بسم الله الرحمن الرحيم
• هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
• إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
• إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) {سورة الإنسان}
بهذه الخطوات سار الإنسان على الأرض, منذ خلقه الله …
… طوره الله سبحانه من المرحلة الأولى التي لم يكن فيها شيئا مذكورا,
… فأوجد له وسائل التعامل ليتفاعل مع الدنيا, فجعله سميعا بصيرا
… ثم هداه السبيل فكان البعض شاكرا, فعملوا بنعم الله في طاعة الله ومقصوده من عمارة الدنيا. وكان البعض الآخر من الناس كفورا, إما بالتكاسل عن العمل كفرا بنعم الله, وإما بالعمل بما يغضب الله بعيدا عن السبيل الذي هدى إليه.
.. تحرك الإنسان فوق الأرض, حتى هداه الله لاجتياز العوائق المائية, بأن علم نوحا عليه السلام بناء السفن, واستأنس الحيوان فاجتاز به مسافات اليابسة. وسكن في أودية الأنهار, فاستقر حيث وجد الماء والطعام, وأمن من الخوف, وبدأ يتعامل ويتفاعل مع الآخر, فنشأت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية, ثم العلاقات السياسية والفنية والثقافية.
أصبح الإنسان مستقرا في مكان, وسط مجتمع, بينه علاقات, يعيش فيه ويؤمّن طعامه وشرابه وسكنه وعمله ونفسه وأسرته وعلاقاته, فأصبح يفكر, ويكتسب فكرا ممن حوله وماحوله, ثم يخرج من ذلك بثمار على شكل أبنية ومنشآت ومخترعات ونظم وفنون وأفكار وثقافات.
.. ومن هنا نشأت للإنسان حضارة.
ما هي الحضارة؟
والحضارة هي مظاهر الرقيّ العلميّ والفنّيّ والاجتماعيّ في الحضر, الذي هو المدن والقرى والريف
والحضارة تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق , أي أنها هي التي تهيئ للإنسان الاستقرار والأمن والأمان.
والتعريف الأوفى تعبيراً عن المعنى العام للفظ (الحضارة)، هو أنها تعبيرٌ عن منظومة العقائد والقيم والمبادئ، وجماعُ النشاط الإنساني في شتى حقول الفكر والعلوم والآداب والفنون جميعاً، لا فرق بين فن وآخر، وما يتولَّد عن ذلك من ميول ومشارب وأذواق تصوغ نمطاً للسلوك، وأسلوباً للحياة، ومنهجاً للتفكير، ومثالاً يُحتذى ويقتدى به ويُسعى إليه.
والشروط التي بها يطلق لفظ حضارة على أي تجربة إنسانية تتلخص بالآتي :
- وجود نسق عقدي يحدد طبيعة العلاقة مع عالم الغيب ومفهوم الإله سلبًا أو إيجابًا.
- وجود بناء فكري سلوكي في المجتمع يشكل نمط القيم السائدة وهي الأخلاقيات العامة والأعراف.
- وجود نمط مادي يشمل جميع الأبعاد المادية في الحياة.
- تحديد نمط العلاقة مع الكون ومسخراته وعالم أشيائه.
- تحديد نمط العلاقة مع الآخر، أي المجتمعات الإنسانية الأخرى وأسلوب إقناعها بهذا النموذج, والهدف من ذلك الإقناع.
الحضارة والمدنية والثقافة
ولقد حدث خلط بين كلمتين في اللغة الإنجليزية, مقابل ثلاث كلمات في اللغة العربية. ففي الإنجليزية يعبر عن حضارة بكلمة Civilization وتقابلها كلمة مدنيّة بالعربية, أي للأشياء, وكلمة Culture , تقابلها كلمة ثقافة, أي للإنسان, وأما كلمة حضارة فهي تعني في الأشياء تطور وزينة وزخرف, وفي الإنسان سلوك وخلق وحكمة.
وربما تنطبق كلمة مدنية على ما يعمر الإنسان به المدينة من مظاهر بناء وزخرف للمادة, كما تنطبق كلمة ثقافة على اتساع اطلاعات الإنسان ومعارفه, حسب المجالات والتخصصات التي يكون فيها مثقفا.
أما كلمة حضارة, فإنها تصف إنسانا يعمّر الأرض ويزخرفها ويزينها بإنشاءات واختراعات وصناعات, في نفس الوقت الذي تتسع فيه مداركه ومعارفه ويعبر عنها بالآداب والفنون والعلوم, ثم بتصرفه بعد ذلك بحكمة فيما أنشأ, بأخلاقه ومعاملاته وسلوكه وتصرفاته مع نفسه, ومع الناس, ومع الأشياء, ومع الكون.
الحضارة إطعام من جوع وأمن من خوف
لقد ضمن الله سبحانه لآدم عليه السلام, العوامل الأولية الأساسية لإقامة حياة كريمة مستقرة لإنسان, والتي بدونها لا يعتبر الإنسان مستقرا, حيث قال له الله: { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) },
كما منّ الله على قريش بأنه وفّر لهم الحد الأدنى للمعيشة والذي بدونه لا يكون استقرار ولا تكون حضارة, فقال سبحانه:{ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}
ومن ذلك يُفهم أن الإنسان حين يريد أن يؤمّن نفسه من المخاطر, يبحث عن تأمين الطعام فيزرع ويحصد, وعن تأمين الملبس فيصنع الملابس, وعن تأمين الظمأ فيؤمّن مشربه, وعن تأمين النوم والإقامة فيبني المسكن, وعن تأمين علاقاته فينظم نشاطا سياسيا, وعلاقاته الفكرية فيبني نشاطه الثقافي, ولتأمين مستقبله أمام منافسيه, فيبحث ويطوّر ويحسّن, وبالتالي فالإنسان حين يطعم من جوع, ويأمن من خوف, يبني حضارته.
الحضارة قدرة الإنسان على زخرف الأرض وزينتها
وقد لخص الله الحياة الدنيا أولها وآخرها بأن قال في سورة يونس:
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
فبين سبحانه أن الإنسان الذي بدأ حياته بما أنزل له الله من ماء من السماء فاختلط به نبات الأرض, سوف يعمّر الأرض وما عليها بالزخرف والزينة, ويتطور في مظاهر الرقيّ العلميّ والفنّيّ والاجتماعيّ, حتى يظن أنه قادر عليها, عندئذ فإن حياته بعد ذلك على الأرض لا يكون لها مبرر, حيث بلغ بعمارة الدنيا أقصاها, ولم يعد فيها تطوير ولا تزيين, وبالتالي يأتيها أمر الله ليلا أو نهارا فيجعلها حصيدا كأن لم تغن بالأمس, وتكون هذه هي نهاية الحياة على الأرض, بالقارعة, يوم يكون الناس كالفراش المبثوث, وتكون الجبال كالعهن المنفوش, ثم يقوم الناس لرب العالمين, مالك يوم الدين, فيحاسبهم على ما عملوا {ووجدوا ما عملوا حاضرا, ولا يظلم ربك أحدا}
الحضارة هدفها الإنسان
ومن هنا أرى أن المقصود بالحضارة هو الإنسان نفسه, فهي تبدأ بالإنسان الذي يعلم ويتعلم, وينشط, وينتج, إنتاجا عقليا, وإنتاجا ماديا, يطور به الدنيا من حوله, ويستعمر به الأرض, لصالحه ولصالح بني جنسه مهما كانوا وأينما كانوا, بل ولصالح الكون كله, فلا يفسد في الأرض بعد إصلاحها, فيترقى في عقيدته, وفي فكره, وفي سلوكه, وفي النمط المادي لحياته, وفي نمط العلاقة مع الكون والكائنات والأشياء, وفي نمط العلاقة مع الآخر في مجتمعه, وفي المجتمعات الإنسانية الأخرى.
وينتج عن ذلك مظاهر للنشاط الإنساني في بقعة من الأرض, يكون فيها الإنسان حاضرا بنفسه لا حضور جسد فقط, وإنما حضور ذهن وفكر وعقل, وحضور نشاط وحيوية وإنتاج, وحضور معاملة, وحضور حسن خلق, فتسمى بذلك تلك البقعة حاضرة, وما عليها من آثار الإنسان حضارة, تتمثل في حسن تصرف الإنسان فيما بين يديه وفيما ينتجه عقله, وتنتجه يده, من الفكر والعلوم والفنون والآداب, والعمارة والإنتاج المادي, والإبحاث والتطوير.
واستنارة بآية سورة يونس, فإن الحضارة يمكن تلخيصها بأنها {زخرف الأرض وزينتها, نتيجة لنشاط الإنسان فيها, ثم قدرته عليها, ثم سلوكه وتصرّفه فيها بالحكمة, والمعتقدات والأعراف والأخلاق التي يكتسبها.
الحضارة أو الهمجية
فإن ملك الإنسان المادة والاختراعات وكتب وألف المؤلفات والشعر والأدب, ثم حين يتصرف, يسبّ هذا ويهين هذا ويضرب هذا ويهتك عرض هذا ويسفك دم هذا, فهل يمكن أن يسمي ذلك الإنسان حضاريا أو متحضّرا؟ أم أنه هو همجيّ متخلّف؟
كيف يمكن لمن يرى فرعون وما ترك من جنات وعيون, وكنوز ومقام كريم, ثم هو قد علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم, إنه كان من المفسدين, كيف يمكن لمن يرى ذلك أن يشهد لفرعون أنه متحضّر وصاحب حضارة؟
إن عادا قوم هود أنشأوا إرم ذات العماد, التي لم يخلق مثلها في البلاد, وأمدهم الله بأنعام وبنين, وجنات وعيون, ولكنهم كانوا يبنون بكل ريع آية يعبثون, ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون, وإذا بطشوا بطشوا جبارين, فاستكبروا في الأرض بغير الحق, وقالوا من أشد منا قوة, فهل هذه حضارة؟
كما أن ثمود قوم صالح كانوا يظنون أنهم آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وينحتون من الجبال بيوتا فارهين, ولكنهم كانوا مع المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون, ويعتدون على ناقة الله بغير مبرّر, فهل هذه حضارة؟
وكان لقوم إبراهيم صناعة, ولكنها صناعة أصنام من الحجر والشجر, يدقونها, ثم يقدسونها ويسجدون لها, فهل هذه حضارة؟
وكان قوم لوط يأتون الفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين, ويأتون في ناديهم المنكر, ويخرجون آل لوط من قريتهم لأنهم أناس يتطهرون, فهل هذه حضارة؟
ولقد كانت مدين قوم شعيب بخير, ولكنهم كانوا لا يوفون الكيل والميزان, ويبخسون الناس أشياءهم, ويفسدون في الأرض بعد إصلاحها, ويقعدون بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله, فهل هذه حضارة؟
فأخذ الله هؤلاء وهؤلاء بذنوبهم, كأن لم يغنوا فيها.
هذه أمثلة من مدنيات نشأت وأمنت من الخوف, وأمّنت الطعام والشراب والسكن والقصور والحدائق, ولكنها كانت فاسدة في عقيدتها, فاسدة في تصرفاتها وأخلاقها, فهل يمكن أن تكون نموذجا لحضارة بمظاهرها المادية, دون أن تكون تحضُّرا في الخلق والسلوك والمعاملة؟
كيف يمكن اعتبار صانع السياسة الأمريكي في مطالع القرن الحادي والعشرين صاحب حضارة حين يسمح ويشجع ويوافق على ما يفعله جنوده في جوانتانامو وسجون العراق, وشعب أفغانستان ؟ ويصدّق ويحمي ما يفعله الإسرائيليون في فلسطين؟ وذلك رغم ما يبني من ناطحات سحاب, وطائرات وأقمار صناعية, وحاسبات آلية.
كيف يمكن لصانع السياسة الإنجليزي أن يكون صاحب حضارة, وهو يقرّ في برلمانه زواج المثليين, ويصبح الشذوذ معروفا غير منكر, مهينا بذلك فطرة الإنسان وعقله وكرامته؟
كيف يمكن أن يعتبر الإسرائيلي الذي يهلك الحرث والنسل ويهدم البيوت العامرة على رءوس أصحابها, ويسلط سلاحه من البر والبحر والجو على المساكن والمدارس والمزارع والمصانع, فيدمّر ويفسد في الأرض بعد إصلاحها, أتعتبر هذه حضارة تحافظ على الحجر وتهلك البشر, مهما علوا علوّا كبيرا؟
هل يعتبر المسلم الذي هداه الله إلى طريقه, وأورثه الكتاب, ثم هو يتخذ هذا القرآن مهجورا, فإما أن يتركه ولا يهتم به, أو يتلوه دون أن يأخذ منه الحكمة والعمل الصالح, فيصدق فيه القول: (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه) ولا يكسب في إيمانه خيرا, هل يكون هذا صاحب حضارة؟ فما بالنا لو خالف فعله قوله, وعطّل طاقاته ومرّ عليها وهو عنها من الغافلين؟
إن الحضارة سلوك وحكمة وحسن معاملة واستثمار لطاقات الإنسان في خير الإنسان وفي عمارة الأرض وإصلاحها شكرا لله سبحانه على ما مكّن له في الأرض وجعل له فيها معايش.
الحضارة من الداخل إلى الخارج
إن الحضارة إخلاص في القلب يملؤه بالحق والحكمة, يتبعه نشاط وجهد وطاقة مستثمرة في عمارة الدنيا, وإصلاح الأرض, وفكر ونظر إلى نعم الله وخلقه, ينتج عنه تدبّر وتفكّر وحسن استخدام للسمع والبصر والفؤاد, عمارة للقلب وطهارة للنفس, ونقاء للروح, تظهر آثاره في حسن الخلق وحسن المعاملة.
ولا يتأتى ذلك إلا على أساس من عقيدة سوية, وشريعة قوية, واتباع للهدى الذي آتاه الله عباده على أيدي أنبيائه ورسله, وسجله في كتبه المقدّسة التي ختمها القرآن الكريم, الذكر الحكيم, الذي تكفل الله بحفظه, هدى للناس وذكرا للعالمين, لمن شاء منهم أن يستقيم.
مبدأ حضارة الإنسان على الأرض:
ومنذ أن خلق الله الإنسان, وجعله في الأرض خليفة, وأقام له الحجة على الملائكة بأن علم أباه آدم الأسماء كلها, ثم قال للملائكة أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين, ثم أسجدهم له فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين, ثم أتاح الله له سكن الجنة مع زوجه, والأكل من حيث شاءا, إلا من شجرة واحدة, فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه, وأهبطهما الله منها. منذ ذلك الحين, والله لم يترك الإنسان بغير هداية, ولم يتركه منفردا أمام غواية الشيطان وجهل نفسه, ولكنه قال لبني آدم (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39))
لقد أودع الله ميثاق الفطرة في بني آدم كلهم جميعا وبلا استثناء, حتى يكون دليلا لهم في العقيدة والسلوك, إلى أن تبلغهم رسالات الأنبياء والرسل.
ثم بدأت رسالات السماء تنزل على رسل الله وأنبيائه, تنبئهم بالعلم بالله, وخلقه, ومبدأ الكون ونهايته, ومقصود الله منهم, وكيف يتصرفون ويتعاملون. فعلموا أن الله هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام, ونظم حركتها فهي مسخرة بأمره. ثم سأل سبحانه عباده (ألا له الخلق والأمر), ثم بين لهم أنه ليس فقط له الخلق والأمر, وإنما هو يدبر الأمر, وأمرهم ألا يعبدوا إلا إياه, حتى يسيروا على أمره كما تسير سائر مخلوقاته التي اختارت أن تأتيه طائعة, وحتى لا يصطدموا مع تلك المخلوقات المسخرة بأمر الله, فبين أن عبادة الله هي طاعته في كل ما أمر وكل ما نهى, وفي كل قول أو فعل أو ترك, وفي كل نية أو قصد, بإخلاص لله وحده لا شريك له.
• وأخذ الله بيد الإنسان ففصّل الآيات لقوم يعلمون,
• ثم حوّل هذا العلم بكتاب فصّله على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون,
• ثم بتصريف الآيات لقوم يشكرون,
فأخذهم من العلم, إلى الإيمان إلى السلوك.
وحيث أن الإنسان يعيش في مجتمع, فقد بين الله سبحانه له كيفية التصرف كفرد في الجماعة, ثم نظم علاقات المجتمعات ببعضها, فأنشأ العلاقات بين الدول, في السلم, وفي الحرب, حتى ينتظم وينضبط المجتمع الإنساني كله.
رسالات الله تبني الحضارة في الناس وللناس وبالناس:
شملت رسالات الله للإنسان كل ما يتعلق به, وكل ما ينظم حياته, وكل ما يجعله يعيش حياة راقية في الدنيا, تمهيدا لحياة أرقى وأعلى في الآخرة. فدخل في خبايا النفس ونواياها ومقاصدها, وخرج إلى العلاقات الشخصية بين الأفراد, ثم إلى العلاقات الاجتماعية بين الأسر, إلى العلاقات الاقتصادية والثقافية والفكرية, إلى العلاقات السياسية والعسكرية, ونظم حالات الاتفاق وحالات الاختلاف, حتى يصل إلى قمته في الحروب والتقاتل فنظمها الله للإنسان وبين له كيفية التصرف فيها, مع العدوّ, مع الآبار, مع الأسرى, مع الغنائم والأنفال, مع زوجات القادة وتصرفاتهن بعد النصر, مع العدوّ حين ينتهي عن العداوة, مع المشركين المستجيرين, مع الأرض, مع الجدار القائم والشجر واللينة. حتى (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)) فلا غرور ولا كبر (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3).
وصلت شريعة الله في بناء الحضارة للناس وبالناس إلى الحد الذي يتدخل فيما عرّضوا به من خطبة النساء أو أكننوا في أنفسهم, إلى الأذى يماط عن الطريق, إلى التفسّح في المجالس, إلى النجوى والحديث الخاص بين طرفين أمام ثالث, إلى مراعاة حقوق الضعفاء من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل, إلى حسن معاملة الذين لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم, أن يبروهم ويقسطوا إليهم, إلى غض البصر في الطريق, وغض الصوت, إلى خلجات النفس فلا تختال ولا تفخر ولا تصعّر الخد للناس, إلى ما يكون عليه الحال بين الرجل وزوجه في الفراش, فيضبط تصرفه فلا يرتمي كالبهائم, ولكن يجعل رسولا من التآلف والمودة والرحمة. علمهم الله كيف يكون حفظ العهد حتى مع الأعداء, فيحرم الجيش من جهد فرد من أفراده لحفظ عهد بينه وبين العدو (نحفظ لهم عهدهم ونستعين بالله عليهم)
شملت رسالات الله للناس كل ما يمكن أن يجعلهم (متحضرين) بكل ما تعني الكلمة من معان, في العقيدة والسلوك والنشاط الإنساني, وبكل ما تشمل من أخلاق وأفكار وممارسات وسلوك, وبكل ما تعني من عمل جاد دؤوب لعمارة هذه الدنيا, وحسن التصرف مع كل ما فيها من كائنات, حتى ليحاسب الناس أنفسهم بموجب هذه الرسالات على لينة يقطعونها كلازمة من لوازم إعداد ساحة المعركة, هل أخطأوا في قطعها أم أصابوا, وحتى ليغفر الله لامرأة بغيّ لسقياها لكلب عطشان, وحتى ليتجنب الإنسان قتل عصفور بغير منفعة حتى لا يأتي يوم القيامة فيشتكيه إلى الله, وحتى ليحافظ الإنسان على حق أخيه الإنسان أيا كانت هويته أو عقيدته أو جنسيته, حقه في الهواء والماء والعشب, بل وحسن التصرف مع الجمادات التي تسجد هي الأخرى لربها ويتفيأ ظلالها عن اليمين والشمائل سجّدا لله, فالجبال تؤوّب مع داوود, وأحد جبل يحبنا ونحبه, والجدار يحترمه المقاتلون المحاربون رغم مشاغلهم في الحرب, فلا يهدمونه بغير منفعة.
ضبطت رسالات الله للناس تصرفاتهم في أموالهم, ونهاهم سبحانه أن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون, فالمال له دور في الحضارة, حذّر الله من جمعه ومنعه من التداول لمصلحة الناس, (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)) وحذّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله من (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) ووعظ الناس الذين آتاهم من الكنوز, أن يخرجوا بها إلى التصرف الحضاري, بدءا من حالتهم النفسية التي ينبغي أن تنظر لتلك النعمة على أنها مسئولية تستحق الشكر بحسن التصرف فيها, فضرب المثل بموعظة لقارون أغنى أغنياء التاريخ (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)) ثم خسف الله به وبداره الأرض, رغم ما كان فيها من الكنوز, لسوء تصرفه في ماله.
كما ضبطت رسالات الله للناس تصرفاتهم فيما يملكون من سلطة فحذّر من سوء استغلالها (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205))
أرشد الله الإنسان أن يتعارف مع أخيه الإنسان مهما اختلفت جنسيته أو لونه أو مسقط رأسه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) )
يتلوه (التواصل مع أمم أخرى)