بعد أن يبني الله قواعد الإخلاص في قلوب الذين آمنوا, ويربطهم برابطة العصر, ويتكاثرون حول رسول الله صلي الله عليه وسلم في الدنيا حول سنته وشريعته, وفي الآخرة حول نهر الكوثر في الجنة إن شاء الله, فإن الله سبحانه أراد أن يمتحن مفهوم الدين عندهم, أهو الصلاة والصيام والزكاة والحج ويقتصر على ذلك, أم أنه يصل إلى قلوبهم وسلوكهم مع الناس خاصة ضعافهم: اليتيم, والمسكين, ويمكن القياس على ذلك من أنواع أخرى من الضعفاء
إن الله يعمّق معاني الدين, فقد ذكر في الفاتحة”مالك يوم الدين” وقال في الليل: (وأما من بخل واستغنى , وكذب بالحسنى) , فهو سبحانه يعمّق ويؤكد على المعنى الحقيقي للدين ومعنى التكذيب به:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(3)فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ(4)الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ(5)الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ(6)وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ(7)
إنه اختبار للمؤمنين في مفهوم الدين, ما هو الدين الذي قرأنا في الفاتحة ؟
إن من لا ينفعل بالدين , فلا يكون رقيقا في معاملته لليتيم فيدعّه, و لايحض على طعام المسكين , حتى ولو لم يكن معه ما يمكنه من إطعامه مباشرة بنفسه, إن مثل هذا يعتبر مكذبا بالدين , مكذبا بالحساب, لأن تصديقه به لابد أن ينعكس على تصرفاته وأفعاله, بأن يرى فيها حرصه على البناء في الآخرة وتعميرها, وأن يعمل من الأعمال ما ليس له جزاء عند أحد من البشر, لكنه ينتظر أجره من الله ,
إنه إن لم يفعل ذلك , فلا معنى لصلاته , وبالتالي لا معنى لغيرها من العبادات, فالصلاة التي هي عماد الدين, والتي يقف بها المؤمنون بين يدي ربهم خمس مرات على الأقل في اليوم والليلة, إن لم تؤد بصاحبها إلى رقة القلب الذي يكرم اليتيم, ويطعم أو يحض على طعام المسكين, فإنها كأن لم تكن, ولكن الويل له, ويكون مرائيا بها , وهذا مساو تماما لمنعه الماعون عن المسكين واليتيم.
إن التأكيد على هذه المعاني في تلك المرحلة من بدايات تاريخ دعوة الإسلام وبنائه لقواعد وأسس الإخلاص في أتباع الدين من الذين آمنوا, وقبل الانتقال إلى ما بعدها ,إنما هو أمر غاية في الأهمية , هو بمثابة اختبار المرحلة , اختبار الصف الأول من المنهاج , وهو اختبار سلامة أساس المنشأ قبل البناء عليه.
وفي بيانه صلى الله عليه وسلم لما نُزّل إلينا يقول فيما روي عنه من الحديث: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له
ولو سئل أي مؤمن قبل نزول هذه السورة عن معنى الدين في مفهومه, ربما لا تجد إجابة مثل تلك التي أجاب بها الله على تساؤل: أرأيت الذي يكذب بالدين؟ فقد تجد إجابات مثل أن الذي يكذب بالدين هو الذي يكفر بالله بقوله, أو الذي ينكر الصلاة, أو لا يصلي, أو يمنع الزكاة, وإنما في إجابة سورة الماعون عن هذا التساؤل, يتبين المعنى الحقيقي لجوهر هذا الدين, ووصوله بصاحبه إلى السلوك القويم, مع أضعف الناس, والذي يتبين فيه أنهم لا يقصدون بسلوكهم إلا وجه الله, فاليتيم الضعيف الذي فقد والده, ربما لا يجد بعض الناس رادعا لهم من أكل ماله, وإهماله, ومعاملته بالقسوة , هؤلاء مكذبون بالدين, ولو صلوا وصاموا وحجوا وزكوا,
كذلك الذي لا يحض على طعام المسكين, حتى لو لم يكن عنده ما يعطيه للمسكين, فإنه يمكنه أن يحض الآخرين على طعامه وإطعامه, حتى يكون مصدقا بالدين غير مكذب به
وفي هذا السلوك مع ضعاف الناس, تأكيد على إخلاصهم لله, وهم يعملون العمل لا شبهة فيه لنفاق أو رياء
وتأتي المفاجأة الثانية في السورة: فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراءون. ويمنعون الماعون
إن وجود كلمة فويل للمصلين في آية منفصلة, تلفت النظر وترهب وتذهل, قبل أن تصل إلى الآية التالية التي تبينها وتوضحها, وتشرح لمن هذا الويل, ولأي نوعية من المصلين, وما هو سببه. إنه بسبب أنهم عن صلاتهم ساهون. ساهون عن أداء الصلاة, ساهون عن إقامتها في موعدها ساهون عن نتائجها وثمارها, وساهون عن تحقيقها لأهدافها من أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ثم يعقّب الله واصفا المصلين الذين لهم ويل, فيقول: الذين هم يراءون, ويجعلها في آي منفصلة أيضا, والمراءاة دليل على نفاق القلب, ذلك النفاق الذي يجعل صاحبه يتصرف لوجه أي شيء إلا الله, وهذا مناف للإخلاص,
ثم يؤدي هذا بصاحبه إلى أنه يمنع الماعون عن المحتاجين إليه من خلق الله, بدلا من أن يطعم المسكين أو أن يحض على طعامه, فهو يمنعه
إن الله في سورة الماعون, يعمق مفهوم الدين قبل أن يمضي في البناء عليه بتكاليف أو قواعد أخرى للعقيدة والسلوك.
إن البناء الذي لا يؤسس على الإخلاص والتقوى بناء منهار
يقول الله سبحانه في سورة التوبة: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
إنهم لم يكتفوا بالصلاة ولكن بنوا مسجدا, ولكنه مسجد ضرار, نيتهم فيه لم تكن خالصة مخلصة لله, فرد الله عليهم عملهم الذي كان يبدو رائعا ممتازا, وهو بناء بيت لله في الأرض, فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه سبحانه
نسأل الله الإخلاص في النية, والإخلاص في العمل, والإخلاص في القلب, والإخلاص في السلوك, وأن يجعلنا من عباده المخلصين