاص لوجه الله وحده هو الذي يجنب صاحبه النار الكبرى (يؤتي ماله يتزكّى, وما لأحد عنده من نعمة تجزى, إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى, ولسوف يرضى)
وفي سورة الفجر, وسع في العطاء المنتظر من المخلصين ليشمل إكرام اليتيم, والحض على طعام المسكين, ليشمل العمل الصالح الجميع, من يراعي اليتيم ومن يكرمه, ومن يطعم المسكين, ومن يحض على طعامه, وطمأنه بهزيمة أعدائه كما فعل بعاد, وثمود وفرعون ذي الأوتاد, وفي نفس الوقت طمأنه بمصير النفس المطمئنة ترجع إلى ربها راضية مرضية, فيدخلها الله في عباده ويدخلها جنته.
وفي سورة الضحى, عمم الله الأعمال المخلصة لوجهه, فأمر بها رسوله, بادئا بأن الله بكرمه, يؤوي اليتيم, ويهدي الضال, ويغني العائل, وعلى رسول الله ومن تبعه أن يهتدوا بهذا الهدي.
وفي سورة الشرح, أمر الله رسوله والمؤمنين, أن يصبروا, حيث شرح له صدره, ووضع عنه وزره, ورفع له ذكره, فإن مع العسر يسرا, إن مع العسر يسرا, وأمره (فإذا فرغت فانصب, وإلى ربك فارغب)
وفي سورة العصر, جمع الله كل الذين آمنوا وعملوا الصالحات في رباط واحد, فيكونون وحدة واحدة مترابطة ليتواصوا بالحق ويتواصوا بالصبر, ودونهم فالإنسان في خسر.
وفي سورة العاديات, حذّر الله المؤمنين من الإنسان الكنود (وإنه لحب الخير لشديد), موحيا بالاستعداد لملاقاة ذلك الإنسان بالعاديات ضبحا, فالموريات قدحا, فالمغيرات صبحا, وهي من وسائل الحرب والقتال عند الحاجة إلى المواجهة.
وفي سورة الكوثر, أعطى الله رسوله صلّى الله عليه وسلم قلادة الكوثر, بكثرة الأتباع والأصحاب في الدنيا, الذين يجتمعون ويردون حوض الكوثر في الجنة باتباعهم لرسول الله, وأمامها فهو يصّلى لربه وينحر.
وفي التكاثر, حذر الله من الالتهاء بالتكاثر, وذكّر بالمقابر, وبالبعث, والسؤال يومئذ عن النعيم.
وفي سورة الماعون, امتحن الله المؤمنين في هذه المرحلة ليرى مدى فهمهم لحقيقة الإيمان بالدين, بأن جعل الذي يكذب بالدين هو ذلك الذي يدع اليتيم, ولا يحض على طعام المسكين, ولو كان من المصلين. كما نهى عن المراءاة, حيث تتعارض مع الإخلاص الذي هو أساس الدين, وأساس البناء, وتجعل المرائين يمنعون الماعون.
وفي سورة الكافرون, علّم الله رسوله والمؤمنين, بأن تكون شخصياتهم مستقلة فلا يخلطون عقيدتهم بعقيدة الكافرين, ولا يماثلونهم, ولا يأتون إلى حلول وسط فيما يخص العقيدة, ولكن يقولون (لكم دينكم ولي دين)
وفي سورة الفيل, طمأن رسوله والمخلصين معه إلى أنه يهزم عدوا لهم لا قبل لهم به, كما فعل بأصحاب الفيل.
وفي سورة الفلق, علمهم الله الاستعاذة به من شر ما خلق, ومن شر كل ذي شر مخفي لا يُرى حتى لو كان شر غاسق إذا وقب, أو شر النفاثات في العقد, أو شر حاسد إذا حسد.
وفي سورة الناس, علمهم الله الاستعاذة به من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس, من الجنة والناس.
وفي سورة الإخلاص, وصل الله برسوله وبالمؤمنين إلى قمة الإخلاص, فيعلمون أن الله أحد, الله الصمد الذي يقصد في الحاجات, دون حاجة لغيره,
وإلى هنا, فإن المؤمن المتربي على هذه الخطوات, أصبح مؤمنا خالص الإيمان بالله, لا تشوبه شائبة كفر أو شرك أو نفاق أو رياء, ولا يخاف إلا الله, يطمئن لنصرته, ولإعاذته, يؤدي أعمالا صالحة لا يؤديها إلا لله, تشمل حسن معاملة اليتيم, وإكرامه, وإطعام الطعام والحض عليه, وتنقية القلوب والأعمال من الالتهاء بالتكاثر في الدنيا, ويفهم حقيقة الإيمان بالدين والتكذيب به, ويتعلم الارتباط مع إخوانه الذين آمنوا وعملوا الصالحات والتواصي بالحق والتواصي بالصبر, ويتعلم مواجهة أي عدو بالاستعانة بقوة الله وعزته, فهو الذي هزم أصحاب الفيل, وهو ربّ الفلق, وربّ الناس, وهو سبحانه الله أحد, الله الصمد.
يكتمل بذلك بناء الإخلاص والتوحيد والاستعانة والاستعاذة بالله وحده لا شريك له, وأصبح الرعيل الأول من المؤمنين مخلصين لله, رؤيتهم واضحة؛ فالعبادة لله, والطاعة له, والعمل الخالص ابتغاء وجه ربه الأعلى, والاطمئنان والاستقلال بالله (قل هو الله أحد). وهكذا يهدي الله من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
- المشاركة:
ثم بدأ القرآن الكريم في تعليم رسول الله صلّى الله عليه وسلم, وأصحابه المخلصين لله وتابعيهم, كيف يفتحون باب التعاون والمشاركة الجماعية مع بقية الناس حولهم. فهم يدعونهم على اختلاف عقائدهم ومللهم وأحوالهم, لكي يشترك الجميع في البناء الحضاري المزمع إنشاؤه ليستمر بالناس إلى يوم الدين, في خمس عشرة سورة تالية, من النجم إلى القمر حسب نزولها…
ففي سورة النجم, أعلم الله الناس أجمعين أن رسوله صلّى الله عليه وسلم بعث للناس عامة, فتتوجه دعوته إلى عبدة النجوم, ولمن ضل عن سبيله, ولمن اتقى, وللمشركين عبدة اللات والعُزّى, ومناة الثالثة الأخرى, كما تجمع رسالات الله للناس من نوح إلى صحف موسى, وإبراهيم الذي وفّى, ووحد بين كل طوائف الناس أمام الحساب, وأن ليس للإنسان إلا ما سعى, وأن سعيه سوف يرى, ثم يجزاه الجزاء الأوفى, فلم يعد هناك اعتبار لقرابة دم, أو عصبية (هو أعلم بمن اتقى).
وفي سورة عبس, أعطى الله الأولويات التي يجب اعتبارها في دعوة الناس للمشاركة, فمن جاءه يسعى وهو يخشى, أولى ممن استغنى. وأعلم الناس أن المرء إذا جاءت الصاخة يفر من أخيه, وأمه وأبيه, وصاحبته وبنيه, لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه, حتى صار الإيمان بالله هو الاعتبار الأول قبل القرابة والأنساب وأن الناس ينقسمون يومئذ إلى وجوه مسفرة ضاحكة مستبشرة, ووجوه يومئذ عليها غبرة, ترهقها قترة, أولئك هم الكفرة الفجرة, وذلك حسب حالتهم مع الله في الدنيا.
وفي سورة القدر, فتح الله الباب لدخول طوائف جديدة كل عام في ليلة القدر, ليتذوقوا قيام الليل سعيا بالفوز بليلة هي خير من ألف شهر, فينضم بعضهم إلى طائفة من الذين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم, كما أعلنت بذلك الآية الأخيرة من سورة المزّمّل, فيتزايد عدد القائمين الليل لمدارسة القرآن, ليقوموا به في أعمالهم آناء النهار خلقا وسلوكا وقولا وفعلا ونصيحة. فيزداد كل عام عدد المشاركين بإيجابية في المشروع الحضاري.
وفي سورة الشمس, فتح الله باب المسئولية والمسابقة لمن زكّى نفسا سواها الله فألهمها فجورها وتقواها, في حين يخيب من دساها. فيخرج بعض الناس من السلبية, ويعملون على تزكية النفوس ومعالجة فجورها واستثمار تقواها, وضرب مثلا بالموعظة بما حدث لثمود التي اتبعت أشقاها وكذبوا رسولهم فعقروا ناقة الله, فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها, ولا يخاف عقباها.
وفي سورة البروج, أنذر الله وتوعد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات إن لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق, فبطش الله شديد, وهو يبدئ ويعيد, وهو الغفور الودود لمن تاب, فعال لما يريد, ومثّل بما حدث للجنود فرعون وثمود. فيواجه بذلك الذين يعادون الإيمان والمؤمنين والمؤمنات, ويدعوهم للتوبة والاستغفار, لييسر طريق التنمية الحضارية الإنسانية, ويزيل معوقاته.
وفي سورة التين, جمع الله بين أرض التين والزيتون, وبين طور سينين, وبين هذا البلد الأمين مكة, في إشارة إلى وحدة الوحي والكتاب, ودعوة الجميع دعوة مفتوحة, لأن الاعتبار في الإنسان هو للذين آمنوا وعملوا الصالحات, وبأنه سبحانه هو أحكم الحاكمين, أنزل رسالته الخاتمة بعد رسالات سابقة, بحكمته, فلا ينبغي أن يكذب أحد بعد بالدين الواحد.
وفي سورة قريش, دعا الله المشركين إلى إفراد العبادة لرب هذا البيت, الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف, بعد أن هيأ لهم رحلة الشتاء والصيف إيلافا لقلوبهم وأنفسهم, حتى تتوحد أهداف الجميع.
وفي سورة القارعة, ذكر الجميع بالقارعة, يوم يكون الناس كالفراش المبثوث, وتكون الجبال كالعهن المنفوش, وأن المعيار هو ثقل الموازين, ولا تكفي الأعمال التافهة التي تخف موازينها يوم القارعة, ووصف صاحبها بأن أمه واهية, وما أدراك ما هية, نار حامية.
وفي سورة القيامة, أعطى الله أملا للنفس اللوامة, ورد على حيرة من يحسب أن لن يجمع الله عظامه, وأنذر من يريد ليفجر أمامه, يسأل أيان يوم القيامة, فبين أحداث هذا اليوم, وحيرة الإنسان الكافر أو الشاك حين يقول أين المفرّ, حيث لا ينفع ندمه, فينبأ يومئذ بما قدم وأخّر, بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. وبيّن أن الإنسان يتمنى أن يترك سُدى, ولكن الله لن يتركه سدى, وأن الموقف سينقسم يوم القيامة إلى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة, ووجوه يومئذ عليها غبرة, ترهقها قترة, أولئك هم الكفرة الفجرة. فينتج عن ذلك أن يعمل السامع حساب ذلك اليوم, ويلتزم بهداية الله, خوفا من حسابه يوم القيامة.
وفي سورة الهمزة, أنذر الله الذي جمع مالا وعدده, يحسب أن ماله أخلده, بأنه سينبذ في الحطمة, نار الله الموقدة, التي يتحطم عندها كل ما جمعه, إنها عليهم مؤصدة, في عمد ممددة, فيعالج بذلك من يعيش ليجمع المال, لكي يتوجه بالعمل الصالح إلى الله, ويدير المال في طاعته, وبالتالي يشارك أصحاب الأموال بإيجابية ولا يحجبون المال عن الدوران لصالح المجتمع وتعميره وتنميته.
وفي سورة المرسلات, شنّ الله على المكذبين حملة عنيفة منذرهم بالويل, فيقسم لهم بالمرسلات عرفا, فالعاصفات عصفا, فيرون نموذجا من العواصف والأعاصير في حياتهم لتذكرهم ببعض ما سيحدث يوم القيامة, بل بما حدث فعلا لأمم سابقة كذبت, لعل ذلك العذاب الأدنى يرجعهم إلى صوابهم وفطرتهم فيؤمنون بالله ولا يكذبون, وينضمون إلى ركب الحضارة ويشاركون في بنائها.
وفي سورة (ق) ردّ الله على المتشككين في البعث بعد الموت والتحول إلى التراب, بأن عرض لهم صورا من كيفية بعث الله الأرض والزرع والنخل فيحيي به بلدة ميتا, كذلك الخروج, وهز أواصر الصداقة الكافرة التي تجر أصحابها إلى النار, فيتبرأ كل واحد من قرينه, ويختصمان أمام الله, فيقول (لا تختصموا لديّ وقد قدمت إليكم بالوعيد, ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد), في حين أزلفت الجنة للمتقين غير بعيد, وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم بأن يذكر بالقرآن من يخاف وعيده, فيوجه العلاقات الخاصة إلى الإيجابية, فلا يكون مناعا للخير ولا معتديا مريبا.
وفي سورة البلد, أقسم الله بهذا البلد, ورسوله حل بهذا البلد, وأقسم بوالد وما ولد, أنه سبحانه خلق الإنسان في كبد, وأنه قادر عليه, وأعطاه الطريق للنجاة باقتحام العقبة, بفك رقبة, أو إطعام في يوم ذي مسغبة, يتيما ذا مقربة, أو مسكينا ذا متربة, ثم كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة, فأتاح الفرصة لتعديل العلاقات التي كانت قائمة على العصبية, ووالد وما ولد, فجعلها تقوم على أساس العمل الصالح, وإنقاذ الفئات الضعيفة في المجتمع من العبيد واليتامى والمساكين, ليشارك الجميع في النسيج المجتمعي المشترك, وينضموا في العمل الصالح الذي تبنى به الحضارات. والملاحظ أن نوعية العمل الصالح هنا أعلى منها في السور السابقة, حيث يشمل مشاركات أعمق وأكبر.
وفي سورة الطارق, رد الله الناس إلى أصل خلقتهم من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب, ليسوّي بينهم في الأصل, وأنهم جميعا راجعون لربهم, يوم تبلى السرائر, حتى لا تكون الفروق الطبقية بين الناس عائقا لتعاونهم على البر والتقوى.
وفي سورة القمر, حث الله كل من تردد في اتخاذ قراره بالانضمام لركب المؤمنين المتقين السائرين بأمر الله, المسلمين له, فيقودهم باختيارهم لعمارة الأرض بأمره, فحذرهم من اقتراب الساعة وانشقاق القمر, وأنه لم يعد هناك وقت طويل لاتخاذ القرار وتعديل المسار, وإلا فعذاب الله قريب وشديد, وضرب مثلا لما حدث بعد لجوء نوح لربه (أني مغلوب فانتصر) وكيف فعل الله بقومه في لحظات, وبقوم عاد وثمود ولوط وفرعون, وتساءل الله (أكفاركم خير من أولئكم, أم لكم براءة في الزبر), وبشر المتقين بجنات ونهر, (في مقعد صدق عند مليك مقتدر).
إلى هنا, تصل الدعوة إلى كل طوائف المجتمع, عبدة النجوم, وعبدة الأصنام, وأتباع الديانات السابقة, ومن جاء يسعى, ومن استغنى, والمؤمنين المقيمين الليل لمدارسة القرآن, ومن زكّى النفس ومن دساها, والذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات, وأتباع عيسى وأتباع موسى وأهل البلد الأمين, والذين آمنوا وعملوا الصالحات, والمشركين, والمكتفين بالموازين الخفيفة, والمتشككين بأن الله يجمع العظام, والذي يريد أن يفجر أمامه, والهمزة الذي جمع مالا وعدده, والمكذبين, والمتشككين في البعث, وقرناء السوء, وبوالد وما ولد, والعبيد واليتيم والمسكين, والكافرين, والمترددين, والمتقين, وأعلن الجميع أن الاعتبار الوحيد عند الله هو الإيمان والعمل الصالح, الذي يصنع النفس المطمئنة, ولا اعتبار أمام الله لقوة عصبية أو لمال أو لتجمّع وصداقات في الباطل, ولا لنسب دون عمل.
ينتج عن ذلك أن فئات المجتمع حسب التصنيف الإيماني, يقتربون من الإيمان والتقوى, والتسليم لله, والإيمان بالقيامة, والحساب, فيقترب الجميع من الانصهار في نسيج واحد, مطمئنين إلى المساواة وعدم التفاضل إلا بالتقوى والعمل الصالح المخلص لله, تمهيدا لاشتراكهم في بناء المجتمع والسير في منهاج واحد ينظمهم ويسيرهم في صراط الله المستقيم نحو القوة والوحدة والتفاهم والعدالة والحرية من سيطرة أصنام وأموال وعصبيات وقبلية وعادات وديانات متعددة, وقوة غاشمة ظالمة, وكفر وشرك وتردد, وعلاقات فاسدة ضالة مضلة.
- القيادة:
وحين يجتمع الناس في اتجاه هدف واحد, فإنهم يحتاجون إلى قيادة تنظم جمعهم وحركتهم. عندئذ, شرعت آيات القرآن في بناء منظومة القيادة, من سورة ص إلى سورة مريم, جمعت كل السور المبدوءة بفواتح فيها حرف الصاد …
ففي سورة ص, ضرب الله الأمثلة العليا في القيادة على كل مستوياتها, فالقائد الذي أتي من صفوف الجنود, ليتفوق عسكريا, ثم آتاه الله الملك والحكمة والنبوة, وصار ملكا نبيا قائدا, هو داوود عليه السلام, يعلمه الله فنون القيادة بصفته خليفة وحاكما, وكيف أن الجبال والطير يسبحن معه, حيث تنضبط دولته من المَلِك الحاكم إلى المواطنين, فتتناغم جبالها وطيرها معهم. ثم يرثه سليمان, نعم العبد, فيضرب أعلى الأمثلة في القيادة, بإشرافه بنفسه على حال الصافنات الجياد في العشيّ ليطمئن على صلاحيتها للسعي في اليوم التالي, وكيف وهبه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده حين صدقت نيته للعمل القائد لوجه الله, ثم أيوب ممثلا لرجال المال والأعمال, وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ممثلين لأولي الأيدي والأبصار في المجتمع, ثم إسماعيل واليسع وذو الكفل, ممثلين للأخيار, ثم المتقين ممثلين لعامة الناس. ثم يستعرض قيادات الشر وهي تتبرأ ممن تبعها فلا ترغب في اقتحامها للنار معها, وقائدهم إبليس ومن تبعه منهم أجمعين.
وفي سورة الأعراف, ضرب الله مثالا للأمة المستخلفة, واستعرض أساس الاستخلاف في (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم, ولا تتبعوا من دونه أولياء) فلا يتبعونه ويتبعون غيره في نفس الوقت, وإنما إفراد الله بالاتباع والطاعة دون غيره. واستعرضت السورة آفات الأمم السابقة التي أدت إلى هلاكها, من الجهل الأعمى, والكفر والكبر والفجور والإفساد, ثم استعرض عيوب أمة بني إسرائيل تحت حكم فرعون الكافر الطاغية, كممثل لأسوأ قائد في التاريخ يدعي الألوهية ويذبح الأبناء ويستحيي النساء, واستعرض آفاتهم بعد إهلاك فرعون والتشوهات السلوكية الناتجة عن البقاء تحت حكم كافر ظالم جائر لمدد طويلة, ثم يأمر سبحانه بالاستعانة بالله بالدعاء له بأسمائه الحسنى, ثم يعطي تعليماته لرسوله القائد (خذ العفو وأْمُر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) , ثم يؤهل الله المؤمنين لتلقّي هديه سبحانه, والاهتمام به, (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) ويمثل للحال التي يحب جل وعلا أن يكون عليها المؤمنون بحال الملائكة الذين (لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون).
وفي سورة الجن, يبين الله حال الجن مع القرآن ومع نصرة رسول الله, ومع الإنس, وحدود علاقتهم بهم, فالاستعاذة غير مجدية, وإنما تزيدهم رهقا, وفي نفس الوقت هم مهتدون إلى الرشد بالقرآن حين آمنوا به ولم يشركوا بربهم أحدا, ولكن منهم الصالحون ومنهم دون ذلك. وهو بذلك يتسع في استعراض العلاقات مع سائر المخلوقات المكلفة, والمسموح فيها وغير المسموح.
وفي سورة يس, يبين الله كيفية حل مشكلة المقمحين الذين يتوقفون عن الاستجابة لدعوة الله, على الرغم من المحاولات المتعددة المباشرة, وكيف أن الله يحيي القلوب بعد موتها, وذلك باشتراك رجل من الناس ليس بمرسل ولا بنبي, جاء من أقصى المدينة يسعى فيدعوهم بعد توقفهم عن الاستجابة لدعوة ثلاثة من المرسلين, كما يبين المنهاج المتدرج في دعوة أمثال هؤلاء الذين ما أنذر آباؤهم فهم غافلون, من استعراض نعم الله عليهم, وحتى تمثيل موقفهم يوم القيامة حيث جهنم التي كانوا يوعدون. وهو بذلك يعالج حالة من يعاكس القيادة, وليتوقف عن الاستجابة لدعوتها.
وفي سورة الفرقان, يبين الله محددات القيادة في أربعة أركان: الله, الكتاب, الرسول, اليوم الآخر. (تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا), كما يبين سبحانه منهاجه في تنزيل القرآن ليس جملة واحدة,(كذلك لنثبت به فؤادك ونزلناه تنزيلا, ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) وآخذ من ذلك أسلوب مدارسة القرآن حسب الظروف التي نتعرض لها, ونأخذ منه الحق وأحسن تفسيرا, وأخيرا يخرج المتبعون لمنهاج السورة بحالة من الإيمان تجعلهم يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما, والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما, إلى أنهم يسألون الله أن يجعلهم للمتقين إماما.
وفي سورة فاطر, يبين الله كيف يستكمل الخلق والنعم في الدنيا بعد أن فطر السماوات والأرض, فهو جاعل الملائكة رسلا يوحي بهم إلى عباده بكل جديد فيه خير, وعمارة للأرض, فيطور الناس الدنيا بهدي من الله ووحي, ويعلن الله توريث مسئولية الكتاب إلى الذين اصطفى من عباده بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم, فمنهم ظالم لنفسه, ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله, ويقول لهم فيها (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض, فمن كفر فعليه كفره) ويمهل الناس فلا يؤاخذهم بما كسبوا, تاركا لهم الفرصة لإصلاح شأنهم.
وفي سورة مريم, يبين الله للناس كيف يربون أبناءهم ليكونوا ورثة للكتاب من بعدهم, بدءا من ضبط نيتهم في طلب الأولاد, لكي يرثوهم كما طلب زكريا عليه السلام, مرورا بمراحل الصبي (يحيى) والبلوغ للغلام (عيسى) والفتوة (إبراهيم) والشباب(موسى), وبلوغ الأشدّ (إسماعيل), ثم الشيبة المرفوعة مكانا عليا (إدريس), إلى أن يصلوا بأولادهم إلى أنهم إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا. وفي نفس الوقت يستعرض الله في السورة العلاقات الأسرية من أسرة لم ترزق بولد بعد (زكريا), وولد بر بوالديه(يحيى) ثم كيف يعامل الابن أمه برفق وبر, وهي أم دون زوج (عيسى ابن مريم) وولد يعامل أباه الكافر صانع الأصنام الذي يهدده بالرجم (إبراهيم) فيهبه الله أولادا وأحفادا (إسحاق ويعقوب), وأخوين متراحمين (موسى وهارون) وربّ أسرته يأمر أهله بالصلاة والزكاة (إسماعيل) ثم الشيخوخة (إدريس). ثم يعالج كل ما يطرأ على حالهم من تغيرات سلبية في عقيدتهم وسلوكهم, بدءا من إضاعة الصلاة واتباع الشهوات, إلى التشكك في البعث, إلى الضلالة, إلى الكفر, إلى الشرك, ثم إلى التعدّي على ذات الله بنسبة الولد له, تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وهكذا, يتم الله منهاجه للقيادة بكل محدداتها, ومتطلباتها وكوادرها, وعلاقاتها بالناس وبالكائنات الأخرى المكلفة التي أرسل لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم, وكيفية تربية الأولاد على أساس أنهم ورثة للكتاب ولمسئولية رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحمة العالمين والمرسل للناس كافة, فيكملون مسيرته لتشمل كل الناس في كل الأرض في كل الزمان إلى يوم القيامة.
- إدارة الأزمات:
ثم تبدأ مرحلة جديدة من سور القرآن المكي يتعرض فيها الناس لأزمة شديدة تهدد حياتهم بالجوع, وتهدد رسولهم بالقتل, وتهدد دعوته بالحصار وعدم الانتشار, وذلك في ثلاثة أعوام من المقاطعة التامة والحصار لشِعب بني هاشم وشِعب أبي طالب, فتكون درسا للقيادات المتعددة في إدارة الأزمات, من سورة طه إلى سورة القصص, تشمل كل السور المبدوءة بحرف الطاء …
ففي سورة طه, يثبت الله رسوله صلّى الله عليه وسلم أمام شعوره بثقل المسئولية فيأتيه بأشد الحروف (طا) يعقبه أرخاها (ها) (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) فينفي له الشقاء, ويضرب له المثل بأشد ظرف يحدث في التاريخ لطفل رضيع ولأمه, مع أسوأ شخصية في التاريخ, فرعون, (أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم, فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له) وكيف أن الله سبحانه أنقذه بأرخى سلاح, بالمحبة (وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني) ومثال آخر لأسوأ وأشد ما تعرض له بشر في التاريخ, وهم سحرة فرعون (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف, ولأصلبنكم في جذوع النخل, ولتعلمن أينا أشد عذابا, وأبقى) وينقذهم الله بأرخى ردّ (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا, فاقض ما أنت قاض, إنما تقضي هذه الحياة الدنيا), وبين الله معايير السعادة والشقاء في الدنيا, حيث أنه يكفل لعباده الحد اللازم للحياة, كما كفل لآدم في الجنة التي كان فيها (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى, وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحي) ثم يعطينا الله برنامج للرضى (لعلك ترضى), فيقضي بذلك على كل شعور بالشقاء مهما ثقلت الأزمات.
وفي سورة الواقعة, يتوجه القرآن للمتسببين في الأزمة, فيهددهم بالواقعة خافضة رافعة, وأمام حصارهم الذي اضطر معه المؤمنون لأكل أوراق الشجر, يهدد الله (ثم إنكم أيها الضالون المكذبون, لآكلون من شجر من زقوم, فمالئون منه البطون, فشاربون عليه من الحميم, فشاربون شرب الهيم, هذا نزلهم يوم الدين)
وفي سورة الشعراء, يستعرض الله الصعوبات التي واجهت الأنبياء والرسل, بدءا من أشدها إلى أقلها, فكان القصص في السورة مرتبا حسب الصعوبات, وليس حسب التاريخ, فتأتي قصة موسى عليه السلام حيث واجه أشد الصعوبات, التي وصلت إلى (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمغرقون, قال كلا إن معي ربي سيهدين) وتتدرج الصعوبات إلى إبراهيم الذي ألقي فعلا في النار, ونوح الذي هدده قومه بالرجم, مرورا بهود يواجه الكفر, وصالح يواجه الكبر, ولوط يواجه الفجور, وتنتهي بشعيب الذي كانت صعوبته غش قومه في الكيل والميزان والفساد في الأرض. وأمام هذه الصعوبات, فإن الله قد حبا محمدا صلّى الله عليه وسلم بالتيسيرات والظروف السهلة التي على قمتها (وإنه لتنزيل رب العالمين, نزل به الروح الأمين, على قلبك لتكون من المنذرين, بلسان عربي مبين) ثم يعطيه الله في محور ثالث, جدول أعمال متناسب مع ظروف الأزمة والمقاطعة (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين, وأنذر عشيرتك الأقربين, واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين, فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون, وتوكل على العزيز الرحيم, والذي يراك حين تقوم, وتقلبك في الساجدين, إنه هو السميع العليم)
وفي سورة النمل, يستعرض الله دور الأفراد في مواجهة الأزمات, فأمام صعوبات واجهت النمل, تنبري نملة لإنقاذ أمتها (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم, لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) وأمام مسئولية إنقاذ أمة سبأ يؤدي الهدهد دورا, ويعرض عفريت من الجن خدماته, ويأتي الذي عنده علم من الكتاب بعرش ملكة سبأ, حتى يهديها الله بما رأت من جنود الله التي لا قبل لها بها. وعلى الجانب الآخر, وفي محور ثان, يستعرض الله تفاصيل فريدة في قصة صالح, حيث تآمر قومه على قتله, ومكروا مكرا ومكر الله مكرا, فدمرهم الله, وترك مساكنهم آية, ويستعرض الله قدراته ونعمه وتيسيراته التي أعطاها للناس ليقيم حياتهم في راحة وسهولة ويسر
وفي سورة القصص, يستعرض الله كيفية تدبيره ولطفه في القضاء على الطغاة والباغين والمفسدين, من غير حول من الناس ولا قوة, وكيف فعل بفرعون بعد (أن علا في الأرض وجعل أهلها شيعا, يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم, إنه كان من المفسدين) وكيف أن الله حمى رسوله موسى عليه السلام, بمحبة ألقاها في قلب امرأة فرعون, وبشهادة امرأة قالت (يا أبت استأجره, إن خير من استأجرت القوي الأمين) ويؤكد سبحانه أنه بعد كل استعدادات وأداء الأدوار في المجتمع, فإنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء, ويهزم الطغاة وحده. وأوضح كيف أن الله خسف بقارون وبداره الأرض إعلاء لقيمة العمل وإهلاكا للمجرمين الذين لا يسمحون لأحد أن ينتقدهم (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) وطمأن سبحانه وتعالى رسوله والمؤمنين بأنه رادهم إلى معاد, وأنه ناصرهم وحده لا شريك له, بعد أن يؤدي كل منهم دوره في مواجهة الأزمات, من القادة إلى الأفراد, فيأتيهم نصر الله بعد ذلك.
وبالتالي فإن الله سبحانه قد غطى موضوع إدارة الأزمات ومواجهتها, بدءا من ثبات القائد, ومحاربة المتسببين في الأزمة, ثم استعراض أحوال تاريخية أشد وأسوأ بالمقارنة بحالنا, وبالتالي طمأنة الجميع إلى نصر الله, وتوزيع الأدوار على القادة وعلى الأفراد ليشارك الجميع, ثم تتويج كل ذلك في النهاية بنصر الله ووعده الحق.
- الحكمة:
ثم بعد الاجتماع حول القيادة, واختبار القوة في مواجهة الأزمات, يبدأ القرآن المكي في وضع أسس النظام التشريعي, وهو الحكمة, المانعة من الخطأ ومن الجهل ومن الظلم, ومن الكفر, فيتأسس منهاج الحكمة في تسع سور, بدءا من ملخصه في سورة الإسراء, إلى قمته في تطبيق الحكمة منهاجا عمليا وليست مجرد فكرة في العقل, فيلين الله لداوود الحديد, ويسيل لسليمان عين القطر, ويسخر له من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه, وذلك في سورة سبأ.
ففي سورة الإسراء, يلخص الله الحكمة في جملة واحدة: (ألا تتخذوا من دوني وكيلا). وفي المقابل, فالذي لا يسلم أمره لله فيوكله فيه, فإن الشيطان يتسلمه هو فيقوده (قال أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا) فيقوده من الحنك مثل لجام الفرس, فلا يدع له مجالا للحرية وللحركة, إلا بتحريك الشيطان له, ويضرب الله أمثلة من الحكمة ليقاس عليها (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة) وأولها (لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا) وآخرها (ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) وبينهما الحكمة في المعاملات الاجتماعية والأخلاقية والمالية والعلمية, حتى (إن الذين أوتوا العلم من قبله, إذا يتلى عليهم, يخرون للأذقان سجدا, ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا, ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) فيسجد لله الذين أوتوا العلم من قبله, بعد أن يتعرفوا على ما في القرآن من حكمة, لم يصلوا هم إلى جزء يسير منها إلا بعد أن أفنوا أعمارهم وأبحاثهم فيها.
وفي سورة يونس, يعلن الله (ألر, تلك آيات الكتاب الحكيم), فيؤسس قواعد الحكمة على العلم بأن الله يدبّر الأمر لكل ما خلق. (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام, ثم استوى على العرش يدبّر الأمر), حتى يصل بالناس إلى القناعة بأن يقبلوا بعقولهم أن يدبر الله لهم الأمر, فلا يعودون يناقشون ما شرع لهم, وإنما يصلون إلى التسليم التام بما دبر الله لهم, وينتظروا أن يأذن الله لهم فيما أنزل لهم من رزق, فلا يجعلون منه حراما وحلالا, ويعظهم بما كان من الأمم السابقة مع أنبيائهم, فلا تقبل حكمة تحت قهر كما حدث من فرعون حين أدركه الغرق, ولكن يفتح الله رحمته لمن وصل إلى الحكمة قبيل وقوع عذاب الله, كما حدث مع قوم يونس لما آمنوا كشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا, ومتعهم إلى حين, ثم يضع الحكمة ذكرى دائمة (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا, أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين), ويوصي نبيه (قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم, فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه, ومن ضل فإنما يضل عليها, وما أنت عليهم بوكيل)
وفي سورة هود, يبني الله بنيان الحكمة ويفصّله من لدن حكيم خبير, فيبين أن رأس الحكمة (ألا تعبدوا إلا الله) فلا يكتفي الإنسان بالإيمان والتسليم بأن الله يدبر الأمر, وإنما يصل بناء على ذلك إلى التسليم لله, والطاعة له وحده لا شريك له, وذلك عين العبادة وقلب التوحيد, ويبين جل وعلا أن كثيرا من الناس حتى المؤمنين منهم, يعبدون غير الله, إما من جهل حين (يثنون صدورهم ليستخفوا منه), أو حين يسعون في الدنيا, فيجعلون هدف سعيهم تحصيل الرزق, (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها), أو يعملون العمل لغير وجه الله, (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا), أو من يعبد نعمة الله فإن مسه الله منه رحمة ثم نزعها منه إنه ليئوس كفور, ولئن أذاقه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني, أو من ينتظر من رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن ينزل عليه كنز, أو يجيء معه ملك, أو من يريد الحياة الدنيا وزينتها, أو يكون الرهط أعز عليهم من الله, ويضرب الله الأمثال من أنبيائه ورسله حيث لا يسألون على دعوة الله مالا ولا أجرا, وأن الناس الذين وعدوا بجزاء عاجل في الدنيا مقابل إيمانهم بالله, لم يفلحوا, ويظل الهدف الوحيد للعمل وللسعي هو (ألا تعبدوا إلا الله) ويعطي الله الحكمة لرسوله ومن تاب معه (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون عليم, ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار, وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون, وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل, إن الحسنات يذهبن السيئات, ذلك ذكرى للذاكرين, واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)
وفي سورة يوسف, يبين الله (ألر تلك آيات الكتاب المبين) فيبين مثالا لكيفية بناء شخصية حكيمة, تحكم نفسها أمام كل المغريات, وأمام كل الفتن, حتى يمكّن لها الله في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء, فيصلح الله به وبحكمته شأن الناس الذين يبدءون غير مؤمنين, ثم يضع الله منهاج إصلاح المجتمع في الآيات التسع الأخيرة من السورة بدءا بالأمر الواقع في أي مجتمع لا يهتدي بهدي الله (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) إلى أن ينتهي الحال بنصر الله وهديه (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء, ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) واضعا بذلك منهاج صناعة الحكمة في الناس, وتنميتهم بها.
وفي سورة الحجر, يبين الله كيف أن الكفر لا حكمة فيه, فحيث أنه لا إكراه في الدين, فإن من سنن الله في خلقه أن منهم الذين كفروا, فاتخذوا موقفا معاديا لدعاوى الإصلاح. هؤلاء لا يتركهم منهاج الله, فهو يشمل كل الناس على اختلاف عقائدهم وطوائفهم, حيث أنه بتركهم سوف يمثلون إعاقة في سبيل بناء الحضارة ويتسببون في تأخرها وإهلاكها. لذا فإن منهاج الحكمة يشتمل على فقرة خاصة بمعالجة من تنقصهم الحكمة, أو كيفية التعامل معهم, بحيث لا يعيقون مسيرة الحضارة الإنسانية.
ثم تأتي سورة الأنعام ليعالج الله بها الشرك بالله, الذي يؤدي إلى فساد الحضارات والأمم, فكريا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وأمنيا, أو لنقُلْ في كل مظاهر حياتهم. فالذين كفروا بربهم يعدلون, فيلجأون لغيره, أو يشركون غير الله في العقيدة وفي التشريع وفي السلوك, فتفسد عليهم حياتهم. فيبين سبحانه وتعالى أنه ليس من حق أحد أن يتدخل في شأن الإنسان إلا الله سبحانه, فالذي حرم الشرك, يشرّع وحده في كل مجال, ويملك وحده تحديد الحلال والحرام, فيتدخّل في العلاقات الأسرية (وبالوالدين إحسانا), وفي حدود العلاقة مع الأولاد, فلا يقتلون, بسبب الحالة الاقتصادية, كما يتدخل في التصرفات الشخصية فينهى عن الاقتراب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن, وعن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وينهى عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن, ويشرّع في المعاملات التجارية, والوفاء بالكيل والميزان بالقسط, وفي العدل في القول وفي الشهادة, وفي العهود والوفاء بها, وفي السرّ والجهر, وفي الكسب, ويشرّع في الطعام والشراب, ما نأكل وما لا نأكل, وبصفة عامة فإن لله صراطا مستقيما يأمرنا باتباعه وبعدم اتباع السبل الأخرى لغير الله, فتفرق بنا عن سبيله, فإنه شرك بالله. وتخلص السورة إلى أن كل جزئية من الحياة الإنسانية يجب أن تخضع لحكم الله وحده, المتمثل في شريعته, وإلاّ فإن اتباع شرائع غير شريعة الله يعدّ شركا بالله, ويتنافي مع الإسلام والتسليم لله, يشمل ذلك الصلاة والنسك والمحيا والممات كله لله رب العالمين لا شريك له.
وفي سورة الصافات يبين الله أن السلطة الزمنية التي يقلدها بعض الناس, قد تكون عائقا أمام الحكمة, فتأخذه العزّة بالإثم ويستولي عليه الاستكبار, ولا تفلح معه شواهد عقلية, واستعراض لآيات قرآنية, فهو يحتاج إذا إلى من يصفّه للمحاسبة ويزجره ويمنعه عن تجاوز الحدود بشدّة وقوّة, ثم يتلو عليه ذكرا بعقوبات المستكبرين, الذين أوقفوا عقولهم عن التفكير, وأبصارهم عن النظر, وآذانهم عن السمع. وقد يكون الإصرار والاستكبار مبعثه اتباع الآباء والأهل, أو الحرج منهم كما حدث من بعض العشيرة الأقربين للنبي صلّى الله عليه وسلم. وقد يكون تناصر بين أقوياء وضعفاء, أو بين رؤساء ومرءوسين, أو متبوعين وتابعين, يظن كل واحد منهم أنه يحتمي بالجماعة والصحبة, ويأمن بها ويطمئن. وكل ذلك يحتاج إلى معالجات خاصة, وفيما رُوِي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله ملوك حضرموت عند قدومهم عليه أن يقرأ عليهم شيئاً مما أنزل الله قرأ “والصافات صفا”. وذلك يتناسب مع ملوك قد يحجبهم وضعهم وسط قومهم إلى الاستكبار عن التسليم لله, وعن طاعته فيما يأمر, وقد يمنعهم أنهم كبراء في قومهم ووسط أهليهم, فيتناسب معهم منهاج سورة الصافات في الزجر واستعراض أحوال أمثالهم, فيردهم إلى الحكمة.
وفي سورة لقمان, يبين الله آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين, وكيف يتصرف من آتاه الله الحكمة مع ابنه وهو يعظه, فيصل به إلى شخصية حكيمة, فلا يشرك بالله, ويحسن إلى والديه دون أن ينساق معهما إن جاهداه على أن يشرك, ويعلم قدرات الله اللطيف الخبير, ويقيم الصلاة ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر, ويصبر على ما أصابه, ولا يصعر خده للناس, ولا يمشي في الأرض مرحا, ويقصد في مشيه ويغضض من صوته, فيكون حكيما في كل سلوكه.
وفي سورة سبأ يؤكد الله على أن الحكمة لا تقعد صاحبها في برج عاجي بعيدا عن ممارسة الحياة, ولكنه يضرب مثلا بنبيه داوود, وسليمان, وكيف تحولت الحكمة عندهما إلى طاقة عمل يستثمران بها نعم الله, فيلين الله لداوود الحديد, ويصنع منه ما يصنع, ويسيل لسليمان عين القطر, ومن الجن من يعمل بين يديه بأمر ربه, فيعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات, ويعملون شكرا لله على نعمه, كما ضرب مثالا سيئا لمن آتاه الله نعمه فكفر بها وقعد عن استثمارها, فأذهبها الله عنه, بعد أن صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه.
وإلى هنا, وتكتمل منظومة الحكمة بخلاصتها (ألا تتخذوا من دوني وكيلا) وقواعدها أن الله يدبر الأمر, وأن الحكمة لا تكون تحت قهر, بل بالاختيار الحرّ والإقناع, وبتفصيلها بإفراد الله بالعبادة ونبذ كل مظاهر عبادة غير الله لأي سبب يخالف طاعته وحده لا شريك له, ثم كيفية بناء الحكماء, والتمكين لهم, ثم بمعالجة الكفر والشرك كعوائق للحكمة, ثم تنزيل الحكمة من الحكماء للأجيال التالية لهم, ثم حركة الحكمة في الدنيا, التي يجعل الله بها الدنيا كلها تسبح مع الحكماء, فتخرج الجبال ثرواتها, والأرض خيراتها, حتى الطير يشارك في النماء, وعلى الجانب الآخر يبدّل الله نعمته على السفهاء الكافرين بنعمة الله, بما صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه.
- فصل الخطاب
المراحل السابقة أوصلت إلى مجموعة عمل مخلصة, أنشأت جسورا للتعاون والمشاركة مع كل طوائف الناس بالمجتمع, نشأت لها قيادة شدّت المُلك فلا فوضى, اختبرت بتعرضها للأزمات وإدارتها, ثم أسست للحكمة كأساس للتشريع المانع من الخطأ والظلم والكفر والذنب.
وفي مرحلة فصل الخطاب, يتم وضع منهاج الفصل في الأمور المختلف فيها بين الناس, وإلزامهم بالنظام والمنهاج, ومنع المتعدّي منهم والمتجاوز عن إفساد ما يتم بناؤه, بأن يقدّم إلى السلطة القضائية, أو للتحكيم واتخاذ القرار من بعض العقلاء وأهل الثقة فيفصل في الأمور ولا تترك معلّقة دون حسم, وتشمل السور من الزمر إلى الأحقاف بترتيب النزول, وبترتيب المصحف, وتتميز فواتحها بالحرفين حا ميم, عدا فاتحتها ومقدمتها في سورة الزمر. وفصل الخطاب يعتمد أساسا على الحسم. فلو أتى الخصمان للقاضي أو للحكم, فإنهما يكونان قد وصلا إلى نهاية محاولات التفاهم والحل, وهما يتوقعان في القاضي الحسم في المسألة بإخلاص لله, ولا ينبغي أن يروح الخصمان دون فصل في أمرهم.
وفي السور الثمانية تسلسل لفصل الخطاب,
فسورة الزمر تدعو الناس إلى أن يتفقوا على مادة التحكيم, وهي الاتفاق على مبدأ التحكيم, وعلى الحكَم الذي سيلجئون إليه في حالة حدوث اختلاف, فهي (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)) ولا ينبغي للناس أن يشركوا في فصل أمورهم أحدا مع الله, ولكن الإخلاص التام لله (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ), فالله هو الذي يحكم بين العباد (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)) وهو سبحانه وتعالى (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ولكن الناس ما قدروه حق قدره (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)). وفي النهاية فإن الجميع موقوفون أمام الله للتحكيم النهائي: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ, ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
.. ثم في سورة غافر يضع الله قواعد المرافعة, وهي المجادلة التي تحدث من كل خصم لإثبات وجهة نظره. وفي مطلع السورة يحذر الله من تجاوز الحق ((حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)) ويبين سبحانه أنه (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)) ويحذر من المجادلة بالباطل كما جادل قوم نوح فأكثروا الجدال (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)) وحذر من المجادلة بغير سلطان: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا), ومن المجادلة بالكبر (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ), وبين مصير المجادلين في آيات الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ويضرب الله المثل في السورة لمرافعة مثالية لمؤمن آل فرعون
وفي سورة فصّلت, بين الله مسئولية تفصيل الأدلة والقرائن والشهود, ويبدأ الله بنفسه سبحانه وهو الغني الذي لا يُسأل عما يفعل, فيقدم القرائن والأدلة على وجوده وألوهيته: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)) ويتكرر في السورة أكثر تكرار للفظ الشهادة والشهود في القرآن, (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)) ويوم القيامة لا يجد المشركون شهيدا يعتمدون عليه:(وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)) وفي النهاية فإن الله على كل شيء شهيد ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
وفي سورة الشورى, يبين الله منصة الحكم وتوصيف مسئولياتها, بين الادعاء بالحق الذي له القوة الغالبة, مع الحكمة المانعة من الخطأ والظلم (حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)) وهو جلّ وعلا يحكم من مقام الملك والعلوّ والعظمة (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)) وفي نفس الوقت, فهو يسمح بطلب الرحمة والشفاعة لمن يستحقها, فيغفر ويرحم: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)) ويسمّي يوم القيامة هنا بيوم الجمع, حيث يتم الفصل النهائي بين الناس (..وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7), وهو يحكم فيما اختلف فيه الناس (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ(10) وهو سبحانه (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ), وأمر بالدعوة لشريعته والاستقامة عليها, وعدم اتباع الأهواء, وبالإيمان بكل ما أنزل الله من كتاب, وإقامة العدل بين الناس: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15), وقد أنزل سبحانه الكتاب الذي جاء بالحق وأنزل الميزان الذي به يفصل الناس في الأمور بالحق (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)) ويكون الأمر بين أعضاء المنصة بالشورى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38))
وصلنا إلى منصّة القضاء, وهي قمة الفصل في النزاعات. فماذا بعد!
إن الخطورة الآن, أن يضع القاضي اعتبارات أخرى غير العدل والحق في حُكمه, فيضيع كل البناء السابق, ولا يجد الناس مخرجا بعد أن وصلوا إلى قمة اللجوء لعدالة القضاء.
هنا تأتي سورة الزخرف, ليحذر الله من ذلك, وليؤكد على أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه, وأن صاحب الحق لابد أن يحكم له, وأن يمكّن من حقه, مهما كان نسبه, ومهما كانت حالته الاجتماعية, ومهما بلغ ثراؤه أو قوته, أو مركزه السياسي. فالله لا يضرب عن المسرفين الذكر صفحا بسبب إسرافهم, كما أنه لا وزن عنده لأشد الناس بطشا إن استحقوا العذاب (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)) ولا مفاضلة لأحد بسبب ما يملك في الدنيا, فالملك كله لله, ولا مفاضلة بسبب نسب أو رحم, فإبراهيم تبرأ من قومه لكفرهم (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)), ولا مراعاة للعظماء من الناس لعظمتهم, ولكن الاعتبار بحمل الحق حتى ولو حمله أضعف الناس: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ..) ولا مراعاة لأكثر الناس ثراء, فإن الله كان يمكن أن يخص بالثراء من يكفر بالرحمن: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35), ولا اعتبار لكثرة لو كانت على الباطل: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) , وضرب أمثلة لاعتبارات واهية لا تزن شيئا أمام الحق, ففرعون يظن أنه لكونه له ملك مصر, فإنه يفضل موسى الذي سماه (مهين ولا يكاد يبين) وعيسى عليه السلام يحمل الحق, فلا يضيره أنه ابن امرأة بغير أب, ولا اعتداد بالأخلاء يوم القيامة, فسيكون بعضهم لبعض عدو إلا المتقين,
إن الذي لم يتجاوب مع كل ما سبق, بل خالفه وعارضه, فإن الله سبحانه يحذّره من ذلك في سورة الدخان, فيعالج من يكفرون بالله حكما بذكر أهوال يوم القيامة (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6). ويسمّي الله اليوم الآخر بيوم الفصل (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
.. وفي سورة الجاثية يعالج من يبطلون أحكام الله وآياته من بعد ما جاءتهم, فيعطّلون منهاج فصل الخطاب, حين يسمعون آيات الله تتلى عليهم يصرون باستكبار كأنهم لم يسمعوها, وإذا علموا منها شيئا اتخذوها هزوا. إن من مشكلات النظام القانوني والقضائي في بلد من البلاد, ليست نقص القوانين واللوائح المنظمة, ولكن إبطال تطبيق النظام هو العلّة الأساسية, والفساد الحادث في الأمم بسبب عدم اتباع النظام والمنهاج, والكيل بمكيالين فيها, أي بإبطال القوانين والشرائع. وضرب الله مثلا ببني إسرائيل, الذين آتاهم الله كل شيء يمكنهم من الحياة بمنهاج الله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ولكنهم عطلوا استغلال الآيات والشريعة التي منّ الله عليهم بها, فلم يكونوا كما أراد الله لهم حملة لرسالته إلى الناس. ثم بين الله ما هو المطلوب من أمّة الإسلام تجاه الشريعة, باتباعها وعدم اتباع أهواء الذين لا يعلمون: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18). وليدفع الله الناس لتطبيق منهاجه في الشريعة وفي فصل الخطاب بها, وبعدم إبطالها أو اللجوء إلى غيرها, فإنه بين سبحانه أن له ملك السماوات والأرض, ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وتكون هذه مسئولية جماعية للأمة أن أبطلت عمل الشريعة والمنهاج: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
وفي الأحقاف يعالج من يدعون من دون الله شركاء في الحكم, أي يريدون أن يأخذوا شريعتهم من الله, ومن غير الله.. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6). وقصص الأمم السابقة والحالية التي يهلكها الله تدعو للرجوع إليه وإلى منهاجه, وعدم اتخاذ مناهج من غيره, حيث كان سبب إهلاكهم هو الشرك: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
إلى هنا, ويكتمل منهاج فصل الخطاب, بالاتفاق على التحكيم وعلى الحَكَم, وإرساء قواعد المجادلة, وتفصيل القرائن والشهود, ثم منصة الحكم, ورفض الاعتبارات الوهمية وإعلاء الحق مهما كان صاحبه, ثم معالجة الكافرين بالنظام, والمبطلين له, والمشركين فيه أحدا غير الله.
- منظومة العمل
بعد استكمال المنظومات الستة في بناء الحضارة الإنسانية, فإن العمل والسعي يمكن أن ينطلق في أمان ونظام وحرية. غير أنه يحتاج أيضا إلى منهاج لتنظيم السعي وترتيب العمل, والاتفاق على أهدافه, وأسس المحاسبة عليه, ومعايير نجاحه وفشله, ونماذج لكل حالة.
والسور من الذاريات إلى نوح تمثل هذا المنهاج..
ففي سورة الذاريات تحديد للأهداف التي يجب أن يعمل الناس من أجلها, فالمشهور بين الناس أن السعي إنما يكون طلبا للرزق, ولكن الله يؤكد أنه كافل الرزق للناس بدءا من إرسال الرياح التي تذرو الحبوب, لتحمل السحاب المحمّل بالماء وقرا, فتجري به الريح يسرا, ثم تقسّم الملائكة بأمر الله أرزاق الناس ((وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)) فقد وعد الله بأن يرزق كل دابة في الأرض, وصدق وعد الله, كما وعد بأن يحاسب الناس على أعمالها, وصدق وعد الله. فلا يجب أن يستهدف العاملون والساعون الرزق من وراء سعيهم, ولكنه سيأتيهم كنتيجة طبيعية وكسبب من الأسباب المتعددة للرزق, وثمرة من ثماره, وليس هدفا (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) وبالتالي فإن الناس يجب أن يتوجهوا بأعمالهم إلى عبادة الله وطاعته فقط, وهذا هو سبب خلقهم (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
وفي سورة الغاشية, بيان لنتائج الأعمال وتصنيف لها بين الفشل والنجاح, فيوم القيامة ينقسم الناس في نتائج أعمالهم إلى قسمين: عمل ونصَب يؤدي إلى النار, وعمل وسعي مرضٍ يؤدي إلى النعيم والجنة. (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)) فإما بالذل والخشوع بعد العمل الشاق, وإما بالرضى, (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)) ناس يعملون كثيرا ويتعبون, ولكنهم يأتون بوجوه ذليلة يوم الغاشية. فعملهم ليس إخلاصا لله, وليس عبادة له. وليس هذا هو العمل المطلوب. و(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)) عملوا إخلاصا لله, أعمالا صالحة.
وفي سورة الكهف, بيان لمعايير النجاح والفشل ونماذجها, ومعنى العمل المقبول. فالله أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا, وكل كتاب غيره له عوج. والكتاب قيّم يقاس عليه بقية الكتب والآراء والأعمال, ولا يقاس هو على كتب أخرى, والكتاب يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا, ماكثين فيه أبدا. وأما المؤمنون الذين لا يعملون الصالحات, فلا وزن لهم في الدنيا ونومهم وموتهم, كحياتهم بدون عمل الصالحات, كما أن الذين يعملون الصالحات بدون إيمان, تحصد نتائج أعمالهم إهلاكا, وأما المؤمنون الذين يعملون الصالحات فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا, بل يؤتيهم من كل شيء سببا, فيتبعون سببا, وأما تعريف الصالحات من الأعمال, فإنما هي الأعمال التي تكون عن أمر الله, حتى ولو بدت غريبة على العقل غير مقبولة من المنطق, كخرق سفينة, أو قتل نفس بغير نفس, أو إقامة جدار في قرية لا تكرم ضيفا ولا تحفظ أجر العاملين, فإن كان كل ذلك عن أمر الله, ففيه الحكمة كلها, وفيه الصالحات كلها, وفي النهاية فإن الأخسرين أعمالا هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا, وأما من كان يرجو لقاء ربه, فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.
وفي سورة النحل, أوامر العمل والمشروعات التي تبنى بها الحضارات وتعمّر بها الأرض, ويجعل الله للناس فيها معايش. فتنتج ثمار الحضارة وزينتها وزخارف الأرض. فيعدد الله في السورة أصناف العمل ومجالاته الواسعة التي ينزّل أفكارها وإيحاءاتها بواسطة الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده.
وفي سورة نوح, استعراض لأفشل وأضل قوم في التاريخ, وما عرض عليهم من جوائز وحوافز للعمل فلم يعتدّوا بها, رغم كل الوسائل والزمن الذي عرضه نوح عليه السلام عليهم, ولكن الجزاء المطروح عليهم مقابل أعمالهم الصالحة واستغفارهم كان مطرا من السماء, وإمداد بأموال وبنين, وجنات وأنهارا, فما نتج عن ذلك إلا قوما يورث الجد أحفاده كفرا وعداء لنبي الله ودعوته, حتى دعا عليهم نوح ألا يذر الله على الأرض من الكافرين ديّارا, ولم يتوقع أن يلدوا إلا فاجرا كفارا, وما آمن معه ألا قليل.
وفي نهاية هذه المرحلة من بناء الحضارة, فإن الله بين أهداف السعي والعمل, ونتائجه بين يدي الله, وعرّف المقبول منه وغير المقبول, ووضح مجالاته, وأسباب نجاحه, وأسباب فشله.
- منهاج إخراج الناس من الظلمات إلى النور
في منهاج القرآن لبناء الحضارة الإنسانية, أتم الله القواعد والأركان السبعة, التي بدأت بالإخلاص والإمامة, ثم المشاركة, فالقيادة والإدارة, فإدارة الأزمات, فالحكمة والسلطة التشريعية, ثم فصل الخطاب والسلطة القضائية, ثم السعي والعمل وذلك في إحدى وسبعين سورة بترتيب مناسبات النزول, من سورة العلق (اقرأ) إلى سورة نوح.
فماذا بعد ذلك؟ ماذا بعد البناء الداخلي لنواة الأمة ومنظوماتها؟
لقد أعقب ذلك مرحلة الانتشار بحضارة القرآن إلى الناس, كل الناس, في الأرض, كل الأرض, وفي الزمان, كل الزمان. فحضارة القرآن للناس أجمعين وليست إلى قوم دون قوم, أو لزمن معيّن دون زمن. وهذه مسئولية المسلمين ورثة الكتاب, فهم لا يكتفون بالاهتداء إلى رسالة الله, والحياة بها وحدهم, ولكنهم مسئولون أفرادا وجماعات ودولا عن تبليغها إلى الناس أجمعين, وعن أن يشاركهم الناس في نعمة الحياة بها, بعيدا عن ظلمات الضلال والكفر والفسق والفجور, ثم بعد ذلك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
إن الدعوة للناس عامة تحتاج إلى فريق عمل, وإلى منهجية تتناسب مع اختلاف الظروف في البلاد المتنوعة, واختلاف ردود أفعال الناس في تلك البلاد. كما تعتمد على إثبات الغيب البعيد بعد الموت, والغيب الماضي في الأمم السابقة للموعظة.
وحيث أنه لا رسل ولا أنبياء بعد رسول الله محمّد صلّى الله عليه وسلم؛ فإن المسلمين هم الآن حملة رسالة الله إلى الناس, وهم رسل رسول الله إلى العالمين. وهذه مسئولية لا يتحملها أحد من الناس ولا أمة من الأمم إلا المسلمين, بتكليف من الله, في زمان قوّتهم, وفي زمان ضعفهم, في أي موضع كانوا وفي أي زمان كانوا, وعلى أي حال كانوا, أي أن كل فرد من المسلمين عليه مسئولية تبليغ هَدْي رسول الله, وبيان ما نُزِّل إليهم من ربّهم إلى من يستطيع من الناس, بمتوسط حوالي أربعة أفراد غير مسلمين في عنق ومسئولية كل فرد مسلم, يحملها من يحملها, ويقصّر عنها من يقصّر.
والهدف الذي تسعى حضارة القرآن لتحقيقه في الدنيا, هو نصر الله, أي أن يظهر دين الله على الدين كلّه, والفتح, أي أن تُفتح لدين الله أبواب البلاد, والناس يدخلون في دين الله أفواجا. أي أن تُفتح لدين الله قلوب الناس, ولا يتأتّى ذلك إلا بالخروج بالدعوة إلى الناس أجمعين. لإخراجهم من الظلمات إلى النور, بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد, ومن هنا أنزل الله كتابا لرسوله صلى الله عليه وسلم افتتحه بسورة إبراهيم, ومن هنا, فقد أنزل الله السور الأخيرة من العهد المكّي, لبيان كيفية التحرك بمنهاج الحضارة الإنسانية لكي تعمّ فائدتها الناس كلهم جميعا, والعالمين في كل مكان وزمان.
وهذا الكتاب يشمل سورة إبراهيم, ثم الأنبياء, ثم المؤمنون, ثم السجدة, ثم الطور, ثم الملك ثم الحاقة ثم المعارج, ثم النبأ, ثم النازعات, ثم الانفطار, ثم الانشقاق, ثم الروم, ثم العنكبوت, ثم المطففين, وهي آخر القرآن المكّي, وكل سورة منها تمثل خطوة على طريق إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد…
ففي سورة إبراهيم بين الله سبحانه منهاج إعداد فريق العمل قبل الذهاب إلى الناس لدعوتهم, مثلما أعد موسى عليه السلام بني إسرائيل, يبدأ بقاعدة أساسية للتحرك العالمي والتواصل مع ناس لهم لغات مختلفة ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)) والنموذج الأول هو نموذج موسى عليه السلام حيث أرسله الله بآياته ليخرج قومه من الظلمات إلى النور شكرا لله على نعمته عليهم, مقابل ما أنجاهم من آل فرعون, وميزهم بحمل رسالته (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) ويعطيهم الله خبرات ما حدث للرسل من قبلهم, وكيف أن الله نصرهم وأهلك الظالمين وأسكنهم الأرض من بعدهم. كما يعظهم الله جمهورهم الذي يدعونه بما يحدث يوم القيامة من تبرؤ الذين اتُّبِعوا من الذين اتبعوا, وتبرؤ الشيطان ممن اتبعوه, حتى لا يترك مجالا لتكتلات الناس على الباطل, واتباعهم للشيطان. ثم يبين الله كيف يتحرك الفرد من فريق العمل, كما تحرك إبراهيم عليه السلام في إقليم جغرافي شمل العراق والشام ومصر وجزيرة العرب؛ فيسكن من ذريته بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم, ويتجنب عبادة الأصنام, ويقيم الصلاة هو وذريته ليجتمع الناس من حولهم, ويسأل الله أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم, ويسأل الله أن تكمل ذريته المسيرة (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء) ويستغفر الله لنفسه ولوالديه والمؤمنين يوم يقوم الحساب, ويختتم الله (هذا بلاغ للناس, ولينذروا به, وليعلموا أنما هو إله واحد, وليذّكّر أولو الألباب)
وفي سورة الأنبياء يبين الله سبحانه منهاج دعوة المعرضين الذين لا يستجيبون لدعوة الله, فيتناول أسبابا أربعة للإعراض, وعلاج كل سبب منها, كما شمل كيفية حركة الدعاة إلى الله في أرض غير مسلمة في مواجهة كل الظروف والاحتمالات التي قد يلاقونها, في ترتيب للأنبياء يتناسب مع تدرج حركة الدعاة؛ فتستعرض السورة في المقطع الثاني منها الوسائل التي أعان الله بها كل نبي من أنبيائه ورسله, كل حسب حاجته وظروفه. وقد أعان رسوله بكل هذه المعونات, ونسأله سبحانه أن يعين المخلصين من الأمة الذين يحملون مسئولية ميراث الكتاب إلى يوم القيامة.
ثم إذا دخل بعض الناس في حظيرة الإيمان, فآمنوا بالله ورسوله وكتابه, يضع الله لهم منهاجا للترقية في سورة المؤمنون, ينقلهم إلى الخشوع في الصلاة والإعراض عن اللغو, وفعل للزكاة وحفظ للفروج, وحفظ للأمانات والعهد, ومحافظة على الصلوات. كما رقّى خَلْقهم من سلالة من طين إلى خلق آخر فتبارك الله أحسن الخالقين, وقد كفل لهم الرزق والأكل والشراب بكل أنواعه من نبات ولحم ولبن, يستوي في ذلك أنبياء الله مع الناس, فلا ينشغلون إلا بواجبهم تجاه دعوة الله, وسعيهم لنشر دينه, والعمل على تقوية عباده وقضاء حوائجهم.
وفي سورة السجدة ينزّل الله الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين, وهو الحق لينذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون, ويأخذهم سبحانه إلى ترقية أعلى للمؤمنين إلى مستوى (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكّروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون), كما رقّى خَلْقهم من بدء خلق الإنسان من طين, إلى (ثم سواه ونفخ فيه من روحه, وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) فهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه. وهو مستوى في الخَلْق وفي الخُلُق أرقى من المستوى المذكور في سورة المؤمنون. وفي نفس الوقت يشير إلى منهاج الله في معالجة من استمروا على كفرهم وتكذيبهم بعد سوق كل الحجج العقلية والبراهين, (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون), فلئن يروا العذاب الأدنى في الدنيا, فيتعظون به, ويصدقون ما يرويه الله لهم عن العذاب الأكبر يوم القيامة, فإن هذا من رحمة الله بهم, لعلهم يرجعون.
ومن هنا يبدأ استعراض صور من العذاب الأدنى والعذاب الأكبر كرادع لمن لم تسعفهم أحلامهم بالتصديق بكلام الله, وذلك على ثلاث مستويات من الاستعراض:
فتستعرض في المستوى الأول صورا من عذاب الآخرة, وهو غيب لم يحدث بعد,
وتستعرض في المستوى الثاني صورا من العذاب الذي أصاب أمما سابقة فأهلكهم الله, وهو ماض يستدل عليه بالآثار وبالأخبار, وبرواية الله عنهم في كتابه,
وتستعرض في المستوى الثالث صورا من عذاب الله, الذي يصيب كل حين أمما في الأرض, فيشاهده الناس بأعينهم في كل جيل لعلهم يرجعون.
فتتحدث سورة الطور عن عذاب واقع ما له من دافع, حيث الأمواج الزلزالية التي تحدث في المحيطات, فلا تصيب أحدا في البحر, ولكنها لا تقع إلا على البرّ, فتجعله جحيما ما له من دافع, يهلك الله به من يهلك, وتجعل الناس لا يركنون إلا إلى البرّ الرحيم سبحانه وتعالى؛ فيرون أن كلام الله ووعيده حق يبصره الناس بأعينهم في كل عصر وزمان, وليس سحرا, ولا ينقذ منه إلا المتقين, حيث كانوا قبل في أهلهم مشفقين, فمن الله عليهم ووقاهم عذاب السموم.
وفي سورة الملك, بين الله أن الطبيعة إنما يحركها الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير, خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا, وكما خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت, وكما جعل الأرض ذلولا لنمشي في مناكبها ونأكل من رزقه, فإنه جلّ وعلا لا يؤمَن أن يخسف بنا الأرض فإذا هي تمور, أو يرسل علينا حاصبا, أو يهلك أو يرحم, ولا أحد يجير الكافرين من عذاب أليم, ولا يوجد من ينصرنا من دون الرحمان, ولا من يرزقنا إن أمسك رزقه, ولا من يأتينا بماء معين إن أصبح ماؤنا غورا.
ثم في سورة الحاقة, يبين ما فعله الله بالمكذبين من الأمم السابقة, ليجعلها الله لنا تذكرة وتعيها أذن واعية, وتكون سببا للتصديق بما يحدث من أهوال القيامة, من العذاب الأكبر, لعل الناس يرجعون, فيقسم الله بما تبصرون من أهوال حادثة أمام أعيننا, وما لا تبصرون من أهوال حدثت في الأمم قبلنا فلم نبصرها, أو أهوال ستحدث يوم القيامة لم نبصرها بعد, يقسم على إنه لقول رسول كريم, وعلى أنه تنزيل من رب العالمين.
وفي سورة المعارج يرد الله على سؤال سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع, بعد أن قص في سورة الطور مثالا لهذا العذاب الذي ما له من دافع, ويبين كيفية الإنقاذ من هذا العذاب, سواء كان في الدنيا, أو في الآخرة, حيث خلق الإنسان هلوعا, إلا المصلين بصفاتهم المكتسبة من إيمانهم وصلاتهم, والتي تأخذ بيدهم خطوة أعلى من تلك التي في سورة المؤمنون, وفي سورة السجدة, فتترقى بهم الصلاة إلى جعل حق معلوم للسائل والمحروم, والتصديق بيوم الدين, والإشفاق من عذاب ربهم, وحفظ الأمانات , والقيام بالشهادات, والحفاظ على الصلاة وآثارها وثمارها.
وفي سورة النبأ, يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون, فيرد الله على تساؤلاتهم, مبينا أهوال هذا النبأ العظيم, يوم القيامة حيث (إن جهنم كانت مرصادا * للطاغين مآبا * لابثين فيها أحقابا), وحيث (إن للمتقين مفازا * حدائق وأعنابا), ويدعو من شاء من عقلاء الناس (ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا).
وفي سورة النازعات يبين الله سبحانه ظاهرة أخرى من أهوال الدنيا تدلل عيانا على أهوال يوم القيامة, كالزلزال, يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة, ويبين مصير فرعون بعد أن ناداه موسى هاديا إلى ربه (فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى, فقال أنا ربكم الأعلى, فأخذه الله نكال الآخرة والأولى, إن في ذلك لعبرة لمن يخشى), حتى يصل المستمع إلى أنه عليه أن يستجيب لداعي الله حين يرى الآية الكبرى في الدنيا, قبل أن يهلكه الله, وينذر سبحانه بالطامة الكبرى (يوم يتذكر الإنسان ما سعى, وبرزت الجحيم لمن يرى).
وفي سورة الانفطار, يبين الله أنه (إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجّرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت), ويرى الناس انفجارات البراكين في البحار, فالمسألة ليست ظواهر طبيعية دون حكمة, أو إهلاك للناس لمجرد الإهلاك, ولكن هذه الظواهر يذيقهم الله فيها من العذاب الأدنى، دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون, وبالتالي فإن الناس محاسبون على ما قدموا وأخروا. (علمت نفس ما قدمت وأخرت), لا ينبغي أن يغتروا بربهم الكريم.
وفي سورة الانشقاق, يبين الله بعضا من أهوال العذاب الأكبر, (إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحُقًّت , وإذا الأرض مُدّت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحُقت), كما تلقي الأرض ما فيها أمام أعين الناس أثناء ثورات البراكين, فإن الإنسان الكادح فيها كدحا, هو ملاق ربه فإما أن يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا, وإما أن يحاسب حسابا عسيرا, فيدعو ثبورا ويصلى سعيرا, بعد أن ألقت الأرض ما فيها وتخلت عما كان الإنسان يحصّله, حين كان في أهله مسرورا وظن أن لن يحور. ينتج عن كل ذلك أن يؤمن من الناس من شاء الله له أن يؤمن, ويسجد لله مستسلما خاشعا خاضعا له سبحانه. ويصل من يعي هذا المنهاج بخطواته, إلى أن يسجد لله إذا قرئ عليه القرآن.
ثم في سورة الروم, يخبر الله بغيب قريب يبدو مستحيلا, فيحدث في حياة الجيل الموجود, وهو غلبة الروم على الفرس بعد أن غلبهم الفرس ودحروهم, حتى لم يكن هناك نبوءة أبعد تصديقا من تلك التي نبأ بها القرآن في بضع سنين, ليثبت الله للناس أنه إن أخبر بغيب فلا مجال إلا أن يصدقوه, خاصة ما يحدث في الآخرة, ثم يبين الله أنه ناصر للمؤمنين ولو بعد حين, ومهما غلب الكافرون في مرحلة من مراحل الصراع, (لله الأمر من قبل ومن بعد, ويومئذ يفرح المؤمنون* بنصر الله, ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) ويدعو سبحانه رسوله والدعاة من بعده إلى الصبر حتى يأتي وعد الله (فاصبر إن وعد الله حق, ولا يستخفّنك الذين لا يوقنون)
ويبين الله سبحانه في سورة العنكبوت تعليلا للإصابات التي يصاب بها المؤمنون, لترقية الذين قالوا آمنا, وسجدوا لله تتجافى جنوبهم عن المضاجع, فلا يكتفى منهم بذلك, ولكن الله يفتنهم فيفرز كل الذين قالوا آمنا بأفواههم وظنوا أن لا أحد سيراجعهم في ادعائهم هذا, ولكنه سبحانه يفتنهم ليعلم الذين صدقوا ويعلم المكذبين, وليخرج منهم من عمل السيئات, ومن يجاهد, ومن يدخل في الصالحين, وليعلم الذين آمنوا ويعلم المنافقين, ومن يتأثر بضغوط أسرته, أو بفتنة الناس فيجعلها كعذاب الله, أو يستجيب لإغراءات الذين كفروا الذين قالوا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم, وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء. ويستعرض الله صبر رسله وأنبيائه على الفتن, ويبين لهم ما فعله جلّ وعلا بأمم سابقة, (فكلا أخذنا بذنبه, فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا, ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا) فإذا طلب المكذبون أن ينزل الله عليهم آيات مثلها, قال لهم الله (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم، إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون), ويأخذ المؤمنين درجة أعلى في تحقيق آثار الصلاة وثمارها (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر, ولذكر الله أكبر), ويطمئن من يخرج من بلده ليدعو الناس إلى سبيل الله, (يا عبادي إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون, كل نفس ذائقة الموت, ثم إلينا ترجعون) ويطمئنهم على رزقهم (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يزقها وإياكم, وهو السميع العليم) ويطمئنهم على طريقهم (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا, وإن الله لمع المحسنين)
ثم في سورة المطففين, وتطبيقا لعقيدة الإيمان بالآخرة والتصديق بعذاب الله الواقع ما له من دافع, وتطبيقا لترقية إيمان الناس, لابد أن يظهر ذلك في تعاملاتهم, فإن ظلم بعضهم بأن كان من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون, وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون, فيردعهم الله (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم, يوم يقوم الناس لرب العالمين)!! فيكون بعثهم وقيامهم للحساب رادعا كافيا في إحسان المعاملات, فيكونون بذلك مع الأبرار, أو يترقوا إلى مقام المقربين.
وهنا يتحقق هدف دعوة الله للناس, أن يبدءوا بالعقيدة, حتى ترسخ في قلوبهم ووجدانهم عقيدة البعث والحساب, وإمكان وقوع العذاب الأكبر يوم القيامة, فيكون رادعا ودافعا لهم على حسن العلاقة مع الله بالصلاة والزكاة والقيام بالشهادات, والمحافظة على الصلاة, وإلى تحسين المعاملات في الكيل والميزان وغيرها, خوفا من أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين).
هكذا بين الله جلّ وعلا, منهاجه في كتاب أنزله ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
إلى هنا, وتكتمل مرحلة القرآن المكي, التي هي مرحلة بناء أسس وقواعد الحضارة الإنسانية, بكل جوانبها المؤثرة في حياة الناس.
وبعد أن آمن من آمن في مكة, وكفر من كفر, أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم بالهجرة, لتأسيس دولة الإسلام, لتهيئ الظروف للناس لكي يعيشوا ويمارسوا حياتهم بكتاب الله وعلى هدي الله, وكما شرع الله وحكم وقضى, مع بدء تحمل دولة الإسلام لمسئولية الانتشار في الأرض كلها, وفي الزمان كله إلى يوم القيامة, ولتبليغ دعوة الله للعالمين, ولقيادة الدنيا بأمر الله.
.. كانت سورة البقرة هي أول ما نزل في المدينة, وهي آخر ما نزل فيها أيضا, حيث اشتملت على آخر آية نزلت في كتاب الله (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله, ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون). وكانت السورة بمثابة هدي لحكومة رسول الله صلّى الله عليه وسلم, وهداية لأية حكومة تريد أن تكون أهلا للخلافة في الأرض, ولإمامة الناس. تتحرك بوحي الله الثابت في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولكي يتحركوا دون تردد بهذا الوحي وذلك الكتاب, لابد أن يكونوا واثقين من صحة كل ما فيه, وعدالته, ووضوحه وصدقه وكماله وشموله لكل ما يحتاجون إليه في حياتهم وحركتهم فيها. كما أنه لابد وأن يكونوا من المتقين في مراقبة الله في تصرفاتهم وأعمالهم وأقوالهم وسلوكياتهم, وذلك حتى يكون (ذلك الكتاب لا ريب فيه, هدى للمتقين)
وبعد ذلك يكون سلوكهم سبل ربهم ذُلُلا أمرا يسيرا, فهو سبحانه يأمر فيطاع من المتقين, فيكون كلامه هدى للمتقين, في كل مناحي حياتهم, كما سيتبين من سورة البقرة, وأخواتها من سور القرآن المدني بإذن الله وتوفيقه وتفهيمه (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)
نسأل الله أن يشاء لنا أن نحيط بشيء من علمه, ثم أن نعمل بما علمنا, وأن يعلّمنا ويعلّم بنا, ويهدينا ويهدي بنا, ويستعملنا في طاعته, ونشر دعوته, وبلوغها للعالمين, (والله متم نوره ولو كره الكافرون, هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) إنه سميع قريب مجيب
ونستغفر الله على ما فرطنا في جنبه, وعلى ما أخطأنا, بجهل أو بقصد
والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم