في مناسبة نزول سورة ص, روى الترمذي (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ وَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ أَبِي طَالِبٍ مَجْلِسُ رَجُلٍ فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ كَيْ يَمْنَعَهُ وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ قَالَ كَلِمَةً وَاحِدَةً قَالَ كَلِمَةً وَاحِدَةً قَالَ يَا عَمِّ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالُوا إِلَهًا وَاحِدًا مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ قَالَ فَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) إِلَى قَوْلِهِ ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ )
ما الذي يجعل العرب تدين لمن يقول لا إله إلا الله؟
وما الذي يدفع العجم إلى أن يؤدّوا الجزية إلى من يقول لا إله إلا الله؟
وما الذي يُغضِبُ قادة قريش حين يدعوهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعبادة إله واحد؟
إن معنى أن تدين العرب لمن يقول لا إله إلا الله, وأن تؤدّي له العجم الجزية, أن هذه الكلمة تصل بقائلها بحقّ الذي يُسلِم نفسه إلى الله فيدبّر له الأمر, تصل به إلى قيادة العالم, فيدفع له الجزية.
إن هذه سياسة دولية عليا!!
هذه بداية خطة لقيادة العالم كله, عربه وعجمه!!
لقد أنزل الله سبحانه القرآن, وجعل في اتباعه أسباب العلاء والشرف والمكانة التي يرنو إليها كل إنسان فقال الله فيه (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ(1)).
إن اتباع الهدى الذي جاء به الذكر يحقق للناس شرفهم وعزتهم, ويحمي به الله الحق ويرفع رايته, ويكون حماية لحقوق الناس مهما كانت عقيدتهم في ظل حكم القرآن ورفع رايته وسيادة أهله المتبعين لهديه.
فالقرآن ليس فقط كتاب هداية للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله, وإنما أيضا هو حاكم للناس بأمر الله, يمنع ظلم بعضهم لبعض, ويمنع جهل بعضهم على بعض, وهو ذو الذكر, يحفظ من الضياع ومن النسيان, فيكون ذكرا وشرفا وحفظا للمجتمع الإنساني, ولكل إنسان في المجتمع محكوم بأمر الله.
وينقسم المعارضون للدعوة إلى فئات: منهم الذين كفروا, ومنهم الكافرون:
فالذين كفروا تبين لهم الحق ورأوه وشهدوا له, كما فعل أبو لهب, والوليد بن المغيرة, الذي كان لآيات الله عنيدا, وعبس وبسر, ثم أدبر واستكبر. فشرعوا في محاربة الدعوة والوقوف لها بالمرصاد.
فإن توقف القلب عن اتباع المنطق والحكمة, من بعد استعراض كل الحجج والبراهين والشواهد واقتاع العقل بها, فلا فائدة في إقناع ولا في حجج أوبراهين. فالذين كفروا في عزة وشقاق, يشعرون بقوتهم وقدرتهم على الغلبة, وفي نفس الوقت هم في شقاق واختلاف يخالفون من أجل المخالفة, من بعد ما تبين لهم الحق (بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ(2).
وطالما كانت الحال كذلك, فلابد من مواجهة خاصة للذين كفروا. مواجهة لعزتهم بعزة وقوة وسلطة, توقف شقاقهم عند حده, فهم لا يكتفون بتكذيب دعوة الحق, وعدم اتباعها, وإنما هم يحاولون استقطاب الضالين من الناس, ومحاربة المؤمنين, كما كان من هذا الذي ينهى عبدا إذا صلّى. وكما كان من شأن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات في سورة البروج, وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.
ولقد حذر الله الذين آمنوا من هؤلاء الذين يحاربون الدعوة ويحاولون إطفاء نور الله, ونبه الذين آمنوا إلى أدوات الحرب التي بها يدافعون عن دين الله وينصرونه, وذلك في سورة العاديات, إن الإنسان لربه لكنود, وإنه على ذلك لشهيد, وإنه لحب الخير لشديد.
إذن, فإن ترك الذين كفروا على ذلك دون مواجهة, سيجعلهم يؤثرون على عامة الناس بالعزة بالإثم وبالباطل, وبالتالي يؤثرون على سير الدعوة إلى سبيل الله وهداية الناس للحق, وحكمهم بها.
وكان التصرف مع أمثال هؤلاء من قبل دعوة محمد عليه الصلاة والسلام أن يهلكهم الله (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ(3)) فلا مناص في مناداتهم واستغاثتهم, ولا مهرب من أمر الله وعقابه, فينتهي أمرهم ووجودهم, وبالتالي لا يحدث ظلم في المجتمع, ولايخاف على نفسه الآمنون فيه بسبب الفوضى التي تنشأ من اتباع كل فريق لإله يختلف عن الآلهة الأخرى. وبعد أن يهلك الله الظالمين, يستمر المؤمنون مع رسلهم إلى أجل مسمّى, وهكذا.
فكيف سيتم التعامل مع الذين كفروا بعد نزول القرآن , خاصة وسوف تستمر كل الأطراف في الدنيا, ولن يهلك الله أحدا بظلمه, وإنما يؤخرهم ليوم الحساب ؟
هذا ما ستجيب عنه السورة.
وأما الكافرون, الضالون, فقد تدرجت مواجهتهم باستعراض قضايا الحق, والبرهنة على صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام, وعلى صحة مصادره التي يأتي بها الوحي, ثم على أن الدنيا ستنتهي بتكوير الشمس وانكدار النجوم حتى تصل إلى القيامة والحساب, فقال الكافرون هذا شيء عجيب, أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد, فأثبت الله لهم بالحجج والشواهد أن البعث حق, نراه رأي العين كل يوم في نزول الماء من السماء فيحيي به الله بلدة ميتا, ويخرج الله به جنات وحب الحصيد, والنخل باسقات لها طلع نضيد, رزقا للعباد, وأحيا الله به بلدة ميتا, كذلك الخروج يوم القيامة.(كان ذلك في سورة ق)
ثم هنا في سورة ص عجبوا أن جاءهم منذر منهم, (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(4))
لقد عجب الكافرون أن جاءهم منذر منهم في سورة ق, ثم في سورة ص, وكان سبب عجبهم في ق هو فكرة البعث بعد الموت , وهو عجب متوقع لمن لم يعلم ولم يلحظ صور البعث الكثيرة كل يوم في كون الله , في الأرض, في النبات حين يبعث الله ميته بالماء. وكان بداية العجب الموضوعي, والفوري الذي حدث فور سماعهم القرآن عن البعث, لذا فقد عبّر الله عن قولهم بحرف الفاء, (فقال الكافرون هذا شيء عجيب).
أما في سورة ص, فإن مصدر العجب هو مصدر ذاتي وليس موضوعيا, ويأتي بعد أن تم عرض الحجج المقنعة لمظاهر البعث في الدنيا, والاستدلال منها على الخروج يوم القيامة, وعجب الكافرون بعدها من أن رسول الله جعل الآلهة إلها واحدا, وبأنهم ما سمعوا بهذا في الملة الآخرة, وبأنه أنزل عليه الذكر من بينهم, فكان تعبير القرآن ( وقال الكافرون هذا شيء عجاب) ولم يقل ( فقال الكافرون..) حيث ليس فيها صفة الفورية مثل سابقتها في ق.
استنكر الكافرون أن دعوة رسول الله, جعلت الآلهة إلها واحدا وقالوا (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ(5) فقد كان كل نبي يبعث لقومه خاصة, وبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام للناس عامة, فدعا كل طوائف الناس إلى عبادة إله واحد, هو سبحانه رب إبراهيم وموسى ورب الآباء الأولين, ورب هذا البيت, ورب العالمين, وهو خلقهم وما يعملون.
إن وجود أكثر من إله يطاع في المجتمع البشري, يؤدي إلى وجود العديد من المكاييل التي تكيل بها كل طائفة من الناس حسب الهوى والمصالح, دون وجود مرجعية واحدة للجميع. ولهذا فإن الاعتقاد في إله واحد, يجعل الجميع أمام شريعته سواء, حتى المبلّغ عنه, فليس له أن يشفع في حد من حدود الله, ولو كان من ينفذ فيه الحد ابنته ذاتها (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها), ولو خالف خليفة الله في تنفيذ أحكامه وشريعته, فإن عقابه يكون أكبر وأشد (لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا, إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات)
وبهذا يسود القانون الإلهي, وتحكم شريعة الله , ويأمن كل إنسان على نفسه مهما كانت عقيدته.
فهم يعلمون أنه قد أُنزِل عليه الذكر, أي أن الله سبحانه هو الذي أنزله , وأن هذا الذي أنزل هو الذكر. إذن فليس لهم أن يحددوا من ينزل عليه الذكر, فإذا كلف الله رسولا, فليس لهم إلا أن يتبعوه, فإن لم يتبعوه فقد أنذرهم بالهزيمة القريبة: (جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الْأَحْزَابِ(11)
وينذر سبحانه بما حدث لمن قبلهم من الأمم على اختلاف قواتهم , فحق عقاب الله على كل من كذب الرسل: فهؤلاء المفسدون الذين استكبروا بقوتهم, بقوة في أجسامهم أو في جيوشهم وجنودهم, جمعهم الله في آية واحدة.. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ(12) فقوم نوح كانوا هم أظلم وأطغى (سورة النجم) وأصروا واستكبروا استكبارا, وعاد اتبعوا أمر كل جبار عنيد, واستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ( سورة فصّلت) , وفرعون ذو الأوتاد الذين طغوا في البلاد, فأكثروا فيها الفساد(سورة الفجر) واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق.
وهؤلاء الفجّار الذين خالفوا في تصرفاتهم المالية والخلقية, جمعهم الله في آية واحدة. (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ(13) فثمود الذين جابوا الصخر بالواد(سورة الفجر), وقوم لوط الذين أتوا الفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين, وأصحاب الأيكة, من قوم شعيب لم يكونوا يوفون الكيل , وكانوا من المخسرين في الميزان , وكانوا يبخسون الناس أشياءهم.
وكل من المجموعتين كذب الرسل, الذين كانوا يدعونهم إلى عدم ظلم الناس, وإلى الخلق القويم والمعاملات المستقيمة. فحق عقاب الله على الذين كفروا. (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ(14) وهذا التصنيف للأحزاب الفاسقة عن أمر الله, تمثّل طغيان القوة بالإفساد في الأرض, والفجور في فساد الخلق والمعاملات.
وأولئك الأحزاب, كلهم مهزومون, فالذين كفروا من تلك الأمم السابقة, وهم من الأوائل الأقدمين, الذين كانت توجه لهم الدعوة فردا فردا, وكانوا منحصرين في زمان ومكان محدودَيْن. هزمهم الله وحده لا شريك له بما حدث لكل حزب منهم, من الإغراق أو ممن أخذتهم الصيحة أو من أهلكوا بريح صرصر عاتية, أو من أخذته الرجفة.
أما الأحزاب من الذين كفروا برسالة الإسلام وبرسول الله فهم أيضا مهزومون , ولكنّ لهم عقابا آخر, ليس عقابا فوريا كما حدث لأولئك الأحزاب القديمة.. وإنما هو عقاب بأيدي المؤمنين وليس عقابا نازلا عليهم من السماء كما حدث لسابقيهم. أما عقاب الله, فإنه يدخره لهم في الآخرة.
إن سنة الله في الأخذ على أيدي الكافرين أصبحت الآن متناسبة مع النظام الجديد والمستمر في الزمان, والممتد في المكان, فالذين آمنوا يدعون إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة, ويجادلون الناس بالتي هي أحسن, فيقتنع من يقتنع, ويأبى من يأبى, فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, فإذا حاربهم الذين كفروا, وحاولوا الحيلولة بينهم وبين الناس في عرض الدعوة عليهم, فإن على الذين آمنوا أن يؤدبوهم بأمر الله, ويوقفوهم عند حدهم, وأن يحولوا دون استخدام عزتهم في الصد عن سبيل الله. وتستمر الحياة ويستمر كل الأطراف فيها لا يهلك أحد بسبب عقيدته, وإنما يمنع من محاربة الدعوة, ويأتي هذا المنع بقوة الذين آمنوا وامتلاكهم لأسباب العزة, وبتحكيمهم شرع الله وما أنزله من الحق, فلا يظلم أحد, ولا يؤكل حق أحد, فإن بغى أحد على أحد, فإن الذين آمنوا يردونه إلى الحق ويردعون الظالمين, ويضربون على أيدي المجرمين. أي أن مهمة الذين آمنوا لم تعد لتقتصر على دعوة الناس لاتباع الحق والهدى, ولكنهم مسئولون أيضا عن إحقاق الحق, وحكم الناس بشريعة الله, فيسكن المجتمع وتستقر النفوس آمنة مطمئنة, وبعد ذلك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, وحسابهم على الله.
وبالتالي فإن الله يؤخر إهلاك هؤلاء الذين كفروا إلى يوم الحساب, حيث ينتظرهم صيحة واحدة ما لها من فواق , ليس لها من راحة أو فترات هدوء. (وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ(15) وهذه الصيحة تكون يوم ينفخ في الصور, يوم تقوم الساعة. ومع ذلك فإنهم يدعون بالتعجيل بنصيبهم في الدنيا قبل يوم الحساب.(وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ(16).
ويلاحظ أن الذين كفروا والكافرين تحركوا من موقفهم الابتدائي حيث لم يكونوا يعترفون بالبعث والحساب , فأصبحوا بعد هذه الآيات لا يناقشون موضوع هذه العقيدة , وإنما يعترضون شكلا على عقيدة الإله الواحد, حيث أنهم ما سمعوا بهذا في الملّة الآخرة, ويعترضون شكلا على أن الذكر أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام من بينهم, وفي ذلك اعتراف بأن الله أنزل الذكر , وإنما وجه العجب عندهم في أنه نزل على محمد.
وذكر عقيدة الإله الواحد هنا في سورة ص, تبين النتيجة التي وصلت إلى الكافرين بعد المرحلة السابقة التي توجهت الدعوة فيها إلى كل الناس على اختلاف عقائدهم وطوائفهم, فبينت لهم أنما هو إله واحد , ونفت تأليه اللات والعزى ومناة , ونفت عبادة الملائكة, ونفت طاعة الأقوياء, ونفت الشرك بالله, فرب هذا البيت هو الأحق بالعبادة, ونفت التفرقة بين العقيدة الصحيحة التي جاءت للذين أوتو الكتاب وبين عقيدة التوحيد, فما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفّى , هو ما جاء به محمد عليهم جميعا الصلاة والسلام, إن هذا لفي الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى.
وصلت دعوة الله إلى الناس وعلموا أنها موجهة إلى الجميع, فلا آلهة بحق إلا الله, لا إله إلا الله, إله واحد له الأسماء الحسنى والصفات العليا, وله المثل الأعلى, لا شريك له
(وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ(6), إنهم يدعون الناس إلى الصبر وعدم اتخاذ قرار بشأن العقيدة, بعد أن دعاهم القرآن إلى سرعة الانضمام إلى ركب المؤمنين, وأنذرهم باقتراب الساعة في سورة القمر من قبل.
إن الإيمان بوحدانية الله, لا يقف عند حدود العقيدة والنجاة من النار في الآخرة, ولكنه يتجاوز ذلك إلى الفصل بين الناس في الدنيا, ووضع قياس ومعيار واحد للجميع, أي إدارة الحياة بالحق, والبعد عن الفساد والإجرام.
ولم يكونوا قد عهدوا التوحيد لزمن طويل فاعتبروه اختلاقا وقالوا: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ(7), فقد كانت الملة الآخرة قد حرف أهلها الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به, وقالت اليهود عزير ابن الله, وقالت النصارى المسيح ابن الله, وكانوا في شك من الذكر, يستكثرون أن ينزل الذكر من بينهم على رسول الله عليه الصلاة والسلام, (أأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ(8)
ففند الله لهم كل الحجج المحتملة التي يمكنهم أن يستندوا عليها في رفضهم وتعجبهم لنزول الذكر على من يشاء الله من عباده: إن من يرفض هذا لابد وأن تكون لديه خزائن الرحمة فيعطي منها ويمنع كيف يشاء. فهل للكافرين ذلك؟ (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ(9) أو أن يكون لهم ملك السموات والأرض يتصرفون فيه كيف يشاءون, فهل لهم ذلك؟ (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ(10)