يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) يوسف
هذه رؤيا الملك, وهذا تأويل يوسف عليه السلام.
● تُرى كيف ربط يوسف بين رموز الرؤيا وتأويلها؟
● بماذا ترمز البقرات, وبماذا ترمز السنبلات؟
● في سورة البقرة سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة, وفي سورة يوسف سبع سنبلات, فما الفرق بين سنابل وسنبلات؟ علما بأن العدد سبع في كل حالة..
● كيف استنتج يوسف أنه يأتي من بعد ذلك عام؟ أيمكن استنتاجه من رؤيا الملك؟
● وما الفرق بين السنة والعام؟
● وكيف توصّل يوسف إلى الخطة طويلة المدى عبر خمسة عشر عاما؟
لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة, فإن الأمر يستلزم بحثا في القرآن والحديث واللغة العربية.
البقرات والسنبلات, دورة النشاط الإنساني:
البقرات من الأنعام, يقول الله فيها:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71)وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72)وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ(73) يس
فالأنعام هي مما عملت أيدي الله سبحانه وتعالى, لا شريك له. وتبدأ بعد ذلك قصة الناس معها, فهم لها مالكون, وذللها الله لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون, ولهم فيها منافع ومشارب. وأمام كل ذلك على الناس أن يشكروا الله بالعمل في استثمار نعمه في رضاه.
والسنبلات من الزرع الذي ينتج الحب, يقول الله فيه:
وَآيَةٌ لَهُمْ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33)وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ(34)لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ(35)يس
فالله بسننه الكونية يجهّز الأرض, ويهيئ الحب وظروف الإنبات وعيون الماء, فيعمل الناس بأيديهم لاستنبات واستزراع النخيل والأعناب والشجر, والزرع, حتى يخرج الثمر والحب, ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم.
النخيل والأعناب له ثمر, والثمر يزرع شجره وينمو على مدى سنين, ثم يظل يثمر عمرا طويلا بإذن الله. يأكل منه من زرعوه ويأكل منه الذين جاءوا من بعدهم عدة أجيال.
أما الحب, فإنه ينتج من عمل دءوب مستمر ويأكل منه نفس الجيل الذي زرعه, بل إنه ينتج خلال أشهر من زراعته, فيأكل الناس مما عملته أيديهم.
وهناك فرق بين الأنعام مما عملت أيدي الله سبحانه, والحب مما عملت أيدي الإنسان, بعد أن تهيئ سنن الله الظروف له للعمل.
إذن فالبقرات تدل على عطاء الله الذي لا دخل للإنسان فيه, والسنبلات تدل على عمل الإنسان فيما هيأه الله له من نعمه وأسبابه.
والبقرات السمان, فتح يفتحه الله للناس من رحمته, بتهيئة الظروف والأحوال التي لا يد للإنسان فيها, مثل الظروف الجوية والمناخية, واكتشاف الخامات والوقود, والرواج الاقتصادي, وكل ما لا دخل للإنسان الفرد فيه.
وعلى الناس حيالها أن يعملوا دأبا لاستثمار نعمة الله. تشير إلى عملهم هذا السنبلات الخضر.
وما ينتج عن عملهم من رزق أو إنتاج, عليهم أن يتصرفوا فيه بحكمة دون إسراف وتبذير, فيدّخروه إلا قليلا مما يأكلون.
والبقرات العجاف, إمساك الله فلا مرسل له من بعده, فمن سنن الله أنه يغير الظروف فلا يدوم للناس حال واحد. وكما منح الله من عطاءاته ونعمه, فإنه يعقبها بالمنع بسنين شداد, يأكلن ما قدم الناس لهن إلا قليلا مما يحصنون, يشير إلى ذلك السنبلات اليابسات.
ثم يعقب ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون.
هذه إشارة إلى دورة النشاط الإنساني كسُنّة من سنن الله في خلقه, مثلما أن له سننا في الليل والنهار, وفي الصيف والشتاء, وفي المنع والمنح, وفي تداول الأيام بين الناس.
وبهذه السنّة, يربّي الله خلقه ويرشِّد تصرفاتهم.
فلو أن الظروف سارت على وتيرة الرخاء, فإن من الناس من يعمل بجد واجتهاد, ومنهم من يكسل, فبالعمل القليل في زمن الرخاء يحصل الإنسان على نتائج كثيرة ورزق واسع.
ثم يختلف الناس أمام الرزق, فمنهم من يرشّد تصرفاته فلا إسراف ولا تبذير, ومنهم من يسرف ويبذّر ولا يحسب لاختلاف الزمن والظروف حسابا.
وحيث أن العدوى تنتقل من المريض إلى السليم, فإن الكسل والإسراف والتبذير تنتقل عدواه إلى كثير من الناس. ولو ترك الله الناس على هواهم, فإن العدوى ستنتشر, ويقل العاملون وتبدد الثروات.
ولكن الله رب الناس الذي يربيهم ويسن لهم من سننه ما يصلح به أحوالهم, يأتي سبحانه بسنين شداد, يأكلن ما قدم الناس لهن من مدخرات أثناء فترة الرواج والرخاء. فيجد الإنسان نفسه وهو لا يحصل على رزق إلا بالمزيد من النشاط, فيعالج بذلك الكسل. ويجد المسرف نفسه يقعد ملوما محسورا على ما ضيع من نعم الله وما عطّل من طاقته, فيبدأ في ترشيد تصرفاته ويتعلم المحافظة على نعمة الله واستثمارها, فيعالج بذلك الإسراف.
وهكذا يصيب الله النشاط الإنساني بدورة عكسية تؤدب الناس وتهذبهم, ويخرج الناس بعدها وهم أكثر نشاطا وأقل كسلا, وهم أكثر رشدا وأقل سفها وإسرافا وتبذيرا. وبهذا يستمر الخط الصاعد لنشاط الناس في الدنيا وترتفع معدلات النمو والتطور:
.. حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(24)يونس
ولن تصل الدنيا إلى زخرفها وزينتها, وهو تطوير المكان والمادة, ولن يصل الناس إلى الظن أنهم قادرون عليها, وهو القدرة والتحكم والإدارة وكلها معايير للنشاط الإنساني, إلا بنشاط وبرُشد, فإذا بلغوا أقصى ما يمكن من نشاط يزخرف الدنيا ويزينها, ويجعلهم يتحكمون إداريا فيها فيظنون أنهم قادرون عليها, فإن أمر الله يأتي فينهي الدنيا وينشئ الآخرة, فلا داعي عندئذ لوجود الناس على الأرض حيث لاعمل ولا اجتهاد بعد ذلك. ثم يبدأ الحساب أمام مالك يوم الدين.
ويتغير سلوك الناس تماما بسبب السنوات الشداد, فبدلا من اقتصار نشاطهم على الزراعة والحصاد خلال فتح الله من رحمته(تَزْرَعُونَ … حَصَدْتُمْ) فإنهم يخرجون من السنين الشداد, وهم (يَعْصِرُونَ). ولا يأتي العصر إلا من بعد زراعة وحصاد, ثم وفرة في الإنتاج, ثم استيعاب للدرس بأن يتطور فكر الناس ونشاطهم, فيدخرون جزءا من الإنتاج ويتعلمون كيف يعصرونه, ويتم ذلك بنشاط صناعي, بأدوات للعصر, وإنتاج عبوات لتعبئة العصير, والتوصل إلى معرفة أساليب الحفظ والتخزين بعد العصر.
كل ذلك لم يكن ليحدث لولا الأزمة الاقتصادية التي يمر بها الناس في زمن الركود والكساد.
إن رؤيا الملك ليست قصة تاريخية فحسب, وإنما هي إشارة إلى أمر متكرر في التاريخ الإنساني, وإشارة إلى دورة تشمل كل النشاط الإنساني وليس الاقتصاد فقط, وتعم كل الناس في أرض الله, فيصاب النشاط الإنساني لأسباب متعددة في كل بلاد العالم, وفي كل نوعيات النشاط, دون اتفاق بين الناس, وبالتالي فهو من أفعال الله المهيمن القاهر فوق عباده.
وهي دورة مرصودة في تاريخ الإنسانية, تتكرر, ولكن ليست دورية محددة المواعيد ولا محددة المدة, بل تتراوح فترات مكوثها تاريخيا بين أكثر من عام, وبين أقل من اثني عشر عاما طبقا لما تم رصده في تاريخ الاقتصاد الأمريكي على سبيل المثال .
ويمكن تصور مسار النشاط الإنساني بالمنحنى الصاعد الآتي, حيث تشكل كل دورة منه رافعة للنشاط, في اتجاه مستمر الصعود وصولا إلى زخرف الأرض وزينتها, وظن أهلها أنهم قادرون عليها.
والملاحظ في منحنى النشاط الإنساني أنه في اتجاه إلى الصعود دائما, رغم وجود فترات من الهبوط بالركود والكساد, يعمل فيه الأفراد والشركات والمؤسسات والحكومات على إزالة أسباب التعثُّر, ودراسة أسباب الفشل والخسارة, والتخلص من كل ما يعرقل النمو, وذلك كله تحت وطأة الظروف العصيبة التي يصاب بها كل أوجه النشاط الإنساني, في مقاومة عنيفة للهلاك والانهيار, وقد ينهار البعض من الذين لا يستطيعون الصمود والإصلاح, ومن الذين لا يبحثون في الأسباب, ولا يستمعون للنصيحة, ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون. وبعد فترات الركود والكساد, يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون, فترتفع معدلات النمو ويأتي الغوث ثم يأتي الرخاء من بعده, فيستقبله الجميع بقوة الدفع التي نتجت عن النشاط, ويتصرف الجميع بعد استيعاب الدرس, بحكمة وخبرة مواجهة الأزمات, حتى يبدأ الناس في التسيب مرة أخرى, فيعيد الله الكرة عليهم, وإن عادوا عاد الله بسننه, سبحانه هو العليم الحكيم
سبع سنابل وسبع سنبلات:
ما الفرق؟
إن سبع سنابل في سورة البقرة, ناتجة من حبة واحدة, من أصل واحد, وبالتالي فإن كل سنبلة تنتج منها هي مشابهة لبقية إنتاجها من السنابل, فلا يمكن التمييز بينها, ويكون جمع سنبلة وسنبلة وسنبلة, هو سنابل.
أما السنبلات السبع في سورة يوسف, فإنها ناتجة من زراعة ناس كثيرين, في أزمنة مختلفة, فيكون ناتج سنبلة وسنبلة وسنبلة, هو سنبلات مختلفات عن بعضها, ويسهل التمييز بينها. فهذه سنبلة الوجه البحري, وهذه سنبلة الصعيد, وهذه سنبلة الواحات. وفي ذلك إشارة إلى جهود متوالية دأبا. واختلافها يقويها ويقوي الناتج منها.
كيف استنتج يوسف أنه يأتي من بعد ذلك عام؟
إن تحديد سبع سنين للرواج, يحدد موعد بدء السنين الشداد بعد انتهاء السنين السبعة, وتحديد عدد السنين الشداد, يحدد نهايتها, وبالتالي فالعام التالي لها هو عام رخاء, بعد انتهاء سنين شداد.
فلو أنك عاقبت عاملا بالتوقيف عن العمل لمدة سبعة أيام, فإن معنى هذا أنه مسموح له بالعمل في اليوم الثامن.
ما الفرق بين السنة والعام؟
العام والسنة عدد أيامهما واحد.
إن السنة هي عدد أيام من أي يوم بدأت عدها, فلو قصدنا السنة الميلادية, فإن عدد أيامها هو 365.25 يوما. ولو بدأنا العد من أول يوليو, فإن مرور سنة يعني الوصول إلى أول يوليو من السنة التالية, أما لو بدأنا من 7 أغسطس فإن مرور سنة يعني الوصول إلى 7 أغسطس من السنة التالية, وهكذا.
أما العام, فهو بداية معروفة محددة, ونهاية معروفة محددة ليس لها أية علاقة بالعادّين, وإنما هو مرتبط بالكون, فمثلا العام الميلادي بدايته أول يناير دائما, والعام المالي في بعض الدول ولدى بعض الشركات هو أول يوليو من كل عام دائما, والعام القضائي يبدأ دائما من أول أكتوبر وهكذا.
ولهذا فإن الفرق بين السنة والعام في بعض معاجم اللغة العربية هو أن العام فيه صيف كامل وشتاء كامل, أما السنة فهي تبدأ من أي لحظة تعدّ.
العام مرتبط بسنن الله الكونية, والسنة مرتبطة بالعادين, منذ لحظة العد.
وحيث أن السنين الشداد متشابهات من حيث أنهن شداد, ولا تستطيع تحديد ملامح واضحة لهن, فإن استمرارهن دون بادرة للنهاية, قد يصيب الناس بالإحباط ويفقدهم الحماس لاحتمالات المستقبل ونزول الغيث. ولكن حين يقول الله: ثم يأتي من بعد ذلك عام, فإن هذا يعني أن الغيث إنما يبدأ من عام, أي يبدأ من موسم من المواسم, الصيف أو الشتاء أو الربيع أو الخريف, من بداية لا تتعلق بالناس, وإنما تتعلق بالكون, يتحدد بيد الله سبحانه وحده لا شريك له, ولا دخل للإنسان ونشاطه فيه. وبالتالي فإنه لو دخل موسم الصيف مثلا دون أن يبدأ ظهور بوادر الحل والغيث, فإن الناس ينتظرون ويصبرون وهم يعملون على أمل أن يأتي الغيث مع الموسم التالي, فيظلون يعملون وأمامهم الأمل أن الحل يأتي ربما بعد بضعة أشهر, والانتظار إلى أجل محدد خير من الانتظار بلا أمل.
من هنا, فإن يوسف عليه السلام, أوّل الرؤيا إلى خطة عمل تشمل كيفية التصرف في السنين التي يفتح الله فيها للناس من رحمته, فيوصي فيها بالعمل دأبا رغم الوفرة وسهولة الحياة ويسرها. وبعد الحصول على الرزق فإن على الإنسان ألا يأخذ منه إلا بالقدر الذي يكفي لطعامه وشرابه وضرورياته, دون إسراف ولا تبذير, رغم الوفرة والكثرة في الرزق.
حتى إذا ما أمسك الله سبحانه, ما لا مرسل له من بعده, فإن الإنسان الذي تصرف برشد وحكمة أيام الوفرة, سيجد ما قدم وادخر, فينفق منه أثناء السنين الشداد, ولا يحتاج إلى أن يقترض أو أن يذل نفسه لبشر.
أما الإنسان الذي كسل وقت الوفرة, فإنه سيجد نفسه مضطرا للعمل حتى يحصل على حاجاته الضرورية, ولكنه في هذا الوقت لن تكون لديه خبرات للعمل بسبب كسله وتقصيره السابق, إلا إنه سيبدأ في اكتساب الخبرة واكتساب المعيشة.
وأما الإنسان الذي أسرف وبذّر في وقت الوفرة, فإنه لن يجد مدخرات ينفق منها ويتقوت منها في السنين الشداد, فيدرك سوء تصرفه, ويتعلم الاقتصاد والترشيد والادخار, ويترك الإسراف, ويتحسّر على مافرط, وتكسبه الأزمة حكمة التصرف والرشد.
وبهذا فإن السنين الشداد وزمن الكساد, هو نعمة من الله ورحمة, وله فوائد على الإنسان جمّة.
ونجد سنين الرواج والوفرة تنمو فيها المادة وتتزين الأرض, ونجد سنين الشدة تنمو فيها قدرات الإنسان ويرشد تصرفه, في خط تبادلي صاعد, لا غنى بجزء منه عن جزء. موجة ترفع المادة والأشياء, وموجة ترفع الإنسان والطاقات. وسبحان رب العالمين الذي يربي خلقه بسننه, ولا يتركهم سدى فيهلكون أنفسهم.
يخرج الإنسان من زمن الكساد أكثر تدريبا وتأهيلا, ويخرج أكثر رشدا وحكمة في التصرف في نواتج عمله وفوائض رزقه.
فالعام التالي لزمن الكساد, فيه يغاث الناس, أي ينقذون من الهلاك, وذلك من أفعال الله وحده لا شريك له. وفيه يعصرون, وهذا من أفعال الناس بتوفيق الله. لقد تعلموا الاستفادة من الفائض, وعصره بآلة, وتعبئته في عبوات, وحفظه لينفع في وقت الشدة, وعمل عاملون في العصر والتعبئة والحفظ, وحُلّت أزمة البطالة, فارتفعت قيمة الإنسان وعمله في زمن الكساد.
وهناك أمثلة حية عاصرناها في السنوات الماضية, تؤكد الأفهام من حكمة الله البالغة…
في زمن شركات توظيف الأموال في مصر, كانت تلك الشركات تعطى عوائد تفوق عوائد العمل الطبيعية في مثل هذه الأحجام من الاستثمارات, وتفوق بمراحل النسب التي تعطيها البنوك على الاستثمار, وتفوق النسب التي يمكن لأفراد أو شركات صغيرة تحقيقها.
ورأيت وعاصرت شبابا من المهندسين ذوي الكفاءة العالية, يتركون العمل, ويودعون أموالهم في هذه الشركات لتحقيق عوائد فائقة, ثم هم يخرجون كل يوم لتوصيل أطفالهم إلى المدارس ثم شراء الصحف اليومية, والذهاب إلى إحدى الأندية الاجتماعية يمكثون فيها بلا عمل يقرأون الصحف, حتى يحين موعد العودة من المدارس, ثم تناول طعام الغذاء والراحة من الراحة, وهكذا. فلما حدث ما حدث, وتوقفت الشركات عن صرف العوائد المستحيلة, بل وضاعت الودائع والاستثمارات, نزل هؤلاء الشباب إلى سوق العمل مرة أخرى, وفجروا طاقاتهم منشآت ومشاريع نافعة, عمل فيها العاملون والموردون والمحاسبون والموظفون وحصلت منهم الضرائب والتأمينات والرسوم, وسكن السكان ولم شمل الأسر والأطفال, وبنيت الخبرات والمهارات, (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(50) الروم.
وفي الأزمة الراهنة, والدورة الحالية للكساد, من لم يع حكمة الله منها, ويتعلم كيف يؤهل نفسه لمرحلة ما بعد الأزمة, ومن لم يستعد لاستقبال عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون, ومن لم يتعلم كيف يرشّد ماله وإنفاقه, فإنه سيصاب مع الناس بإصابات زمن الكساد, ثم لن ينتفع بدروسه وحكمة الله منه, فيستقبل الغوث وهو على حاله.
إن سورة يوسف عليه السلام ليست مقصورة على قصة تاريخية حدثت مرة في التاريخ وكفى, فكم من ملوك رأوا الرؤى, وكم من مؤولين أولوها لهم. ولكن قصص القرآن عبرة لأولي الألباب, ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء, وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.