إدارة الازمات

0 تعليق 362 مشاهدة

بنى الله الإخلاص أولا, ثم وضع فتح أبواب المشاركة مع كل فئات العقائد, لإقامة جسور من التعاون في بناء الحضارة, واستثمار نقاط الاتفاق وتنحية نقاط الاختلاف, ودعوة كل الفئات إلى المشاركة في البناء. ثم وضع الله منظومة القيادة, القائد الفرد, والأمة القائدة وعلاقات الجن والملائكة مع الإنسان, المسموح منها وغير المسموح, ومحددات القيادة, وترويض المقمحين غير المستجيبين للدعوة, ثم كيفية تربية الأولاد ليكونوا قادة المستقبل وورثة مسئولية الكتاب, والدعوة للناس عامة.

وبعد أن تكونت نواة المجتمع الذي ستبنى الحضارة على كتفيه, وبسواعده, أدخله الله في مواجهة مع تحديات شديدة, وبين له كيف يواجهها حتى يخرج منها قويا متوحِّدا متماسكا يؤدي كل فرد فيه دوره ومهمته في مواجهة التحديات التي هي حتمية أمام الإنسان وأمام الأمم, وأمام الحضارات, حتى لا تنهار أمام أول تحدي, فأنزل الله السور المبدوءة بالطاء, يضع بها سبحانه منهاج مواجهة التحديات, ومعها سورة الواقعة.
ولبيان ذلك, فإننا نستعرض مناسبات نزول السور المبدوءة بحرف الطاء وما بينها, بدءا من سورة طه, ثم الواقعة, فالشعراء فالنمل فالقصص.

لما أسلم عمر بن الخطاب والحمزة بن عبد المطّلب, رضي الله عنهما, وأعز الله بهما الإسلام, رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد كثروا وعزّوا, وأن المهاجرين إلى الحبشة قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا, وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم, ورأوا أن الإسلام يفشو في القبائل, أجمعوا على أن يقتلوا النبي صلّى الله عليه وسلم, فبلغ ذلك أبا طالب عمه, فجمع بني هاشم وبني عبد المطلب, فأمرهم فأدخلوا رسول الله في شِعْبهم, ومنعوه ممن أرادوا قتله, فأجابوه لذلك حتى كفّارهم, حمية للرحم والقرابة ولم يشذ عن ذلك إلا أبو لهب.

فلما علمت قريش ذلك أجمعوا أمرهم وائتمروا فيما بينهم على أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم والمطّلب, أن لا ينكحوا إليهم, ولا يُنكحوهم, ولا يبيعوا منهم شيئا ولا يبتاعوا, لا يقبلوا منهم صلحا أبدا حتى يسلموا رسول الله إليهم ليقتلوه, وكتبوا ذلك في صحيفة علقوها في جوف الكعبة,. فكان المشركون لا يتركون طعاما يدخل مكة إلا بادروا فاشتروه, حتى بلغ منهم الجهد والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود, وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضورون جوعا, لا يصل إليهم شيء إلا سرا وكانوا لا يخرجون من الشعب إلا في الأشهر الحرم, وكان أهل مكة يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعوا شراءها. وأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثة.
وكان رسول الله والمسلمون يخرجون في أيام الموسم فيلقون الناس يدعونهم إلى الإسلام.
وفي المحرم من السنة العاشرة من النبوة, نقضت الصحيفة وفك الحصار.

 طه تقوية القائد أمام الصعوبات:
فنزلت سورة طه, لتقوية القائد شخصيا, ووضع معايير للسعادة والشقاء, والتي تختلف عن معايير البشر من منظور القرآن والإيمان والقصص القرآني.
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
فالله ينفي لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون قد أنزل عليه القرآن ليشقى, وإنما هو تذكرة لمن يخشى. ويخرجه سبحانه من الحدود التي ضاقت به في شعب بني هاشم, إلى آفاق الأرض والسماوات العلى, إلى الرحمان سبحانه وعرشه واستوائه عليه, وأنه له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
فإن ضاقت الدنيا عليه, فرأى أن يجهر بالقول من شدة الضيق, فيشكو حاله, فإن الله يعلم السر وأخفى, ولا يحتاج إلى جهر بالقول حتى يسمع, كما أن الجهر بالقول لغير الله, لا ينفع ولا يضر, حيث أن الله سبحانه له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.

وبدلا من الجهر بالقول تحت ضغط الشعور بالضيق والشقاء, فإن الله سبحانه لا إله إلا هو ولا ملجأ إلا إليه, فليتوجه إليه بالدعاء بأسمائه الحسنى, يختار منها الإنسان الأسماء التي تتوافق مع الموقف الذي يعيشه حسب احتياجه. فعند الخوف من مكروه يقول يا لطيف يا ستّار, وعندما يمسه الضر يقول يا أرحم الراحمين, كما قال أيوب رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين, وعند المرض يقول: وإذا مرضت فهو يشفين, وهكذا ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها.

ثم يستعرض الله مواقف من القصص القرآني, وما حدث فيها من أحوال تدعو إلى الشعور بالشقاء, فإذا بالإيمان يحول هذا الشعور إلى الرضى والسعادة, ويتدرج الله في القصص من أقصى وأقسى مظاهر الشقاء..
أول تلك المواقف, موقف طفل رضيع تخشى عليه أمه أن يقتله ملك جائر, فيأمرها الله أن تقذف رضيعها في التابوت, فتقذفه في اليم, فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لله وعدو للرضيع. هل يوجد شقاء لطفل فوق هذا الشقاء؟
ويستعمل الله سبحانه لفظ (اقذفيه) مرتين, وكان قد استعمل لفظ (فألقيه في اليم) في موضع آخر, ولكنه هنا يعظّّم صورة الشقاء للأم وللطفل, فالإلقاء إسقاط من سكون, أما القذف فهو رمي بقوة وشدة.

ثم أمام كل هذه المظاهر للشقاء, يحميه الله بمحبة منه يلقيها عليه (وألقيت عليك محبة منّي ولتصنع على عيني) فيحميه الله من عدوه. بل ويجعله يصنع على عين الله فلا يضره شيء.
ثم يرجعه الله إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن, وينجيه من الغم

ثم موقف آخر من قمم الشقاء: موقف السحرة حين هددهم فرعون بعد إيمانهم بأشد التهديد الذي لم يسمع ولم ير مثله التاريخ, بكل ما فيه من تعذيب لإنسان. ففرعون يهدد بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف, والصلب في جذوع النخل, ثم العذاب الشديد, الباقي (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71), وهل سمع أحد بمثل هذا العذاب؟
وقد ذكر هذا الموقف في مواضع أخرى من القرآن ولكن تركز الوصف هنا في (طه) على شكل وشدة العذاب وطول مدته, في تفاصيل لم ترد إلا في هذه السورة.
ولكن, أمام ثبات الإيمان الذي نشأ في القلب, وغرس فيه الإخلاص, يهون هذا العذاب غير المسبوق وغير الملحوق, فيقول السحرة ردا على هذا التهديد: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
وظلوا يستعرضون رضاهم وطمأنينتهم بالإيمان أمام كل هذا العذاب, وينقلون إلى فرعون مبررات الإيمان, والطمأنينة

وموقف آخر يعرضه القرآن عرضا عابرا, حيث موسى عليه السلام وقومه, يصلون إلى شاطئ البحر, ومن ورائهم فرعون وجنوده, ولا حيلة ولا وسيلة يرشد إليها العقل, ولكن الإيمان الواثق الذي تلقّى عن الله أمرا, (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77), فلا يهتز إيمان موسى عليه السلام أمام هذا الموقف البائس الشقي, فيغشى فرعون وجنوده من اليم ما غشيهم.

وحيث أن الأمن النفسي للقائد ولأفراد المجتمع عامل أساس لمشاركتهم في قيام الحضارات وحفظها من الانهيار, خاصة في زمن الأزمة, فإن الله سبحانه يهدي إلى منهاج تحقيق الرضى, والمحافظة عليه: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) والحمد ذكر الأفعال والأفضال لأهلها, والتسبيح بالحمد كثرة وتكرار الحمد وتنزيه الله عن كل نقص بل له الحمد والمنّة وله الثناء الحسن, وفعل ذلك التسبيح بالحمد يجعل الإنسان يذكّر نفسه بها قبل أن ينزل إلى الشارع (قبل طلوع الشمس) وقبل أن يعود إلى بيته (وقبل غروبها) (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى(130)

ثم بعد هذا الهدوء النفسي بذكر نعم الله وأفضاله, قد يدخل الشيطان للإنسان بالمقارنات مع غيره, فيهديه الله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131)
فإذا أغلق على الشيطان تلك الأبواب, فإنه قد يدخل عليه من قِبل أهله, فيهديه الله لربطهم بربهم والصلاة (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى(132)

 الواقعة مواجهة مثيري الصعوبات والتحديات
واجهت سورة الواقعة مثيري الصعوبات والتحديات والإرهاب من الأعداء المخالفين للمجتمع, بأن الواقعة (خافضة رافعة) ولأنهم دفعوهم إلى الأكل من ورق الشجر والجلود, فقد هددتهم السورة (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) بعد أن حاصروا المسلمين في شعب بني عبد المطلب وبني هاشم ودفعوهم إلى أكل أوراق الشجر وبقايا الجلود. كما ثبت الله سبحانه السابقين المقربين, وأصحاب اليمين بأن بشرهم بالجنة ونعيمها.

 الشعراء تأكيد على بلوغ الهدف
وثبتت سورة الشعراء القائد أمام أهدافه في العبور بأمته إلى برّ الأمان,
وصلت حال الدعوة قبل سورة الشعراء إلى مرحلة اغتم فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم, على قلة عدد الداخلين في الإسلام, إلى الدرجة التي يقول الله له فيها: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين), وباخع نفسك بمعنى قاتلها غيظا أو غمّا . فيطمئنه الله على أن اكتساب أعداد أكثر إلى صف المؤمنين يمكن أن يتم فورا, إن يشأ الله ينزّل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين, إلا أنه سبحانه لا يريد خضوع أعناق, بل يريد خضوع قلوب, وخضوع عقول وألباب, حتى إذا توفّى الله رسوله صلّى الله عليه وسلم, فإن الدعوة تنتشر بعد وفاته أكثر من انتشارها في حياته, حيث عمل القرآن في العقل والتفكير وتأثر القلوب به لا ينقطع عن الدنيا, بل يتزايد دائما, على عكس أية دعوة أو عقيدة أخرى, حيث تظل قوية طوال بقاء صاحبها والداعي لها, ثم تموت بموت صاحبها, تماما كما حدث للشيوعية, حيث انهارت مع انهيار الاتحاد السوفييتي.

أما عقيدة الإسلام, فإن الله سبحانه هو صاحبها, وهو متم نوره ولو كره الكافرون, هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
إن سليمان عليه السلام لما خرّ, تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين, حيث كان يدفعهم للعمل بالتسخير, وإنما أتباع محمد صلّى الله عليه وسلم يتبعونه إلى يوم القيامة, ويكثرون بعد وفاته أكثر منهم حال حياته. وهذا هو النموذج الذي أراده الله لرسالته الخاتمة, حيث لا نبي بعد محمد صلّى الله عليه وسلم , ولا حاجة لرسالة أو لكتاب من بعد رسالته وكتابه القرآن. وإنما دعوة للعقول وللقلوب.

وهذه المرحلة من منهاج بناء الحضارة الإنسانية, هي مرحلة التثبيت للأمّة ودعمها بالأمل أن دعوة الله سارية بالغ بها الله أمره ومشيئته, رغم ما قد يبدو عكس ذلك بسبب عدم إسراع الناس إلى الإيمان في مراحلها الأولى.
ورغم أن الناس في بدايات دعوة الحق على مر العصور وعلى طول رسالات الله, يبدءون بالصد والكفر والعناد, وما كان أكثرهم في البدايات مؤمنين, إلا أن الله العزيز القادر على الغلبة والوصول إلى مراده بعزته, والعزيز القادر على إهلاك الظالمين والكافرين, فهو أيضا رحيم يمهل الناس حتى تستكمل عقولهم إدراك نعمة الله وهداية الله وإدراك فساد اتباع الشيطان والشهوات والنفس الأمارة بالسوء, ورحيم برسله وأنبيائه والدعاة إلى سبيله, يطمئنهم أنه سبحانه بالغ أمره بهم, ومتم نوره ولو كره الكافرون. وكل هذا يحتاج من الناس إلى وقت طويل,

والأمثلة السبعة من القصص القرآني في سورة الشعراء مرتبة حسب الصعوبات التي واجهت دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, وليست بحسب ترتيبهم التاريخي, فكان موسى أكثرهم مواجهة للصعوبات, يليه إبراهيم فنوح ثم هود فصالح فلوط فشعيب, وبعد وقت طويل نصر الله الإيمان والمؤمنين, وهذا مما يثبّت الأمة البانية للحضارة أمام أية صعوبات تواجهها وقد يظن البعض أنها مهلكة لها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

 النمل بيان لدور الأفراد في مواجهة صعوبات الأمة:
ثم بين الله في سورة النمل كيف أن لكل فرد في المجتمع دورا في مواجهة الصعوبات, فلكل فرد دوره من واقع خبرته وعمله وما استخلفه الله عليه من النعم, رغم ما قد يبدو من ضعفه وقلّة حيلته, فتلك نملة صالحة ساهمت في إنقاذ أمتها من الحطام تحت أقدام سليمان وجنوده وهم لا يشعرون, وذلك الهدهد السائح بقلب المؤمن ينقل هداية الله إلى سبأ, وينصح سليمان النبي الملك بما لم يحط به, وهذا عفريت من الجن يعرض قوته وأمانته لكي يأتي بعرش الملكة قبل أن يقوم سليمان من مقامه, وذلك دور الذي عنده علم من الكتاب الذي آتي سليمان بالعرش قبل أن يرتد إليه طرفه, مستثمرا ما آتاه الله من علم في صالح الأمة وصالح الحضارة الإنسانية بتنقيتها من الخرافات والسجود للشمس من دون الله, ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم وصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.

كما بين دور شرار الناس في افتعال الصعوبات والهدم والتآمر لقتل القائد, والمكر السيئ, وحفظ الله للأمة من شرورهم, كما حدث من ثمود قوم صالح: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)

 القصص, إن ينصركم الله فلا غالب لكم
ثم بين الله سبحانه في سورة القصص أن المؤمنين عليهم أن يكونوا على ثقة بالله وقدراته, فليؤد كل فرد دوره في مواجهة التحديات التي تهدد الحضارة بالهلاك والدمار, والله معهم ينصرهم حتى وإن لم يرق جهدهم وما استطاعوا للحد الذي يكفي لتحقيق النصر, وما النصر إلا من عند الله, وإن ينصركم الله فلا غالب لكم…
فضرب الله سبحانه المثل لذلك, حيث أخذ موسى عليه السلام رضيعا, وحرمه من حضن أمه, فألقاه في أحضان عدوّه, وحرم عليه المراضع, وحرمه من أمنه وبلده وأهله وسمعته حيث قال له المصري (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) ), وانتشرت السمعة في المدينة حتى ائتمر الملأ به ليقتلوه, فخرج منها خائفا يترقب, وتوجه تلقاء مدين حيث لا مأوى ولا بيت ولا أهل ولا عمل وبلدة, ولا سمعة, (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)) فرد الله له كل شيء: الرزق (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) والطمأنينة والنجاة بعد الخوف (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25), والسمعة والشفاعة الحسنة (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) والزوجة والأهل والعمل والسكن والرزق: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ) والرحمة والشفقة (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) والصحبة والمعاشرة الصالحة (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) ) ,ونصره على أعتى عتاة التاريخ فرعون الذي ادعى الألوهية, وكان حاكما طاغية, وبالتالي فأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء, ولله الأمر من قبل ومن بعد, وما النصر إلا من عند الله.

هنا تتكامل جهود القائد مع خبرات وأعمال الأفراد, فيساعدهم الله ويربط بين أعمالهم وبين عونه ودعمه, فيتكامل بناة الحضارة مع نعمة ربّهم وحفظه, ويواجهون المخاطر والصعوبات والتحديات التي تهدد حضارتهم ووجودهم, يواجهونها بثباتهم ويقينهم في ربهم, وأفعالهم بما استطاعوا من قوة, ثم في البداية وفي النهاية بقدرة الله وحفظه لمن يسير في طريقه وعلى صراطه المستقيم.
في حين أن قمة الثراء والكنوز والزينة لم تكف لحفظ قارون الكافر بنعمة الله, والباغي على مجتمعه والمانع ثروته من الدوران لمنفعة الأمة وبناء حضارتها, وعدم قبوله لنصيحة الناصحين واعتقاده أنه بما أن الله آتاه هذه الكنوز على علم عنده, أن يكون هذا مبررا لأن يتصرف في ماله دون مساءلة ودون مصلحة قومه, فينهي الله كل ثروته ومظاهر زينته, وينهي معها تمنيات الكسالى من قومه الذين يريدون الحياة الدنيا, وينسبون مظاهرها إلى الحظ لا إلى العمل الصالح والإيمان القوي, فيخسف الله به وبداره الأرض, فلا يترك ثروته لتزيد الكسالى كسلا, ولكن الله يرفع قيمة العمل ويحط من قيمة الثروة التي لا تنفع الناس (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81). وفي النهاية فإن الله سبحانه يضع الدار الآخرة هدفا أسمى للناس كي يعملوا بإخلاص في عمارة الأرض وبناء الحضارة الإنسانية على قواعد الإخلاص والإيمان, لا على قواعد العلوّ في الأرض والفساد (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
ثم يضع سبحانه قواعد الحساب في الدنيا والآخرة: ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)

ويهوّن الله من شأن أعلى قوة سياسية وعسكرية لفرعون وأمثاله, ومن أكثر مظاهر الثراء والزينة لقارون وأمثاله, بأنه يهلك كل المفسدين وغير المخلصين, ولا يبقى إلا وجهه سبحانه وكل ما يرتبط مخلصا به: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

وإلى تفاصيل كل سورة من سور طه, والواقعة, والشعراء, والنمل والقصص, ودورها في إدارة الأزمات…

Sub Categories

نريد أن نكون من الذين قال الله فيهم: (ولقد يسرنا القرآن للذكر, فهل من مُدَّكِر!) نحيا بالقرآن, فنتعلم كيف نتدبّره, ونعمل به ونعلمه, كمنهاج حياة, فهو إمامنا نحو بناء الحضارة الإنسانية

روابط المقالات

اشترك

اشترك فى نشرتنا الاخبارية لتتابع جديد المقالات والاخبار

Develop By Quran – Copyright 2012 / 2022 – All Right Reserved

arArabic