قلق الدعاة إلى الله على مستقبل الرسالة
(كهيعص* ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
إن الله قد أورث الكتاب الذين اصطفى من عباده, وكلفهم بتبليغ رسالته إلى الناس والتمكين لها, لتكون كلمة الله هى العليا. هؤلاء لا يشغلهم شاغل عن هذه المهمّة, واستمرارها إلى يوم القيامة. فإن نظر أحدهم من ورائه, فلم يجد فيمن حوله ومن سيخلفوه, من يثق في قدراتهم على حمل هذه المسئولية, فإنه عليه أن يسأل الله أن يهب له من لدنه وليا. وهذا ما ضرب الله لنا به المثل في عبده زكريا عليه السلام…
لقد نظر زكريا فيمن حوله فلم يجد من يطمئن إليه ليترك له مسئولية الكتاب, في نفس الوقت الذي وهن العظم منه, واشتعل الرأس شيبا, وكانت امرأته عاقرا, هذه هي حاله من الضعف, وحال الأمّة من حوله. فتوجه إلى الله يطلب منه بنداء خفي, أن يهب له من لدنه وليا, يرثه ويرث من آل يعقوب. يرث كتاب الله ودعوته والمسئولية عن دينه, وليس ميراثا لأعراض الدنيا, حيث أن الأنبياء لا يورَثون, وما تركوه صدقة كما جاء في الحديث.
فيضع الله بهذه الآيات المسئولية في عنق الدعاة والآباء والأمهات, أن يسعوا لتوريث كتاب الله إلى جيل جديد ممن يعدّونه لحمل هذه المسئولية. فالرسالة ممتدة عبر الزمان إلى يوم القيامة, وعبر المكان إلى كل العالم, ولن يقوم بمسئوليتها إلا المسلمون وأبناؤهم.
والأمة تمرّ بأحوال تتغير وتتبدّل, بين القوة والضعف. وفي حال القوة, فإن الأمة تحرص على استمرار قوّتها بإعداد الذرّية لحمل الأمانة والمسئولية, وفي حال الضعف, فإن الأمة تبني مستقبلها ببناء ذرياتها على منهاج الله أملا في أن يخلف الله بعدها من يُصلح به الشأن ويتمّ النور ويُظهِر دينه على الدين كله.
ماذا فعل زكريا حين استشعر حال الضعف التي كان عليها؟
● لقد شخّص حاله وما به من ضعف وحلّل أسبابه
● ثم أبدى لله قلقه على ميراث الكتاب
● ثم سأل الله أن يهب له من لدنه وليا, يرثه ويرث من آل يعقوب
● وطلب من الله أن يجعل في وليّه من الصفات والطبائع والأخلاق ما يناسب هذه المسئولية.
● فاستجاب الله برحمته وفضله
وهذا ما يجب علينا أن نفعله كي نكون نحن وأبناؤنا وذرياتنا من السابقين بالخيرات بإذن الله, بالنصيحة وبالتمكين لدين الله في الأرض.
إخلاص النية لإعداد وارث لكتاب الله:
أن تخلص نيتك في تربية أبنائك لأن يكونوا وارثين لكتاب الله مسئولين عنه: (يرثني ويرث من آل يعقوب). أولا لابد أن توجّه نيتك فتدعو الله أن يجعل ابنك وريثا لرسالات الله للناس, كما فعل زكريا عليه السلام. وهذا يجعل كل تربيتك له في هذا الإطار. إن شعورك بهذه المسئولية تجاه دين الله وكتابه وشريعته وسنّة نبيه, يجعلك تستعين بالله لكي يتم سبحانه بك نوره ولو كره الكافرون. فيكون لك هدف أعلى من حياتك في الدنيا, تتفق فيه مع كل فرد من الأمة كلها على هذه النية, ويبارك الله هذا الهدف فيكون معك في حياتك وفي تربية أبنائك يساعدك على تحقيق أهدافك, حيث يقول سبحانه في الحديث القدسي: (ومن أراد مرادي أردت ما يريد, ومن تصرّف بحولي وقوّتي ألنت له الحديد).
عندئذ سيحسن الشاب اختيار الزوجة التي ستكون أمّا لأولاده, وستحسن الشابة اختيار الزوج الذي سيكون أبا لأولادها, ليس على أساس المال أو الجمال أو الحسب, ولكن على أساس الدين, والأمانة والخلق, ثم لا يمنع بعد ذلك من توافر العناصر الأخرى.
وعندئذ سيحسن الأبوان جو الأسرة بينهما حتى يكون جوا صحيا ينشأ فيه ورثة كتاب الله, وسيتحّمل الأبوان ما يطيقون من المشاكل في سبيل تربية ورثة الكتاب من ذريتهما, التربية الصحيحة المناسبة لتخريجهم بمؤهلات رفيعة المستوى.
عندئذ ستكون الأسرة كمعهد لإعداد القادة, إعداد ورثة لكتاب الله, ورثة لمسئولية رسول الله في تبليغ دعوة الله للعالمين, ورثة يكملون مسيرة رسول الله التي بدأها في جزيرة العرب, ويريد الله لها أن تصل إلى كل إنسان, في كل مكان, وفي كل زمان, مسئولية مستمرة إلى يوم القيامة, لن يقوم بها إلا المؤمنون جيلا وراء جيل.
ولكل مرحلة من مراحل العمر, خصائص لابد أن تزرع في الإنسان, حتى يكون أهلا لميراث الكتاب. فكيف يحمل هذه المسئولية إنسان سيء الخلق, أو ضعيف الشخصية, أو غير محبوب ممن حوله, أو جاهل أو شرّير؟
لهذا فإن الله سبحانه يبين لنا الصفات والأخلاق والطبائع التي يجب زراعتها وتوطينها في أبنائنا, حتى يكونوا سابقين بالخيرات بإذن الله.
ولنحلل خطوات منهاج إعداد الذرّية لميراث الكتاب من سورة مريم لنرى خصائص كل مرحلة من مراحل عمر الإنسان, وما ينبغي أن يعدّ له