الحياة بالقرآن الكريم
.. وتشمل التنظيم الإداري والقيادي لحياة الناس في أي من المجتمعات الإنسانية, في دولة أو مؤسسة أو حتى عائلة. وتضم الفكر والتشريع والقضاء والعمل العام بكل صوره.
ويبدأ صلّى الله عليه وسلم في تأسيس دولة تقوم بأمر الله, وتعمل بكتابه في كل مناحي حياتها, وتكون مسئولة عن بناء حضارة إنسانية تشمل كل الناس في كل الأرض في كل الزمان, يضرب الله بها المثل في كيفية أن الإنسان الذي استخلفه الله في الأرض, لو أنه أخذ الهدى الذي أنزله الله له فتعلمه, وآمن به, وجعله سلوكا يطبقه ويعيش به, فسوف يرتفع شأنه في الدنيا, ويرتفع شأن الدنيا به, وتتحسّن أحوال الناس فيها. فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والسورة من السور ذوات ألف لام ميم, وهي تنقسم إلى ثلاثة محاور:
ألف: وتبدأ من أول السورة إلى (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا, ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات, وهو بكل شيء عليم). محور إقامة سلطان الحق في الدولة الإسلامية, فإمامها ذلك الكتاب لا ريب فيه, والمسئولون العموميون فيها, هم المتقون, وأعداؤهم الذين كفروا, والمنافقون, وبقية الناس مدعوون لعبادة ربهم, لعلهم يتقون, ولنفي الريب عما أنزل الله, حتى يؤمنوا ويعملوا الصالحات, ثم يبتلى الله الناس ليعلم الفاسقين منهم الخارجين عن عهد الله, المفسدين في الأرض.
لام: وتبدأ من (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة…) وإلى (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) وهو محور أصل مشروعية الخلافة العامة في الأرض, بدءا من آدم خليفة على سائر المخلوقات, ثم يرسل الله رسلا بالهدى, ثم يكلف بني إسرائيل بحمل دعوة الله, ثم لما أخفقوا, نقل الله المسئولية إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم, إلى أن وصلت إلى أمته التي يدخل فيها أي إنسان يشهد ألا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله.
ميم: وتبدأ من (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها, قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) وإلى نهاية السورة (فانصرنا على القوم الكافرين), وهذا المحور يشهد تكليفات المسئولين العموميين في دولة القرآن, وهي المسئوليات التي لا تقوم إلا بهم, بدءا من تحمل أعباء المسئولية, وقبول الآخر, والاتباع, وأعمال البر بكل سعة معناها, والقصاص, وحقوق الضعفاء ومسئوليات الحرب والقتال, وتحديد المواقيت, والأحوال الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسة الداخلية والخارجية.
وفي استعراض سريع لسورة البقرة, نقرأ فيها المعاني الآتية:
● إمام الدولة ودستورها الحاكم هو ذلك الكتاب لا ريب فيه..
● والمجتمع ينقسم أمامه إلى طوائف طبقا لاعتراف كل طائفة به: المتقين, والذين كفروا, والمنافقين, ثم يدعى بقية الناس لعبادة ربهم لعلهم يتقون, ويعالج ريبهم في الكتاب إن وجد, ويحذر المتقين من الفسوق وهو نقض عهد الله من بعد ميثاقه, وقطع ما أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض.
● والتعرض للمسئوليات العامة مثل رئاسة الدولة أو الوزارة, له مشروعية تمتد من استخلاف الله لآدم وبنيه في الأرض على سائر المخلوقات, التي تعينهم على أداء مهمتهم, وعلى رأسهم الملائكة, ويأبى إبليس اللعين ويستكبر, ثم يرسل الله منه هدى مع رسله وأنبيائه, يتبعه بعض الناس, ويكفر به البعض الآخر, ثم يكلف الله بني إسرائيل وهم ينتسبون بالرحم والدم إلى نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام, فيرسل فيهم الأنبياء والرسل ليقوموا بنشر دين الله في الناس, فلما قصّروا وفرطوا, أرسل الله نبيه محمدا بن إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام, بالرسالة الخاتمة, وفي النهاية كلف الله كل إنسان يتبعه بتبليغ رسالته للناس في كل مكان وكل زمان.
● ومن هنا, فإن المتبعين للنبي الخاتم يعتبرون مسئولين عن العمل العام, فهم مكلفون بتبليغ رسالة الله للعالمين, ويأمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلاة, حيث يتعرضون للمخاطر التي قد تصل إلى القتل في سبيل الله, والابتلاءات والمصائب, وذلك بسبب تعرضهم للمسئولية العامة, أي أنهم يتحملون بسببها أعباء ضخمة, ويحذرهم الله من أن يكتموا ما أنزل الله للناس في الكتاب.
● والمسئولون عن العمل العام متبعون لهدي الله, لا يجتهدون مع نصوصه القطعية المحكمة, وإنما اجتهادهم يكون في التنفيذ, فلا يتبعون من دون الله أندادا, ولا يتبع بعضهم بعضا, ولا يتبعون خطوات الشيطان, ولا يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم, ولا يتبعون أهواءهم, ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق, فيحتكمون إليه.
● وهم لا يكتفون بتوجيه وجوههم قبل المشرق والمغرب, ولكن تجب عليهم الأعمال العظيمة الجليلة النافعة للناس فهم من المصلحين,
● وعليهم حفظ النظام وإقامة القصاص واحترام الوصايا,
● وهم قوم يعقلون, ثم يتقون, ثم ينفذون,
● فيدخلهم الله في برامج تأهيل شخصية لعلهم يتقون بالصيام والحج والعمرة,
● ويحرم عليهم أكل الأموال بالباطل ورشوة الحكام,
● وعليهم تحديد مواقيت للناس بالأهلة,
● كما أن عليهم التأهيل للقتال دفاعا عن النفس, وردا للاعتداء, ثم لإعادة الحقوق لأصحابها,
● ويضرب الله المثل بالذي إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل, وذلك الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله,
● ثم يدعوهم سبحانه للدخول في السلم كافة وعدم اتباع خطوات الشيطان,
● وعليهم رعاية حقوق الفئات الأوْلى بالرعاية من اليتامى والمواليد والأرامل والمطلقات,
● وعليهم تنظيم المعاملات المالية من الإنفاق في سبيل الله للمصلحة العامة, ومنع الربا وتنظيم الديون.
● وفي الخاتمة, يؤكد الله لكل المسلمين باعتبارهم مسئولين عن العمل العام وشهداء على الناس, أن يؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله, والسمع والطاعة لله, ثم بالدعاء: “ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا, ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا, ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به, واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين”. آمين
وفيما يلي تفصيل بعد إجمال..
سورة البقرة: الحياة بالقرآن الكريم
المقال السابق