والمسئول العام إن لم يصل إلى التقوى, فإنك تسمع من بعضهم قبل أن يتولوا مناصبهم قولا جميلا يعجبك, ثم ترى منه عجبا.. فإذا تولى سعى للإفساد وإهلاك الحرث والنسل, ولا يعبأ بنصيحة من يقول له اتق الله …
هذان مثالان لمسئولين عموميين: الأول يحسن القول حتى إذا تولى أفسد وأهلك ولم يقبل نصيحة, يقول الله سبحانه:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206))
والآخر يعرض نفسه للبيع لله ابتغاء مرضاته, فيكون رأفة الله بعباده.. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207))
الدخول في السلم:
ويدعو الله الناس للدخول في السلم كافة, أي ادخـلوا فـي الصلـح والمسالمة وترك الـحرب وإعطاء الـجزية. أو ادخـلوا فـي الإسلام كافة. وهي مهمة كل المسئولين العموميين,على كل المستويات, لتحقيق مناخ سلم ومسالمة يعيش فيه الناس آمنين, وإلا فالشيطان يثير العداوات والقلاقل فيضيع على الناس أمنهم وحياتهم واستقرارهم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
عدم تبديل نعمة الله من بعد ما جاءته:
كما يدعو إلى الثبات بعد أن ينعم الله عليهم بآيات بينة, فلا يفعلون كما فعل بنو إسرائيل. (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211). وقد آتى الله بني إسرائيل آيات كثيرة بينها في سورة الجاثية: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات, وفضلناهم على العالمين, وآتيناهم بينات من الأمر, فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم, إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها)
الاستقرار النفسي أمام مغريات الحياة:
قد لا يتفوق الذين آمنوا والمتقون على الكافرين في متاع الحياة الدنيا وزينتها, فهدفهم يجب أن يكون دائما هو الحساب والموقف بين يدي الله يوم القيامة, فلا يعبأون بسخرية الذين كفروا, ولا بزينة بين أيديهم, فالله يرزق من يشاء بغير حساب. (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
الكتاب يحكم:
وينبئنا الله بحتمية اختلاف الناس, وحتمية هدايته للذين آمنوا بردهم إلى الكتاب الذي أنزله بالحق, فيتعامل المسئول العام مع الناس على هذا الأساس, ويعترف باختلافهم, ويحكّم كتاب الله بالحق.
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
البأساء والضراء وانتظار نصر الله:
وأنذر الله بالبلاء والزلزلة والبأساء والضراء قبل أن يأتي نصر الله, فتظهر قدرات كل منهم وصدق إيمانه, وهو نفسه ما حدث مع الذين من قبلنا.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
رعاية أصحاب الحقوق الأوْلى:
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
الأمن العام
وفي سبيل الحفاظ على كل المكاسب السابقة, فقد يتعرض المسلمون إلى القتال بصفتهم مسئولين عن الحق, فيثبتهم الله ويصرح لهم بالقتال حتى لو فرض عليهم في المسجد الحرام وفي الأشهر الحرم, ومن باب أولى في أي وقت دون ذلك. ووعد المؤمنين المهاجرين المجاهدين برحمته سبحانه.
القتال أمر حتمي فيه خير
إن الناس مختلفون, تختلف عقائدهم, وأفكارهم, ومصالحهم, وأساليبهم. وقد يتصاعد الاختلاف إلى أن يصبح خلافا, وقد تتصاعد أساليب الفصل فيه من التفاهم الودي, إلى اللجوء إلى المحاكم, وفي النهاية, فقد يصل إلى العنف, وفي قمة المواجهات يصل إلى القتال.
ولا شك أن القتال كره للناس, والأمن محبب لهم, إلا أنه يستحيل أن يحيا الناس بغير احتمال فض المنازعات بالقتال. سواء تلك المنازعات بين أفراد في مجتمع واحد, أو جماعة وجماعة, أو بين دولة ودولة
ولهذا, فإن المجتمع يتحتم عليه مواجهة هذه الاحتمالات جميعا, والاستعداد لها نفسيا, وماديا وعمليا.
الاستعداد النفسي:
يبدأ الله سبحانه في إعداد المجتمع لقبول فكرة القتال, بل وحتميته كوسيلة من وسائل فض المنازعات, والأخذ على يد المعتدي. والله الذي فطر الناس على فطرته, يعلم أن القتال كره لهم, ولكن ليس كل ما يكره الإنسان شرا, وليس كل ما يحبه خيرا, فيقول سبحانه:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
ولكي يجد الناس أوقاتا للتفاهم والمراجعة الهادئة, وإتاحة الفرصة للحلول السلمية, جعل الله سبحانه أوقاتا يحرم فيها القتال, كما جعل أماكن يحرم فيها القتال, فجعل أربعة أشهر حرم في العام, كما حرم القتال في المسجد الحرام. وأمر الناس باحترام هذه الأوقات والأماكن.
وحيث أن الناس لا يتفقون على عقيدة واحدة, ولا يحترم كثير منهم العهود والمواثيق, بل قد يستغل فرصة تحريم الأشهر الحرم, والمسجد الحرام, فيحاول الاعتداء فيها. عندئذ فإنه تتحتم مواجهتهم وردعهم, وإلا تحدث فتنة, لذا فإن الله سبحانه يبيح القتال في الشهر الحرام, وفي المسجد الحرام في حالة وقوع اعتداءات من الذين كفروا على الذين آمنوا.
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
ويكون الصمود والهجرة والجهاد في سبيل الله صفة من صفات الذين آمنوا, رجاء لرحمة الله ومغفرته: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
المتولي ومسئولياته
المقال السابق