الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده..
وبعد, فإن الناظر إلى أحوال العالم قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم, يرى التخلف التام في كل أرجاء الأرض. فلم يكن للعالم كله في تلك الفترة حالة لا توصف بالسوء ولا يقال فيها بالإجمال أنها حالة فساد وانحلال. فلا حالة للعلم ولا للسياسة ولا للأخلاق, ولا للمرافق العامة لا توصف بتلك الصفة, ولا تغلب فيها السيئات كل الغلب على الحسنات .
وبعد استكمال نزول القرآن الكريم؛ تغير شكل العالم تماما, وأخذ في التطور والتقدم على نفس الأسس والمبادئ التي وضعها الله للناس – كل الناس. نشأت النظم الإدارية, والسياسية, والتشريعية والقضائية والاجتماعية.. نشأت علوم شتّى, واكتشفت أسرار كثيرة في الكون وفي الإنسان.
… ما الذي حدث؟ أين كان كل هذا؟ من أين جاء الناس بتلك النُّظم؟
لقد تتبّعت سور القرآن الكريم بترتيب مناسبات نزوله, باعتبار أنّ هذا هو الترتيب الذي أراده الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد, فوجدت بناء حضاريا شامخا أنشأه القرآن الكريم في الأرض. انتظمت فيه كل عناصر الحضارة والرقيّ والتقدم.
لم أبدأ بافتراضات مسبقة, ولا بسابق خبرة وعلم, وإنما أقرأ القرآن باحثا عن مدخل لكل سورة, أو عنوان لها, ثم باحثا عن تسلسل المعاني في السور المتعاقبة, فوجدت البداية في (اقرأ) والقراءة هي الجمع والضم والفهم والإدراك, والنهاية في (نصر الله والفتح) وهو تحقيق الهدف, ووجدت بين السورتين منهاجا لبناء الحضارة الإنسانية, شمل بناء أساسها على الإخلاص, والمشاركة في البناء من كل طوائف الناس, والقيادة والسلطة التنفيذية بكل أبعادها, ثم مواجهة الفتن والمصاعب التي تُصقل بها القيادة, ثم قواعد الحكمة والتشريع الذي يمنع الظلم والجهل والكفر والذنب, ثم قواعد فصل الخطاب والسلطة القضائية, وإقامة أركان العدالة وإنهاء المنازعات, ثم مناهج العمل والسعي الذي ينتج عنه بناء المدنيات والثقافات بعد بناء الإنسان ذاتيا وداخليا, وتنظيم حياته في جماعات, لينتج عنه بعد ذلك عمارة للإنسان قبل عمارة الأرض, وضبطا لسلوكه.
لقد بدأ البحث المنتظم منذ صيف عام 2001, حتى استعرضت ستة وثمانين سورة هي القرآن المكي, ثم سور البقرة والأنفال وآل عمران من القرآن المدني بالترتيب التاريخي لنزوله, استُكمِلت فيها مراحل بناء الحضارة الإنسانية.
وأسأل الله أن يوفّقني في استكمال استعراض بقية سور القرآن الكريم, كمنهاج لبناء الحضارة الإنسانية بالقرآن الكريم.
وما كان في البحث من خير فمن الله سبحانه, وما كان غير ذلك, فأستغفر الله وأتوب إليه, وأسأل كل ذي علم نصيحته.
جزى الله بالخير كل من تعلمنا منه وأرشدنا إلى كتاب الله, واعتنى بدراساته والحث على استخراج كنوزه, وتثويره لينتفع الناس به في عمارة الأرض وإقامة العدل فيها لتكون كلمة الله هي العليا. اللهم نوّر قلوبنا بالقرآن, وزيّن أخلاقنا بالقرآن.