وفي الوقت الذي يهلك الله المفسدين والظالمين, فإن له سبحانه سُنّة في خلقه: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}.
إن الحضارة الإنسانية تقوم على ما علّم الله به بني آدم, مباشرة بالوحي للأنبياء والرسل, والهدى الذي أرسله إليهم, وبما يوحي الله به للناس من عقيدة وسلوك وأخلاق وأفكار وآداب وعلوم وفنون, تعمر بها الدنيا, كما أنها تنهار بمقدار ما يحيد الناس عن الصلاح والإصلاح, وبمقدار ما يفسدون في الأرض ويبعدون عن طريق الله المستقيم.
وإن الموعظة التي جاء بها الله في كتابه من قصص الأمم السابقة وما دمّر الله عليها, بسبب الفساد والإفساد, تبين وتؤكد أن الحضارات تبنى على العمل الصالح, وتنهار بالفساد والإفساد, وأن سبب دمار الحضارات هو فسق أهلها عن أمر ربّها (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) )
وقد بين الله أن مظاهر المدنية من تمكين للأمم في الأرض, ومظاهر استقرار الموارد من السماء والأنهار, لم تحفظ الأمم والقرون من الهلاك, والسبب هو ذنوبهم, فأنشأ الله من بعدهم قرنا آخرين (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
إذن فالحضارة إصلاح للناس وللأرض, وثمارها العلوم والفنون والآداب والفكر والإدارة والنظام, وكل ما يكون به الإصلاح
كما أن الإصلاح ثمرته الحضارة الإنسانية, التي لا تعرف حدودا جغرافية ولا فوارق بين الناس إلا بالعمل الصالح والإصلاح.
كيف بنى الله حضارة الإنسان بالقرآن؟
بنى القرآن الإنسان, ثم بنى به الحضارة.
القرآن الكريم, خاتم رسالات الله إلى الناس, هو الحق مصدقا لما بين يديه, جعله الله هدى للناس كل الناس, وجعله منهاج بناء الحضارة, بناء الفرد المتحضّر, وبناء الأمّة المتحضّرة, على ما أراد الله للناس.
هدف الحضارة
إن هدف أي حضارة, ونجاحها, أن تظهر قوتها ماديا بالعزّة والغلبة, وتنتشر بقوتها ونصرها بين الأمم, فتنفتح لها الأبواب, ثم هي لا تقهر الأمم على اتباع أفكارها ونظامها الفكري والحضاري, ولكنها تدخل بإرادتها فيه, بعد الذي تراه من النموذج الناجح, بحيث لو زالت القوة والغلبة لهذه الحضارة, بقيت الأمم التي اتبعتها على نفس النظام, بل واعتبرت نتاج هذه الحضارة ملكا لها, وساهمت في انتشارها وامتدادها في الزمان والمكان.
وهذا تماما هو ما حدث لحضارة الإسلام
لقد أعلن الله في آخر سورة نزلت من القرآن هذا المعنى فقال: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) . فحضارة القرآن بناها الله في جزيرة العرب بعد تخلّف وهمجية, ثم انتقلت إلى الأمم الأخرى في الشام والعراق ومصر والبربر في شمال أفريقيا, وفي وسط وشرق أفريقيا, وفي بلاد الفرس والهند والسند, وجنوب شرق آسيا, ووسط آسيا, وبلاد الترك, وجنوب أوروبا, حتى سارت كل هذه الأمم على الإسلام, وأصبح هو حضارتها وهو منهاجها الفكري والعقدي وأصبحت شريعته هي شريعتها, حتى بعد سقوط القوة الفاتحة.
لقد انتشرت حضارة الإسلام بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, أكثر وأبعد مما انتشرت حال حياته, بالقوة الذاتية لها, ولقد قامت بلاد إسلامية هي الأكبر تعدادا للسكان, في نفس الوقت الذي سقطت فيه الخلافة الإسلامية العثمانية, مما يدل على أن الناس يدخلون في حضارة الإسلام التي بناها الله بدين الله وقرآنه, طائعين مختارين.
في حين سقطت الشيوعية حين سقطت موسكو, وانتهى وجود حضارات ومدنيات البلاد المذكورة, (وكم أهلكنا قبلهم من قرن, هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا )؟
.. لقد بنى الله بالقرآن فعلا خير أمة أخرجت للناس, بدأها بقوله: {اقرأ}, وختمها بنصر الله والفتح, والناس يدخلون في دين الله أفواجا.
تسلّم القرآن الأرض وهي في ضلال وفساد وجهل وتخلّف, أخذها من ظلمات الجاهلية, والجهل والخمر والميسر, ووأد البنات, والتقاتل على التفاهات, فغيّر وجهها جذريا, بهداية بعد جهل وكفر وشرك وضلال, وبإخلاص بعد نفاق ورياء وخيانة, وبعلوم وفنون وثقافات وإدارة وقيادة ومدنية, فتغيّر سلوك الإنسان على الأرض من همجية وعبث وبطش وفساد وإفساد وفجور, إلى حكمة وجدّ وصلاح وإصلاح, فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها!
إلى أن فتح بها ولها جلّ بلاد العالم الموجودة في نهايات القرن السادس الميلادي, وأقام حضارة إنسانية اهتمت أول ما اهتمت بالإنسان الذي هو هدف كل حضارة, واهتمت أول ما اهتمت بعقل الإنسان وفكره, الذي هو أهم وأفضل ما في الإنسان, وموضع تكليفه وتشريفه, وبالتالي كانت التصرفات الإنسانية في إطار هذه الحضارة تصرفات متحضّرة أو حضارية, بل وضعت لها القواعد والمعايير الحضارية التي تقاس عليها, فما كان من التصرفات موافقا للقرآن كان صحيحا صالحا, وما كان مخالفا له كان خطأَ فاسدا مجرّما منكرا, أيا كان صاحب هذا التصرّف والسلوك.
التزكية قبل العلم:
لقد أنشأ الله الحضارة الإسلامية بالقرآن الكريم, بالتزكية أولا ثم بالعلم..
إن الأمة الإسلامية المفتوحة لتشمل العالمين, كانت دعوة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حيث قالا: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) , فطلبا من الله أن يكون تعليم الكتاب والحكمة سابقا على التزكية..
ولكن الله سبحانه رتّب أولوياتها بشكل مختلف, حين قال (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) ) وكرر هذا الترتيب في سورة آل عمران وسورة الجمعة.
فبدأ بالتزكية وهي التطهير والإخلاص , قبل التعليم
وإن ناسا تلقوا العلم دون تزكية, شقت بهم الدنيا خرابا ودمارا وجريمة وظلما وفسوقا, فدمّر الله عليهم, في حين أن الذين زكاهم الله وربّاهم وأدبهم قبل أن يمكن لهم, سعدت بهم الدنيا إخلاصا وأخلاقا وعملا صالحا وعمارة للدنيا. (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) )
إن الحضارة التي بناها الله بالقرآن, أثمرت إنسانا طاهرا نقيا شريفا مجتهدا عاملا مخلصا, يبني ويعمّر ويحدّث ويطوّر, ويتعامل, ومنه ينشأ المجتمع الذي يسير على نفس المنهج, فتتأسس الأمة التي تبني مظاهر الحضارة من زخرف الأرض وزينتها, يقوم عليها إنسان حكيم في أخلاقه وسلوكياته ومعتقداته.
بناء مظاهر الحضارة والمدنية:
ومن وحي القرآن (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب), أنشأ المسلمون علوما جديدة واختراعات واكتشافات, وبنوا حضارة الإسلام الأولى…وآيات القرآن الدالة على الكون وأسراره المادية منتشرة بين دفتي الكتاب…
فمن بداية التاريخ الإنساني, علّم الله نوحا عليه السلام صناعة الفلك: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}
وامتنّ على داوود عليه السلام وعلى كل صاحب صنعة, فقال: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)}
وأسال الله لسليمان عليه السلام (عَيْنَ الْقِطْرِ) وكلّف الجن بصناعات بأمره {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}
كما لفت الأنظار لآياته في السموات والأرض: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}
فالفلك يصنعها الإنسان, ويجهزها بالأدوات التي تمكنه أن يحصل بجريها على ما ينفع الناس. وقوم يعقلون, يستخدمون عقولهم في استثمار آيات الله الكونية بما ينفع الناس.
وإشارات إلى الألوان في الثمرات والجبال والناس والدواب والأنعام, تستثير أذهان العلماء وهممهم لاكتشاف العلاقات بينها (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
وإشارات إلى الخبء في السموات والأرض, وكيف يخرجه الله باجتهاد المجتهدين وعمل العاملين, والخبء في عقولنا وكيف يخرجه الله بالتفكير والتعقّل والتدبّر: { أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)}
وحين آتى الله ذا القرنين من كل شيء سببا, فأتبع سببا, وطوّر القوم الذين كانوا لا يكادون يفقهون قولا, جعلهم يعينونه بقوة, حتى بنى بهم ولهم الردم, بالحديد والقطر.. (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
وفي جمال الصروح والمواد المستخدمة فيها, بين الله أن ملكة سبأ التي أوتيت من كل شيء, حين جاءت سليمان عليه السلام, { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ}
وفي نفس الوقت قال الله سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) فربط بين بيناته للرسل, والكتاب والميزان, وبين الحديد وبأسه ومنافعه, وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب…
وجعل الله التفكير فريضة إسلامية تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات, وأساس التمييز في الدنيا بين ناس ذرأهم الله لجهنم:{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}
ومكّن الله جل جلاله للناس في الأرض لينشطوا في استعمارها: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) , و(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)
وهذه أمثلة من بحر من الآيات في كتاب الله, يدل الإنسان ويوجهه للبحث في الكون واستثمار آيات الله الكونية..
ثم إن الله يبني في القرآن الكريم سلوك الإنسان قبل أن يبني زخرف الدنيا وزينتها, وبعد أن يبنيها, فلا يكتفي بمجرد التفكير, ولا يكتفي بالثقافة النظرية, ولا يكتفي بالبناء والتشييد والصناعة وغيرها, وإنما الأهم كيف سيتصرف في كل هذا.
إذن فالحضارة التي يبنيها القرآن مبنية أولا على تطهير الإنسان وتزكيته, ثم تعليمه الكتاب, والحكمة, ثم البناء به والتعمير والتطوير.
والمتتبع لنزول القرآن, يلاحظ المنهاج الذي بنى الله به الحضارة الإنسانية الإسلامية في القرن السادس الميلادي, وهو نفسه المنهاج الذي تبنى به الحضارات الصالحة المصلحة وتقوم, مهما اختلفت ثقافاتها, ومخالفة هذا المنهاج ينتج عنها عوامل انهيار الحضارات, فإن زادت المخالفات زادت الانهيارات.
فلقد بدأ بتنقية العقول من الخرافات والخزعبلات, من السجود لأصنام من الحجر والشجر, بل ومن العجوة؛ فإن جاعوا أكلوها, وبتنقية سلوكهم من القسوة على المرأة, التي تبلغ بالذي إذا بشّر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم, يتوارى من القوم من سوء ما بشّر به, أيمسكه على هون أم يدسه في التراب, فحذر الناس بأن يوما سوف يأتي تُسأل فيه الموؤودة بأي ذنب قتلت. وأخذ القرآن خير ما في الناس من شهامة ومروءة وشجاعة, فوجهها لتكون كلمة الله هي العليا, لا للحمية ولا للشجاعة المتجردة, حتى إن الفارس المسلم يتحكم في غضبه , فلا يمضي بالسيف ليقتل غريمه الذي بصق في وجهه بعد أن تمكن منه, حيث لم يستطع أن يجزم أسيقتله غيظا, أم يقتله في سبيل الله. فأي سموّ وتحضّر هذا الذي يجعل الإنسان يسيطر على نفسه, ويضع العقيدة والمبدأ فوق نوازع الغضب فيه, في هذه اللحظة الخاطفة الهائجة الغاضبة!
حين نقّى الله العقول بالقرآن, فاقت من الخرافة لتنتج كل مخرجات الحضارة, من ناس ذوي ثقافات متعددة, وألسنة وألوان مختلفة.
فأعطى الله حرية العقيدة للناس, فلا إكراه في الدين, حتى يفتي جمهور الفقهاء على أن الزوج المسلم لا يعرض الإسلام على زوجته الكتابية لئلا يكون في ذلك إكراها في الدين مجاملة له.
وأعطى الفرصة للذين كفروا فاتخذوا مواقف معادية: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وحافظ على المشركين دون قهر على عقيدة, {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} ودعا أهل الكتاب إلى كلمة سواء بيننا وبينهم, وقدم العلاج للذين في قلوبهم مرض, فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ومواليكم.
وساوى حقوق المواطنة بين المسلمين وغيرهم من العقائد الأخرى الذين لم يقاتلونا في الدين ولم يخرجونا من ديارنا, نبرهم ونقسط إليهم, لهم ما لنا وعليهم ما علينا,
وساوى بين الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة , فالنساء شقائق الرجال,
ووضعت قواعد اللغة العربية لتكون أداة التفاهم بين الإنسانية كلها, وحفظت القرآن والحديث,
ثم خرجت بالعلوم والثقافات والفكر, الذي لم يعرف حدودا, والذي ساوى بين الناس لا فرق لعربي على أعجمي , ولا لقرشي على حبشي, ولا لأبيض على أسود, إلا بالتقوى,
وتواصل القرآن بالحضارات التي كانت قائمة في الأرض قبله, فدخل الفرس فيه وتخلوا عن عبادة إله النور وإله الظلام, ودخل الروم بعد ضلالهم بالظلم والقهر للناس, وأفاق اليونانيون من الغرق في الفلسفات والتوهان فيها, ودخلت حضارات الهند والسند والصين وجنوب شرق آسيا, ودخل الأتراك فصاروا قادة وقاعدة للانطلاق لبلاد وسط آسيا وجنوب أوروبا, ودخل الإسبان فيه, ودخل المصريون والليبيون والبربر, ودخلت الحبشة وما حولها , واستيقظت إفريقيا من سباتها وظلامها, ودخلت بلاد ما بين النهرين بالعراق والشام..
وأصبح النموذج الحضاري الإنساني القرآني نموذجا يحتذى به في قيام حضارة الإنسانية العالمية, التي لا تفرّق بين بني الإنسان إلا بالتقوى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} , وحرص على صيانتها من الانهيار, والمحافظة عليها من طغيان القوة, وظلام الجهل وسوءات الكسل والخمول, وفتح القرآن للإنسانية أبواب السماوات وما حوت, والأرض وما طوت.
حين أفاق الناس من خرافاتهم وجهلهم, نبههم الله إلى آياته الكونية, وحث على التفكر فيها واستثمارها وصولا إلى العزّة, والقدرة على الغلبة والقوة, والقدرة على التحكم فيها بالحكمة: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)}(الجاثية)
كما حذر من إهمالها وعدم الاكتراث بها : {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)}
فإن ملك الناس الكتاب والحكم والنبوة والرزق, والفضل على العالمين, والبينات والعلم, فإن الله حذّرهم من سوء استغلالها والاختلاف عليها, أو إبطالها {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
ثم جعل الله رسول الإنسانية على شريعة من الأمر فقال:{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} وإنما تعاون على البرّ والتقوى{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ليتصرف الإنسان بالحكمة لا بالهوى فيما ملك من قوة, ومن أسباب العزّة, فلا يكون تقدمه دمارا ولا إهلاكا للحرث والنسل, ولا صراعات من أجل القوة والمال والسلطة والشهرة,
فاتجه الناس بالقرآن إلى نعم الله, فتدارسوها, فأنتجوا العلوم والفنون, في الطب والهندسة والحساب والجبر والفيزياء والكيمياء والفلك والجغرافيا والضوء. وإلى الحكمة في شريعته, فالتزموها كي لا يطغوا بالعلم والقوة والمال.
وربما لا أقول إن في القرآن الكريم عوامل قيام الحضارات, بل أقول:
منهاج من القرآن لبناء الحضارة الإنسانية