تأتي بعض تفاصيل قصة إبراهيم عليه السلام في سورة مريم في فترة معينة من حياته. فمتى كانت تلك الفترة ؟
إن التفاصيل هنا تشير إلى الفترة الأولى من دعوته حين بدأ في إبلاغ أبيه أنه قد جاءه من العلم ما لم يأته, ويدعوه لاتباعه. وبعدها جعل إبراهيم آلهة قومه جذاذا إلا كبيرا لهم, (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم).
إذن هذه إشارات إلى إبراهيم عليه السلام حين كان فتى. وظل عليه السلام على هذه الصفة من الفتوّة طوال حياته, حيث تزوج من امرأتين سارة وهاجر, وحيث وهبه الله على الكبر إسماعيل وإسحاق. وهذه لا تكون من شيخ, إلا بأمر الله.
إذن فالإشارة هنا في سورة مريم هي عن فترة فتوة إبراهيم, يضرب الله لنا المثل فيما ينبغي أن يكون عليه الفتى المؤمن, بعد أن يتربي بمنهج الله في صباه وفي فترة الغلام:
والفتوة هي بداية لمرحلة جديدة, مختلفة تماما عن مرحلة الصبى والطفولة.
إن الإنسان في هذه المرحلة, عليه أن يبدأ في مراجعة معتقدات أبويه, ويعرضها على الهدى والعلم الذي جاءه من الله.
يبدأ في إدراك مراد الله منه, وفي فهم ما أنزله الله إليه مباشرة, يقرأ كتابه وكأنه قد أنزل عليه مباشرة, فهو الآن قد أصبح مسئولا عن نفسه: (بل الإنسان على نفسه بصيرة, ولو ألقى معاذيره) مسئوليته في عنقه هو وليست في عنق أبيه أو أمه (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا, اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا, من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه, ومن ضل فإنما يضل عليها, ولا تزر وازرة وزر أخرى, وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) سن التكليف والمسئولية.
ثم يتوجه إلى أبيه وهو أقرب الناس إليه, فيراجعه في شجاعة أدبية, ورفق ورقة ورحمة وصبر وحلم, فليس سهلا على الأب أن يستمع إلى نصيحة ابنه, وليس سهلا عليه أن يتراجع عن معتقداته التي زرعت فيه منذ الصغر,
وقد ضرب الله المثل بإبراهيم عليه الصلاة والسلام , فقد كان عمل أبيه في صناعة الأصنام وبيعها, أي أن الأمر كان بالنسبة له أكثر من العقيدة, فالأصنام سبب في رزقه أيضا, وصناعتها مهنته.
إن الفتى إبراهيم يبدأ بلفت انتباه العقل ليعيد النظر فيما يفعل, إن الإله الذي لا يسمع ولا يبصر, لا يصلح لأن يكون إلها, فما بالنا لو أنه كذلك لا يغني عن عابده شيئا؟ والعقل السليم لابد أن يصل إلى نبذ تلك الخزعبلات والسفاهات, فيتوجه بسؤال إلى أبيه:
● يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا؟
ثم لا يكتفي بالانتقاد وإنما يعطيه الحل البديل الذي يبدأ بالعلم الذي جاءه, ويأمر وينصح باتباعه إلى الهداية إلى الصراط السويّ.
● يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا.
ثم يحذّر مباشرة من الشيطان بحسم وحزم ..
● يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا.
ثم يحذّر من العذاب برقة وحنان (إني أخاف…)
● يا أبت إني أخاف أن يمسّك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليّا
وهذا التدرّج مطلوب في الدعوة: انتقاد, ولفت الانتباه إلى سفاهة الكفر والشرك, ثم الحل البديل والنصيحة, ثم التحذير ثم التهديد بأسلوب واضح ومباشر, ولكن بحنان ورحمة.
فيقابله أبوه بالتهديد دون أن يُعمل عقله في كلام ابنه: (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته لأرجمنّك واهجرني مليّا).
فيكمل إبراهيم عليه السلام حلمه وصبره وتأوهه بالإلحاح والمثابرة: (قال سلام عليك, سأستغفر لك ربّي إنه كان بي حفيّا).
ويعتزلهم وما يدعون من دون الله , ويتوجه إلى ربه بالدعاء, راجيا ألا يكون بدعاء ربه شقيا.
في بعض الأحيان, يتوجه الإنسان إلى وجهة وإلى هدف يحدده هو, ويظن أنه إن لم يحقق هذا الهدف تحديدا, فإنه سوف يفقد كل شيء. لقد ظل إبراهيم في نصحه لأبيه وقومه زمنا طويلا وهو لا ييأس. وكان ظنه أنه لا إيمان إلا في أبيه وقومه, ولكن الله سبحانه يقول: (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب, وكلا جعلنا نبيا, ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليّا). إن الله سبحانه وهبه أمة من الناس يدعون إلى الله في كل مكان, وذلك لما اعتزل أباه الذي رباه, وقومه وما يدعون من دون الله.
كذلك كان رسولنا صلى الله عليه وسلم, حين توقف الكافرون في مكة عن الاستجابة, أمره الله بالهجرة إلى المدينة, حيث وجد فيها نصرة للدين, وكسب مؤمنين جدد ناصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.
ويوصي الله الإنسان المسئول الذي مازال معه والداه, في سورة لقمان: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما, وصاحبهما في الدنيا معروفا, واتبع سبيل من أناب إليّ..)
هذه مرحلة خطيرة من مراحل الحياة, علينا أن نربي أولادنا على أن تكون عيونهم ناقدة لما حولهم, ولموروثات آبائهم, ولا نصرّ على أن يعيشوا في جلباب آبائهم, أن يراجعوا كل شيء , وأن يبحثوا بأنفسهم عن الحقيقة, لقد وصلنا لهم كتاب الله, وساعدناهم على الإيمان ومعرفة الله وتقواه , وزرعنا في وجدانهم خشية الله, ومحبته , وأعلمناهم بالله وأسمائه وصفاته والحق الذي أنزل في كتابه, ومسئوليتهم عن رسالته , التي هي استمرار لمسئولية رسول الله صلّى الله عليه وسلم, كما أعلمناهم من أين يحصلون على العلم, وكيف يفرزون ما يسمعون فيكونون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه,
والآن علينا أن نترك لهم الحبل على الغارب, فقد كانت ملة إبراهيم هي البحث بنفسه عن الحقيقة, ومحاولة الوصول إليها , ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه.
في سورة الأنعام, يعيد إبراهيم عليه السلام النظر في معتقدات آبائه وقومه: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر: أتتخذ أصناما آلهة! إني أراك وقومك في ضلال مبين) وبهذا الأسلوب من الانتقاد للمسلمات والموروثات, فيريه الله ملكوت السماوات والأرض, وليكون من الموقنين. وكذلك ينبغي أن يبحث الفتية والفتيات عن الحقيقة, بعد قواعد المعلومات التي لُقّنوها ودرسوها حتى تتطور بهم الدنيا, وحتى يكتشفوا آيات الله الكونية , وآيات الله القرآنية.
مرحلة الفتوّة: واذكر في الكتاب إبراهيم.
المقال السابق