يقول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ(7)
إذن ففي القصة آيات يمكن أن يؤخذ منها عبرة لأولى الألباب, فيما يخص العلاقات بين الإخوة, أو العلاقات الأسرية. ولنحاول أن نستقرئ هذه الآيات عن العلاقات الأسرية .
ظنَّ إخوة يوسف أنه أحبّ إلى أبيهم منهم, رغم أنهم عصبة, والعصبة هي العشرة من الرجال فقالوا: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(8)
هل كان ظنهم في موضعه؟
هل كان اعتقادهم سليما؟ وما السبب الذي جعلهم يعتقدون ذلك؟
هل يبين الأب الحكيم عادة أنه يحب أحد أبنائه أكثر من إخوته؟
إن الذي أحسبه أن يعقوب عليه السلام لما سمع رؤيا يوسف , وفي ذهنه أبواه إبراهيم وإسحاق , أوّل الرؤيا بأن الله سوف يجتبي يوسف كما اجتبي أبويه من قبل, وسوف يجعله نبيا, فجعل يهتم به ويعلمه ويوجهه إلى ما تلقاه آباؤه من علم ووحي, فظن إخوته أن هذا الاهتمام هو حب زائد من يعقوب ليوسف , وضموا أخاه الشقيق إليه في هذا الظن, وأنهم وهم العصبة , هم أحق بمحبة أبيهم الزائدة , وبالتالي فإنهم يرون أباهم في ضلال مبين, وعلت لهجتهم بإزاحة يوسف عن طريقهم بالقتل أو بالطرح أرضا لكي يخلو لهم وجه أبيهم, ويكونوا من بعده قوما صالحين
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ(9)
وهذه نية للشيطان دور فيها , فهو يغري بالذنب الأول والخطيئة الأولي , على نية الصلاح من بعدها, ونرى بعض الناس يقول: (أفعل هذا الذنب مرة, ثم أتوب من بعده) فإذا وقع الإنسان في براثنه , سهل عليه الذنب , وصعبت عليه التوبة , من أجل ذلك كتب الله على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا, وجعل الله الإعدام عقوبة للقتل العمد, فالمرة الأولي هي أصعب المرات, وكذلك في كل ذنب, ولهذا فالله تعالي لا يقبل هذه النية, ومن أدراك أن الله سيمهلك العمر لتكون من بعد ذنبك صالحا؟
لما رأى إخوة يوسف اهتمام أبيهم الزائد به , تحرك الشيطان ليؤدى دوره في الوقيعة , ووسوس إليهم بأن يقتلوا يوسف.
وعلى الرغم من أن الغضب والانفعال الشديد يفرز شرا, إلا أن الإنسان الذي تربي على الإيمان والعقيدة الصحيحة, يتراجع عن الشر ولا يتمادى فيه, ويقصره, وهذا ما كان من إخوة يوسف, أبناء يعقوب عليه السلام, فبعد أن قالوا اقتلوا يوسف, قالوا: أو اطرحوه أرضا, ثم قالوا: وتكونوا من بعده قوما صالحين. ثم قال عاقل منهم: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ(10), ثم تراجعوا مرة أخرى عندما شرعوا في التنفيذ, فلم يلقوه في غيابت الجب, ولكن قال الله: (فلما أجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب) أي أنهم جعلوه ولم يلقوه, والجعل أخف حدة من الإلقاء, الذي فيه إسقاط مع دفع.
يقول الله سبحانه ” لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ” فجعل يوسف وإخوته مجموعة رئيسة , ولم يفرق الإخوة إلى مجموعات.
ثم قال إخوة ليوسف ” ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة” فقسموا المجموعة الرئيسة إلي مجموعتين فرعيتين: يوسف وأخوه في مجموعة فرعية أولى , وبقية الإخوة في مجموعة فرعية أخرى , عبارة عن عصبة , والعصبة من الرجال عشرة ( مقاييس اللغة – ابن فارس) . إذن كلهم اثنا عشر أخا لوالد واحد , “.. أحب إلى أبينا منا..”
ومادامت العصبة قد فصلت نفسها إلى:..هما و.. نحن, مع توحيد الأب؛ فلابد أن لكل مجموعة أُمّا مختلفة .
يوسف وإخوته يوسف وأخوه
ولو أن الله سبحانه , كان قد سمّى أخا يوسف باسمه , لما اتضح هذا التقسيم , فمثلا لو قال عنهم: ليوسف وبنيامين أحب إلى أبينا منا , لصح في هذا القول أن يكون الجميع من أم واحدة وأب واحد , فيمكن منطقيا أن يقول بعض الإخوة الأشقاء أن اثنين منهم أحب إلى أبيهم منهم , ولكن لا يمكن منطقيا أن يقول الإخوة: ليوسف وأخوه , ويكون قصدهم يوسف وأحد أشقائهم دون تعيين لاسمه , ولكن إخفاء اسم أخيه في الآية , بين الله به أن يوسف وأخاه من أم واحدة.
والفصل بين الإخوة على أساس اختلاف الأمهات نقيصة لا ينبغي أن تكون في المؤمنين, فالله يقول يوسف و إخوته , والعصبة تقول : {ليوسف وأخوه}.. و..{نحن} , وهذه بداية الكيد وبداية عداوة الشيطان للإنسان , وبذر لبذور الشر في النفوس.
لم يمثل أخو يوسف من أمه , الذي عناه بقية إخوته في قولهم , لم يمثل أي قلق لهم , حيث يقولون :” اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم” أي أن يوسف فقط هو الذي يشغل اهتمام أبيهم , وليس يوسف وأخوه , بحيث لو قتلوا يوسف أو طرحوه أرضا , فإن وجه أبيهم سوف يخلو لهم , هذا من وجهة نظرهم وما يعتقدون.
وتظل القصة تركز على يوسف دون أخيه , ويكون هو المحور الرئيسي لاهتمام يعقوب أبيهم , حتى بعد أن يُحتجَز أخوه في مصر , فيقول يعقوب ” يا أسفى على يوسف”
إذن لماذا يقول بقية الأخوة ” ليوسف وأخوه؟
إنهم يفرقون أنفسهم على أساس عصبي, فالإخوة من أم يختلفون من وجهة نظرهم عن الإخوة من أم أخرى. وهم بذلك يحاولون إيجاد سبب غير منطقي على أساس العصبية لما يتصورون أن أباهم ينشغل بيوسف عنهم. فيطمسون بذلك وجه الحقيقة, أو احتمالات أخرى للانشغال, فلا يبحثون إلا في احتمال واحد يأتي من ناحية أبيهم بأنه يميز أبناءه من الأم الثانية, فيحددونه أنه على أساس اختلاف الأمهات, وبالتالي فهم يدينون أباهم في ذلك بقولهم ” إن أبانا لفي ضلال مبين”؛ ولم يبحثوا من ناحيتهم بأن يكون سلوكهم مع أبيهم دافع لكي يجالس يوسف أكثر مما يجالسهم,
أما لو أنهم سموا الأمور باسمها, وشخصوا وحددوا محور اهتمام أبيهم, وهو يوسف فقط, وليس يوسف وأخاه, فإنهم سوف يبحثون في احتمالات أخرى تقربهم من الحقيقة, حقيقة اهتمام أبيهم الزائد بيوسف.
إن يعقوب فهم من الرؤيا أن الله سبحانه سوف يتم نعمته على يوسف وعلى آل يعقوب , كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق, أي أن الله سيكلف يوسف بالنبوة , ويعلمه من تأويل الأحاديث, فاهتم به ليعلمه كل ما يستطيع ويعدّه لهذه المهمّة.
والخلاصة أن الإنسان إن لاحظ ملاحظة في شيء لابد أن يتدارس كل احتمالات الحدث, ولا يوجه نفسه ويقصر شكوكه في اتجاه واحد, ويحاول أن يؤكده ويؤيده, فيغفل أو يتغافل الاحتمالات الأخرى التي قد تكون هي الحقيقة.
كما أنه في حالة وجود اتجاه في الرأي بين مجموعة من الناس يؤدي إلى جريمة أو عنف, فلابد لبعض العقلاء منهم أن يحاولوا تجنب العنف والجريمة قدر الإمكان, فإن كانوا لابد فاعلين, فليتخيروا أخف الأضرار, ولا يتصرفوا بانفعال
ولربما نأخذ أيضا من تلك الجزئية من القصة أن الآباء لو اهتموا بأحد الأبناء في مسألة أكثر من اهتمامهم بالآخرين, عليهم أن يشرحوا للجميع سبب الاهتمام, ولا يدعون الشيطان ينزغ بينهم, ويجعلهم يظنون بآبائهم الظنون.