ربَّى يعقوب أولاده على الطاعة
فحين تناقش الإخوة العشرة في كيفية استحواذهم على اهتمام أبيهم دون يوسف , فاستعرضوا فكرة قتله , أو طرحه أرضا أي يلقون به في أرض بعيدة , لا يستطيع العودة منها إلى أبيه .
وهم يعلمون أن هذا الفعل فاسد, فيقولون (وتكونوا من بعده قوما صالحين)
وتدرجوا من العنف الشديد إلى الأقل عنفا , من القتل إلى الطرح أرضا.
ثم قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف , وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة – متمنيا له السلامة — مشككا في جدية التنفيذ )إن كنتم فاعلين(. ثم أجمعوا على ذلك.
كان بإمكانهم أن يختطفوا يوسف من أبيه ويفعلوا فيه ما يشاءون , ولكنهم ذهبوا إلى أبيهم يراودونه عن يوسف , ويبينون أن أباهم لم يكن يأمنهم على يوسف , ويقنعونه بالموافقة لهم على اصطحاب يوسف معهم.
هذا يدل على أن يعقوب ربّى أولاده على الطاعة وعدم فعل شيء دون موافقته , , إنه رباهم على التقدم بطلبهم إليه ومناقشته في الحيثيات وسوق الحجج إليه , وأخيرا؛ الالتزام بما يأمر به ولو ظاهريا , حتى لو كان في نيتهم مخالفة الأمر , ولكنهم أمام أبيهم لا يجاهرون بالعصيان.
لقد اتضح ذلك أيضا في أواخر القصة , حين قالوا يا أبانا مُنع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون. وكان أخوهم حينئذ رجلا, وأبوهم شيخ كبير , ولكن ظلت العلاقة كما رباهم عليها يعقوب عليه السلام , يستأذنون, فيأذن لهم أو يناقشون ويسوقون الحجج , ولا يذهبون برأيهم من أمام أبيهم إلا بعد موافقته.
وحين اشترط عليهم أن يؤتوه موثقا من الله قبل أن يرسل أخاهم معهم , آتوه موثقهم
وهذه العلاقات لا يمكن أن تنشأ على الكبر , فإن لم يتعود عليها الأبناء من الصغر , فلن يعتادوها أبدا. فمن منا – مثلا – يستأذن أباه أو أمه قبل أن يأخذ أحد إخوته إلى سفر أو مصيف , خاصة والجميع صاروا كبارا , ولم يعد أحد منهم دون البلوغ؟
إذن فيعقوب عود أبناءه على الطاعة الظاهرة , وهي لازمة من لوازم إدارة أي جماعة من الناس , بدءا من الأسرة , ومرورا بأية وحدة إدارية , وحتى رئاسة الدول , وانتهاء بمن له المثل الأعلى جل شأنه الله العلي الكبير.
لابد من طاعة ولي الأمر, ولو لم يتفق كل المرءوسين معه ,
إن لهم أن يعرضوا وجهة نظرهم, ولهم أن يناقشوه, وأن يعترضوا عليه, ولكنهم طالما كانوا تحت رئاسته , فلابد في النهاية من طاعته , أو الخروج من ولايته وبالتالي عدم التمتع برئاسته ورعايته
وقبل أن يجعل الله آدم في الأرض خليفة , أعلن الملائكة بذلك, وقبل تحفظهم شكلا , و أقام عليهم الحجة , ثم أمرهم بالسجود له ,سجود توقير وطاعة , فسجدوا إلا إبليس أبى , فأخرجه الله من رحمته مذءوما مدحورا , وجعله هو ومن تبعه في جهنم أجمعين.
هذا خلاف ما حدث مع آدم الذي عصى نسيانا وضعف عزيمة , ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى.
ويقول الله سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(65) النساء.
كما يقول سبحانه: (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285)البقرة
وقال (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(83)آل عمران
وقال للأزواج (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا(34)النساء
وقال عن المنافقين (مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا(46)النساء
وقال سبحانه في الطاعة العامة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(59)النساء
مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا(80)النساء
وحذّر من الطاعة العمياء (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(116)الأنعام
وحذر من طاعة الشياطين وأوليائهم (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(121)الأنعام
وجعل طاعة الله ورسوله من سمات المؤمنين والمؤمنات, ومن مجلبات الرحمة (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71)التوبة
بل إن كل من في السماوات ومن في الأرض يسجدون لله, طوعا وكرها (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ(15)الرعد
وحذر من طاعة الغافلين عن ذكر الله: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)الكهف
وانتقد سبحانه وتعالى من يتخيرون في طاعتهم حسب رأيهم, فيطيعون لمصلحتهم, ويتولون إن لم يروا مصلحتهم في الطاعة (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47)النور
أما المؤمنون, فإنهم لا خيار لهم أمام طاعة الله ورسوله: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(51)النور
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(54)النور
وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ(151)الشعراء
وطاعة الوالدين طالما لم يأمراه بمعصية أو بشرك (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(8) العنكبوت
(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ(66)الأحزاب
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ(67)الأحزاب
والأرض والسماء أتيا الله طائعين (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11)فصلت
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(54)الزخرف
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ(26)محمد
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ-الحجرات7
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ(10)القلم
سنة الله في الإنسان أن يعمل ما يشاء , وأن يترك ما يشاء. أن يقول ما يشاء , وأن يصمت إن شاء. أن يكون مخيرا في قراره, مسئولا عنه , محاسبا عليه. فله أن يختار أن يطيع أو أن يعصي , أن يعارض أو يسلّم , أن يتفق أو يختلف.
والإنسان يعيش في مجتمعات , ولا يوجد من يعيش وحده , أو من يستغني عن الناس
والاختلاف سنة الله في خلقه , ولا يزالون مختلفين , إلا من رحم ربك , ولذلك خلقهم.
فإذا جمع الناس مكان واحد , أو مصلحة واحدة , أو عمل واحد , فإنهم لابد لهم من الحد الأدنى من الاتفاق على ما يختلفون فيه أو على الأقل أن يتفقوا كيف يحسمون الأمر عند الاختلاف. فالاستمرار على الاختلاف لا تقر معه حياة , ولا تصلح معه معيشة, و الطاعة هي أساس استقرار الحياة الاجتماعية و الجماعية
والمعصية هي بداية الصراع والهلاك.
ولو استعرضنا نوعيات خلق الله من هذه الزاوية , زاوية الاختيار بين الطاعة والمعصية , فسنجد أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
والسماء , حين قال الله لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين.
أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون. أي أن الظلال تتفيأ سجدا لله رغم أنف أصحاب الظلال أنفسهم
ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض والشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب , وكثير من الناس , وكثير حق عليهم العذاب.
والسجود هو قمة الطاعة والانقياد والاستسلام والذل والخضوع والاطمئنان. وكلها صور مختلفة من الطاعة , بالإرادة أو كرها , باقتناع أو بقهر.
إذن فالإنسان هو الكائن الذي أعطاه الله هذا الحق , حق الاختيار بين الطاعة والمعصية , ويدخل معه في نفس الحق الجن.
ولنبدأ بتأصيل كلمة طاعة , وكلمة معصية من معاجم اللغة:
طوع : الطاء والواو والعين , أصل صحيح واحد يدل على الإصحاب والانقياد. يقال طاعه يطوعه , إذا انقاد معه ومضى لأمره , وأطاعه بمعنى طاع له , ويقال لمن وافق غيره: قد طاوعه.
عصوى: العين والصاد والحرف المعتل , أصلان صحيحان , إلا أنهما متباينان يدل أحدهما على التجمع , ويدل الآخر على الفرقة.
فالأول العصا , سميت بذلك لاستكمال يد ممسكها عليها , ثم قيس على ذلك , فقيل للجماعة : عصا , يقال العصا , جماعة الإسلام , فمن خالفهم فقد شق عصا المسلمين.
ومن الباب عصوت الجرح أعصوه , أي داويته , لأنه يتلاءم أي يتجمع.
ومن الباب قوله صلّى الله عليه وسلم : لا ترفع عصاك عن أهلك” لم يرد العصا يضرب بها , ولا أمر أحدا بذلك , ولكنه أراد الأدب.
وأصل العصا الاجتماع والائتلاف.
والأصل الآخر: العصيان والمعصية. يقال عصى وهو عاص, والجمع عصاة وعاصون . والعاصي: الفصيل إذا عصا أمه في اتباعها.
ولنستعرض هذا المعنى في كتاب الله: