رابطة العصر

0 تعليق 391 مشاهدة

آمن بعض الناس بدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم, وما جاء به من أنباء الآخرة والبعث. وبنى الله الإخلاص في قلوبهم, ونزع منها حب الدنيا وكراهية الموت . غير أنهم ما زالوا أفرادا قليلين. فجمع الله شتاتهم في رابطة واحدة , تجعل كلا منهم يشعر بأنه جزء من كلّ .

فالمسألة تحتاج إلى جماعة مترابطة مجتمعة على الإيمان بالله , الذي يثمر أعمالا صالحة يبنى بها المجتمع وتعمر بها الدنيا, ثم ألا يكون كل فرد وحده و إنما الجميع يد واحدة من أخطأ يجد من يوصيه بالحق , ومن جزع لثقل المسئولية يجد من يوصيه بالصبر.

وفي السور من (الأعلى) إلى سورة الإخلاص يبني الله رابطة العصر بين الأفراد المؤمنين, فيكون مجموعة عمل (الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) وجعل لهم هويتهم الخاصة التي لا تذوب في بقية الناس, وتتربى على العمل ابتغاء وجه الله وحده لا شريك له, لا تخشى فيه لومة لائم

إن منهاج الله في القرآن منهاج عملي حركي جاد, إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض, ولكنه يقيم واقعا عمليا موازيا للعقيدة التي تبنى في القلوب, ويتدرج في البناء خطوة خطوة,

فحين يبدأ تأهيل الإمام وتأهيل فريق العمل معه, يبدأ بإجماليات, ثم يوسع في قاعدة المعلومات, وكلما خطا خطوة وبنى طابقا من طوابق العقيدة, أخذ الإمام والفريق والمجتمع كله في تطبيق هذه العقيدة وتثبيتها بالأمثلة العملية والأحداث الواقعية: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33))

وهو لا يمكث في تأهيل الإمام وفريق العمل حتى النهاية أولا , ثم يبعثهم إلى الناس, ولكنه يسير متوازيا, بين خطوة في العقيدة والنظرية, وخطوة في التطبيق والحركة تثبتها, بين تأهيل الإمام, وبين تأهيل فريق العمل, لا يأمرهم الإمام بشيء إلا وكان أولهم تطبيقا, ولا يأمر فريق العمل الناس بالبر, وينسى نفسه, ولا يقولون ما لا يفعلون.

ومن هنا, نستكمل خطوات المنهاج…

الأعلى:
بعد أن تعرّف الإمام على ربه فقرأ باسم ربه الذي خلق, الذي علّم بالقلم, تأتي سورة الأعلى لتبني الدرس الثاني للإمام وتعمّق معرفته بربه, (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)) ويأمره الله بتذكّر ما يقرأ (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)) ويأمره أن يطبّق ما تعلم على الناس (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)) ويعرّفه على أصنافهم (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)), (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)) ثم يربط حاضره بتاريخه, فكل دعوة الله إلى الناس واحدة منذ فجر التاريخ (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19))

بناءالإخلاص في فريق العمل: (من الليل إلى الإخلاص)
حتى الآن, تم تكليف الإمام وبدء تأهيله, وتم تحديد العدوّ, وتم إعلام الناس بأن الدنيا إلى نهاية وزوال.
عندئذ لابد أن بعضا من الناس الذين بلغهم ذلك, سوف يتأثرون ويستجيبون لداعي الذكر. هؤلاء يتولاهم القرآن بالتربية ويبني فيهم الإخلاص, الذي هو الأساس في فريق العمل, حتى يعمل لله, ويتنزه عن الأغراض الأخرى, ويجتهد في العمل ابتغاء أجر غير ممنون. فيتحرك بهم القرآن من النظرية والاعتقاد إلى السلوك, أولا بأول.

فاستمرت السور من الليل إلى الإخلاص تنشيء هذا الفريق وتدربه على الإخلاص لله, والحياة بهذا الإخلاص.

فتأخذهم سورة الليل للسعي, (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)) ونقلتهم من الإيمان بالحسنى وبأن هناك حياة أخرى فيها جنة وفيها جحيم, إلى ترجمة هذا الإيمان بالتصديق بالعطاء والتقوى, (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)) ثم إلى تحديد أكثر للعطاء المخلص لله, (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)) درس في الإخلاص والعمل ابتغاء وجه الله وحده لا شريك له. وليس لوجه أحد غيره.

وتأخذهم سورة الفجر إلى محاذير هدم الحضارات, التي لا تقتصر على مظاهر المدنيّة والتطوير للمادة وللأرض وزخرفها, ولكنها تربط ذلك بسلوك الإنسان ومدى إصلاحه للدنيا من حوله, فتضرب السورة المثل لأمم بنت مدنيات ومظاهر حضارية في المادة والزخرف, فتلك عاد (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)) حين طغوا وأكثروا الفساد, أهلكهم الله بذنوبهم.

وتأخذهم من الشعور بالتميّز لمجرد امتلاك نعيم في الدنيا, إلى الشعور بالمسئولية عن هذا النعيم, وأنه ابتلاء وليس تشريفا (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا….)
ثم تأخذهم السورة من الشعور بالكرم والنعيم, إلى السلوك القويم الذي ينبغي أن يصاحب الإنسان ذا النعمة بإكرامه لليتيم الضعيف والحض على طعام المسكين, إخلاصا لله, وإلى عدم الانشغال بأكل التراث وبحب المال, فكل هذا سيحاسب الإنسان عليه, والعبرة بالنهاية واطمئنان النفس.

ثم تأتي سورة الضحى لتضع قيمة اجتماعية عالية, وهي الاهتمام باليتيم والمسكين كتدريب على الإخلاص وتطبيقه في أعمال لا يبتغى فيها إلا وجه الله, يبدأها الله سبحانه مع رسوله, ثم يأمره بها (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)) ثم يأمر الإمام بنفس ما أُمِر به فريق العمل (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10))

وتأتي سورة الشرح لتثبيت الجميع, وبذل الوقت والجهد لله, والصبر على ذلك (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8))

وإلى هذا الحد, فإن أفرادا في فريق العمل, بقيادة إمام قد أصبحوا واقعا عمليا, يعمل كل فرد منهم بإخلاص لله, ويعطي, ويصبر انتظارا ليسرين من الله أمام العسر.

وتحتاج هذه المجموعة إلى رابطة تربطهم حتى يكونوا يدا واحدة متعاونة متناصحة متواصية بالحق وبالصبر, كمثل الجسد الواحد, تلك هي رابطة العصر, ومتمثلة في العمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3))

إلا أن هذه الرابطة مازالت بعدُ قليلة في العدد, تحتاج إلى بناء قوة تدافع بها عن نفسها أمام إنسان كنود, لحب الخير شديد, فيأمرها الله في سورة العاديات بالاستعداد للدفاع والتدريب على المواجهة (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)) (والعدو فعل الخيل وما شابهه في الحركة السريعة المتجاوزة الحدّ (وربما ينطبق ذلك على حركة السيارة والطائرة والصاروخ) والعدو والقدح الذي يوري النار, والإغارة صبحا وإثارة النقع والتواجد وسط الجمع, كل ذلك من أعمال القتال, وهي الاستعدادات للمواجهة العنيفة للدفاع عن النفس, في حالة عدم جدوى المواجهة بالحجة والبيان والعقل والمنطق).

وهنا تأسست هذه الرابطة وعلى رأسها وقيادتها رسول الله صلى الله عليه وسلم, الحاضر دوما بما ترك فينا, كتاب الله وسنّة رسوله, وأصبحت جاهزة للنمو والتطور والاتساع, فأعلن الله لرسوله (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)), وهو كثرة الأتباع والأصحاب الذين يتبعونه في الدنيا, حتى يردوا نهر الكوثر في الجنة. وينطبق ذلك على كل إمام بعده يتبعه ويسير على طريقه, ويدل الناس على هداه. فيتزامن إعطاء الكوثر مع تكوين رابطة العمل المترابطة بالحق والصبر.

وفي التكاثر, يحذر الله هذه الطائفة من الذين آمنوا, من أن يلهيهم التكاثر, وأن النعيم الذي يعيشون فيه في الدنيا سيكون موضع مساءلة يوم الحساب, (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)) حتى يؤسسهم على الزهد في ثمار الحضارة والمدنية فلا يلتهون بها عن إخلاصهم لله, وأداء حقه فيها, والاستمرار في العطاء المخلص.

وهنا يختبر الله المؤمنين بسؤالهم عن ماهية الدين والتي تأخذ الإيمان والعقيدة إلى التطبيق في شكل المعاملة الطيبة لأضعف الناس, والعمل الخالص لوجه الله, بلا مراءاة (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7))

فإذا تميزت الطائفة الذين آمنوا, وارتبطت واستعدت للمواجهة, أمرهم الله أن يعلنوا هويتهم واضحة للناس, بلا خوف ولا مهادنة ولا حلول وسط بين الإيمان والكفر, بل استقلال تام (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)) … (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6))

وطمأنهم الله سبحانه أنه قادر على نصرتهم على عدوّ أكثر منهم قوة لا قبل لهم به (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1))

..وإعاذتهم من عدو خفي مستخف شرير (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)..)

…وإعاذتهم من وسواس قد يجد طريقه إلى صدورهم (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4))

حتى وصل بهذه الطائفة إلى الإخلاص لله , والتوجه إليه في كل المطالب والحاجات دون غيره وذلك قمة الإخلاص, فلا تقصد في قضاء حاجاتها إلا (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)) في نهاية مرحلة متميزة من بناء الإخلاص في قلوب فريق العمل قبل الاستمرار في مسيرة بناء الحضارة.

فبناء بغير إخلاص هو بناء واهن, كمثل العنكبوت اتخذت بيتا.

وصدق الله العظيم: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109))

وللمزيد من التفاصيل لكل سورة, اقرأ في هذا الباب بالترتيب الآتي للسور: الليل, الفجر, الضحى, الشرح, العصر, العاديات, الكوثر, التكاثر, الماعون, الكافرون, الفيل, الفلق, الناس, وأخيرا سورة الإخلاص (قل هو الله أحد…)

ولاحظ أن ترتيب أسماء السور التي تحمل أوقات الليل والنهار مرتبة ترتيبا زمنيا فالليل ثم الفجر, ثم الضحي, ثم العصر, وذلك من أسرار ترتيب النزول, والله أعلم

Sub Categories

نريد أن نكون من الذين قال الله فيهم: (ولقد يسرنا القرآن للذكر, فهل من مُدَّكِر!) نحيا بالقرآن, فنتعلم كيف نتدبّره, ونعمل به ونعلمه, كمنهاج حياة, فهو إمامنا نحو بناء الحضارة الإنسانية

روابط المقالات

اشترك

اشترك فى نشرتنا الاخبارية لتتابع جديد المقالات والاخبار

Develop By Quran – Copyright 2012 / 2022 – All Right Reserved

arArabic