إن سألنا أي أب وأم: ما هي رؤيتهما لمستقبل أبنائهما؟ وما هي أهدافهما من تربيتهم؟ فربما نجد اتفاقا في الإجابة بين كل الآباء والأمهات بصرف النظر عن الجنسية ومستوى التعليم والملّة والتاريخ.
إن الجميع بلا شك يحبون ويسعَوْن إلى أن يعدّوا أبناءهم بالعلم وبالجسم وبالتربية وبالمال وبالخلق, كي يتبوأوا مراكز عالية في الدنيا, وينشئوا أسرا جديدة بمستوى معيشة أعلى.
ولكن .. هل للمسلمين إضافة إلى هذه الإجابات؟
… هل المطلوب من أبناء المسلمين يزيد عن المطلوب من أبناء غيرهم؟
…. ما الذي ينبغي أن يزيده المسلمون في أهدافهم من تربية أبنائهم؟
ربما يقول البعض: إن الهدف هو أن يعرف الأبناء ربهم ودينهم, أن يحفظوا من كتاب الله وسنة رسوله, أن يعملوا بما علموا. أن يدخلوا الجنة في الآخرة. أن يحظوا برضى ربهم. وكل هذه إجابات عاقلة وسليمة. ولكن ربما يشاركهم فيها بعض أهل الكتاب الذين يؤمنون بالآخرة, ولديهم كتب منسوبة إلى السماء.
أمّا الإضافة الأساسية التي يجب أن تميّز أهداف المسلمين من تربية أبنائهم دون غيرهم من الأبناء في العالم, بل الهدف الأول الذي ينبغي أن يقصدوه, والذي يشمل ويجُبّ كل الأهداف الأخرى, هو
أن يُعِدّوا أبناءهم لميراث رسالة الله إلى الناس
والتي بدأت من قوله تعالى إلى آدم وزوجه وبنيه: (اهبطوا منها جميعا, فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون), وإلى أن قال سبحانه: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا: فمنهم ظالم لنفسه, ومنهم مقتصد, ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير).
لقد انتقلت مسئولية رسالة الله إلى الناس من جيل إلى جيل, حملها أشرف خلق الله من الأنبياء والرسل, إلى أن وصلت إلى رسول الله محمّد عليه الصلاة والسلام, أشرف الخلق أجمعين. وباعتباره خاتم النبيين والرسل, ورسالته خاتمة الرسالات, فإن الأمة الإسلامية قد حمّلها الله مسئولية تبليغ هذه الرسالة إلى الناس, ومسئولية تطبيقها وإقامتها في كل مكان وفي كل عصر, ليعيش الناس في سلام وأمان بعيدا عن الظلم والطغيان, وبعيدا عن الفسق والفجور.
هذا المعنى نجده في سورة فاطر السابقة لسورة مريم مباشرة في ترتيب النزول, من قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ(29)لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(30)
… وهؤلاء والله أعلم هم كل حملة كتاب الله ورسالاته إلى عباده من أول آدم عليه السلام, وإلى يوم القيامة, وكل من سار على نهجهم يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقهم الله سرا وعلانية, خاصة أولئك الذين أرسلهم الله من قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ(31)
وهذه مرحلة رسول الله خاتم النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم.
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)
وهؤلاء هم من جاءوا من بعد محمد صلّى الله عليه وسلم, بموجب حرف العطف (ثمّ) فآمنوا بما جاء به وصاروا من المسلمين المؤمنين على ملة محمد وأبيه إبراهيم. أي هم هذه الأمة الإسلامية بكل أفرادها وكل تصرفاتها:
الظالم لنفسه, الذي لم يأخذ حقه من ميراث الكتاب,
والمقتصد, الذي أخذ حقه فقط ولم يزد على ذلك شيئا,
والسابق بالخيرات بإذن الله, ذلك هو الفضل الكبير, وهم من أخذوا حقهم من الميراث, وأدوا حقه في الحفظ والعمل والنشر والدعوة والأسوة الحسنة, والجهاد في سبيل ذلك لتكون كلمة الله هي العليا.
إذن فأمة محمد أورثها الله كل الكتاب الذي أنزل على أنبيائه ورسله والذي ختمه بالقرآن الكريم, وهي قد حملت هذه المسئولية, حيث لا كتاب بعد القرآن, ولا رسول ولا نبيّ بعد خاتم الأنبياء.
هذه المسئولية يحملها جيل بعد جيل, وينقلها جيل إلى جيل, ويتوارثها جيل عقب جيل.
إذن فنحن, ثم أبناؤنا نشترك جميعا في حمل هذا الميراث, ميراث الكتاب, يحمل كل منا ما يستطيع منه, فيحفظه, ويعمل به, ويدعو إليه.
فكيف نعدّ أبناءنا لحمل هذه المسئولية, ولميراث الكتاب؟ وما هو المنهاج الذي يجب أن يسير عليه الآباء حين يربّون أبناءهم على هذه النية, على أن يرثوا مسئولياتهم في الدعوة إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة, وبالجهاد حين يدعو داعيه؟
إن في سورة مريم (كاف ها يا عين صاد), منهاجا لتربية الأبناء وإعدادهم كورثة لرسالات الله. فالوارث لكتاب الله لابد أن يعدّ إعدادا جيدا, ويؤهل تأهيلا عاليا, وتغرس فيه خصائص تجعله يصل إلى قلوب الناس, بالحنان والحب, بالقلب والعقل, بالبركة والقوة والتفوق والمكان العلي.
والقصص في السورة ليس بالترتيب التاريخي, فإدريس تاريخيا يأتي أولا, ثم إبراهيم ثم إسماعيل , ثم إسحاق ويعقوب, ثم موسى, ثم يحيي ثم عيسى. فعلى أي أساس تم الترتيب في السورة؟
إن الترتيب – والله أعلم- هو ترتيب لمراحل مختلفة من حياة الأبناء, والتطوير التربوي لهم في اتجاه التأهيل لميراث الكتاب وحمل مسئولية تبليغه وتطبيقه والتمكين لدين الله وشريعته, ولخلافته في الأرض.
لقد رتب الله القصص في سورة مريم حسب المرحلة العمرية للذرية, وهذا ما يمكننا أن نتبينه من مدارسة السورة وتدبّرها.
وبصفة عامة هناك ثلاث مراحل رئيسية في عمر الإنسان, تنقسم كل مرحلة منها إلى مرحلتين فرعيتين, فتكون جميعها ست مراحل, وفيها تقسيم لمراحل نمو الأبناء بل لعمر الإنسان عموما:
(الله الذي خلقكم من ضعف, ثم جعل من بعد ضعف قوة, ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة)
(ثم نخرجكم طفلا, ثم لتبلغوا أشدكم , ثم لتكونوا شيوخا)
ونظرا لجسامة مسئولية إعداد الذرية لميراث الكتاب, والتي تعني مستقبل الدعوة ومستقبل الدنيا كلها, مستقبل العمل بكتاب الله نشرا للحق والعدل وحربا للإفساد والطغيان, وتقويما للفجور والفساد, فإن الله سبحانه لم يتركنا أمام هذه المسئولية دون أن يؤهلنا لها في كتابه العزيز. وقد جاءت القصص الستة مفصلة لمراحل العمر المختلفة:
مرحلة الطفولة وتشمل:
فترة الصبى قبل البلوغ( الصبيّ والصبيّة) , ويمثلها يحيي عليه السلام حيث قال الله فيه: وآتيناه الحكم صبيا, (الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) (الذين لم يبلغوا الحلم منكم)
وفترة الغلام عقب البلوغ (الغلام والغلامة), ويمثلها عيسى عليه السلام, الذي قال الله على لسانه: وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا.
ويظل الإنسان طفلا حتى يبلغ سنّ رشده, فلا يمكن اعتبار من في سنّ البلوغ رجلا أو امرأة, بل هو طفل بلغ الحُلُم (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم, فليستأذنوا..)
ثم مرحلة بلوغ الأشدّ والرُّشد, وتشمل:
فترة الفتوة (الفتى والفتاة), ويمثلها إبراهيم عليه السلام, الذي تذكر في السورة تفاصيل عن بداية دعوته لأبيه, يقول عنه قومه: سمعنا فتي يذكرهم يقال له إبراهيم.
وفترة الشباب (الشاب والشابة) ويمثلها موسى عليه السلام, والذي تذكر في السورة تفاصيل عن بداية رسالته حين انتهى عصر فرعون وبدأ موسى يتلقّى عن الله رسالاته وكلامه وشريعته.
وهناك فارق مميّز لمرحلة ما قبل الزواج, ومرحلة ما بعد الزواج.
ثم مرحلة الحكمة وتشمل:
بلوغ الأربعين (الرجل والمرأة), (حتى إذا بلغ أشُدّه وبلغ أربعين سنة)
ويمثلها في السورة إسماعيل عليه السلام, حيث كان له أهل يأمرهم بالصلاة والزكاة.
ثم مرحلة المكان العليّ (الرجل الشيخ والمرأة العجوز),
ويمثلها إدريس عليه السلام الذي قال الله فيه: ورفعناه مكانا عليّا.
وهناك فارق بين الرجل الذي بلغ الأربعين, وبين الذي بلغ مرحلة الشيخوخة. وكذلك المرأة في سن الأربعين, وفي سن العجوز.
وقد وصف الله كل هؤلاء النبيين بأنهم إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خرّوا سجدا وبكيا.
وفي السطور التالية, تتبين خصائص كل مرحلة من هذه المراحل, والأخلاق والطبائع التي يجب أن تغرس في الأبناء فيها, وأسلوب التربية المناسب لها, والذي يوصّل إلى تلك الأهداف.
ثم تتلوها خصائص الهدم التي يمكن أن يتعرض لها الأبناء, وكيفية مواجهتها وعلاجها.
فإلى رحاب السورة العظيمة, سورة مريم, وكل سور القرآن عظيمة…