فاتحة السورة:
بسم الله الرحمن الرحيم
- يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ
- وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
- وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
- وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
تبدأ سورة الأحزاب بأمر الله للنبي بتقوى الله, وعدم طاعة الكافرين والمنافقين, واتباع ما يوحى إليه من ربه, والتوكل على الله.
فالقلب الذي تحتويه تقوى الله, ويتبع وحيه, ويتوكل عليه, يكون قلبا مسلما لله, يكون أشد حبا لله, ولا يجتمع فيه طاعة الله مع طاعة غيره, ولا ينافق, ولا يخالف أمر ربه, ويكون هواه تبعا لوحي الله وطاعته. هنا يصل القلب إلى الاستقرار والهدوء, وعندئذ لا يهتز عند أية ظروف مهما صعبت, ولا يضطرب خوفا من أية مشكلات أو ضغوط ولو ثقلت.
إن الإسلام عقيدة في الله ينتج عنها تقواه, تنبثق منها شريعة بما أوحى الله لرسوله, ويقوم عليها نظام واجب الاتباع. وهذه الثلاثة مجتمعة مترابطة متفاعلة هي الإسلام, فتستقر به القلوب وتتوكل على الله وكفى بالله وكيلا, وتثق في ربها مهما تعرضت له من مخاطر وفتن وابتلاءات.
وصاحب العقيدة لا يملك أن تكون له عقيدة حقا , ثم يتجرد متعمدا من مقتضياتها وقيمها الخاصة في موقف واحد من مواقف حياته كلها , صغيرا كان هذا الموقف أم كبيرا . لا يملك أن يقول كلمة , أو يتحرك حركة , أو ينوي نية . أو يتصور تصورا , غير محكوم في هذا كله بعقيدته – إن كانت هذه العقيدة حقيقة واقعة في كيانه – لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد , يخضع لناموس واحد , ويستمد من تصور واحد , ويزن بميزان واحد .
ولا يملك الإنسان أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين ; ويستمد شرائعه وقوانينه من معين آخر ; ويستمد أوضاعه الاجتماعية أو الاقتصادية من معين ثالث ; ويستمد فنونه وتصوراته من معين رابع . . فهذا الخليط لا يكون إنسانا له قلب . إنما يكون مزقا وأشلاء ليس لها قوام !
(مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ..)
ولا يخضع المؤمن لقلبه وتقلباته, حتى إن كره زوجته ظاهر منها حرمها وقال لها (أنت عليّ كظهر أمي) (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ..)
كما أنه لا يخرج بهواه وحبه عن شريعة الله وقوانينه, فينسب ابنا لنفسه بالتبني, ويخلطه مع أبنائه الحقيقيين.. (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
ولكنه يؤمر بأن يدعو كل ابن لأبيه, فإن لم يعلم أباه فيدعوه أخا له في الدين (ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ..)
ومن الطبيعي أن الإنسان يخطئ ويصيب, فلا يؤاخذه الله بخطئه, بل بمغفرته ورحمته وعفوه, ولكن الله يحاسب على ما تعمدت القلوب (.. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
ولكي يكمل إيمان المؤمن لابد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يكون حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من حبه لنفسه وماله والناس أجمعين, فيسلم قلبه لحب الله ورسوله.. (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ..) وقد ثبت في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه، وماله، وولده، والناس أجمعين».
ورسول الله يأخذ هذه الولاية من باب المسئولية عن المؤمنين, وتحمل ما يقصرون فيه.. وأخرج البخاري، وغيره عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ما من مؤمن إلا، وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم {ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْۖ} فأيما مؤمن ترك مالاً، فلترثه عصبته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني، فأنا مولاه».(الشوكاني)
كما أن أزواج النبي رضي الله عنهن, يتحملن مسئوليات المؤمنين تحمل الأمهات لمسئولياتهن عن أبنائهن, فيعلمنهم أمور دينهم, وينقلن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام الدين, ويروين حديثه ويعشن سنته.. (… وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ..)
ثم يعيد الله الأمور في المدينة إلى حقيقتها ونصابها, بعد أن تآخى الأنصار والمهاجرون, وآووهم ونصروهم, ولكي لا تتمادى القلوب في الميل يضبطها الله حتى لا تختلط الدماء والمواريث والأرحام (… وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
وهنا بدأ الله بالنبيين, ليحكم قلوبهم وسلوكهم, فأخذ منهم ميثاقهم, وسوف يسألهم يوم القيامة بموجب هذا الميثاق…
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
وفي سورة آل عمران يبين الله ماهية الميثاق الذي أخذه من النبيين: {وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ
ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ} (آل عمران: 81)