مقدمة:
سورة الأحزاب نزلت بالمدينة المنورة بعد سور البقرة والأنفال وآل عمران, في الفترة بعد غزوة بدر وإلى ما قبل صلح الحديبية, وفيها يدخل الله سبحانه قلوب عباده المؤمنين في حكمه والتسليم له وحده لا شريك له, بعد أن أسلمت له أعناقهم,
فيكون بذلك الإسلام والتسليم الظاهر والباطن لله رب العالمين.
في سورة البقرة قال الله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) فينشئ الله سبحانه الدولة التي يحكمها القرآن, ويكون الحكم فيها لله بموجب كتابه الذي لا ريب فيه, أو فلنقل: الحكم والولاء فيها لكتاب الله, أو أن القانون السائد المتبع والدستور الحاكم للدولة هو كتاب الله, ومن يخرج عن حكمه داخل الدولة يقاتًل حتى لا تكون فتنة, وحتى لا يمشي كل إنسان على هواه؛ فتصير الفوضى في البلاد.
ثم في سورة الأنفال: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) فيشرع القتال للدولة ضد أية دولة تعتدي أو تهدد دين الله, حتى تقيم الميثاق مع دولة الإسلام, وحتى تسمح لمن أسلم لله أن يقيم شعائره كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم («أُمِرْتُ أن أُقاتِلَ الناسَ حتّى يَقولوا لا إلهَ إلاّ اللهُ، فإذا قالوها، وَصَلُّوا صَلاتَنا، واستَقْبَلوا قِبلتَنا، وَذَبَحوا ذَبيحتَنا، فقد حَرُمَتْ علينا دِماؤُهُم وأموالهُم إِلاّ بِحقِّها، وَحِسابُهم على اللهِ».(390البخاري) ولا يتأتى ذلك إلا في وجود دولة مسلمة قوية تدافع عن حقوق المسلمين في العالم وحريتهم في ممارسة عقيدتهم بسلام, وكما جاء تفصيلا في مدارسة سورة الأنفال.
بذلك يمكن تصنيف العالم إلى دولة يحكمها كتاب الله, ودول متعاهدة معها, على الاحترام المتبادل للعقيدة والشريعة الخاصة بالمواطنين والمقيمين في كل دولة, و دول لا تخضع للمعاهدات, ويحتمل الاصطدام بها إن لم تحترم عقيدة وشريعة المسلمين فيها فتمنعهم من استقبال القبلة وذبح الذبائح على شريعة كتاب الله القرآن. وهذا ما يتوافق مع حقوق الإنسان في اختيار وممارسة العقيدة التي يعتنقها دون قهر, وكما نرى الدول القوية تدافع عن حقوق مواطنين في دول مستقلة يُقهرون في دينهم وعقيدتهم. والقاعدة في كتاب الله أن لا إكراه في الدين.
ثم في سورة آل عمران, يتم الإعداد والتجهيز للمستقبل قبيل قيام الساعة, لإقامة سلطان وحكم دين الله وكتابه على كل دول العالم, وذلك على يد عيسى ابن مريم _ عليه وعلى رسولنا الصلاة والسلام, كما قال الله له (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليك ومطهرك من الذين كفروا, وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة). والإعداد يبدأ من أن تنذر الأم الحامل ما في بطنها محررا لله, ويطلب الرجل من الله أن يهبه من لدنه ذرية طيبة ترث مسئولية دين الله. ثم تستمر في المقاربة بين الذين آمنوا بآيات الله, الذين سيكونون جنبا إلى جنب حين يُبعث فينا عيسى عليه السلام, وتستمر دعوة الذين كفروا بآيات الله وإنذارهم حتى يتقارب الناس نحو دين واحد يحكم الجميع, ويكون الدين في العالم كله لله, أي الحكم لكتاب الله, فيحيا الناس على اختلاف عقائدهم في كل البلاد في كنف وحكم الإسلام وكتابه القرآن, الذي يبيح لكل صاحب عقيدة أن يمارس عقيدته, ويتيح جو الحرية للجميع, من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
ثم في سورة الأحزاب, يتجه دين الله إلى أن يحكم قلوب عباد الله المؤمنين, فتتوحد على الإسلام لله والتسليم الباطن المطلق له سبحانه, واتباع المنهج الذي اختاره, والتوكل عليه وحده والاطمئنان إلى حمايته ونصرته, كما أسلمت ظاهرا لدين الله وحكمه, حتى يكون هوى القلوب تبعا لما جاء به وحي الله على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلم.
وحين يتحقق وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يستخلفهم في الأرض, فإنه يتحقق أن يقيموا الدين كله لله – الحكم
على الناس كلها- لشريعة الله وقوانينه, ويتحقق أيضا أن يكون الدين – الحاكم لقلوب المؤمنين دون غيرهم – لله أيضا, فتستقر وتطمئن قلوبهم على ذلك, فيكون ظاهر المؤمنين وباطنهم كله لله, فينقسم الناس في دولة الإسلام حيندئذ إلى مؤمنين مسلمين لله ظاهرا وباطنا, وغير مؤمنين بالله, أحرار غير مكرهين على أية عقيدة يختارونها, ولكنهم مسلمون للدولة التي دستورها كتاب الله.
ولنقل إن هذه الفرصة العظيمة تتاح للقلوب المؤمنة أو توجه لها, حتى تعلم أنه حين يسلم القلب لله, يكون قلبا سليما, وتكون أوامره ونواهيه وحبه وكرهه وهواه لله رب العالمين لا شريك له, ويكون بينه وبين الله عهد ووعد يُحترَم محبة واختيارا.