إن منهاج رب العالمين يحتوي على العقيدة , وتطبيقاتها العملية , ولا يكتفي بالإيمان في القلب فقط . فلابد من تدريب على تطبيقات العقيدة, ولابد من برهان في كل مرحلة, على أن المؤمن قد استوعب متطلبات العقيدة , والعمل بها .
وفي المرحلة السابقة , وصل بعض الناس إلى الإيمان بوجود الآخرة والحساب. فمن آمن , فعليه أن يضع العقيدة في تصرفاته , فيبرهن على قناعته بها , ويخرج العقيدة من كونها إيمانا في القلب, إلى أن تصبح حاكمة لتصرفات الإنسان, تبرهن على انفعاله بها.
فلو أعلنت المنطقة التي تسكن فيها عن اكتشاف بئر بترول أسفل الحي , وأنها ستقوم بهدم المساكن في الحي في وقت لاحق, وأنها قد أعدت مساحة من الأرض في مكان آخر ليسكن فيها من تنهدم مساكنهم. ومن أراد سكنا في المنطقة الجديدة فليتقدم بطلب للحجز, ويسدد مقدّما للسكن الجديد.
إن من يصدق بإعلان الإدارة , لابد له أن يتقدم للحجز فورا , وأن يشعر وهو يسدد المال المطلوب أنه يبني للمستقبل . ومن لا يتصرف هكذا يكون غير عاقل . فالحياة في الحي الجديد هي الحياة , والحي الموجود حاليا إلى زوال وإزالة.
لقد توالت آيات القرآن علي رسول الله لوضع المؤمنين بالآخرة موضع اختبار , تؤكد به ثقتهم فيما عرض عليهم , وحرصهم على الحسنى, ووضعهم الآخرة في حسبانهم , وتوالت الخطوات لتحقيق هذا الهدف.
فبعد ظلمة الجهل بالآخرة , وظلمة الكفر والضلال, والغشاوة التي كانت على قلوب الناس , والتي يعبر عنها بالقسم (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى(1)) , تجلّت حقيقة الآخرة والبعث والحساب , وأزيل بها الجهل والغشاوة , كما يجلّي الله النهار ويوضحه ويبينه (وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2)).
وكما أن الله نوّع في خلقه فخلق الذكر والأنثى , (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(3)) , فإن السعي والعمل سيختلف من إنسان إلى إنسان, (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى(4))
إن من اعتقد بوجود الآخرة , وأنها خير وأبقى , عليه أن يحول هذا الاعتقاد إلى عمل , أن يبرهن على أن إيمانه ليس إيمانا سلبيا , وليس حبرا على ورق , ولكنه قد انفعل به وحوله إلى واقع عملي .
وأول هذا البرهان , يكون في أعز الأشياء إلى الإنسان …. في المال .
إن الله في هذه الآيات يجعل البداية من قِبل الإنسان. فمن آمن بالآخرة , ووثق في حقيقتها , فسيعطي من ماله مساعدة لمحتاج , قد لا يقابله في حياته مرة أخرى , وقد لا تربطه به أية صلة , لا يعطيه إلا لله. لن يأخذ منه شيئا في الدنيا , ولكنه يعطيه , وينتظر الجزاء في الآخرة. (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7))
إنه إن أعطى واتقى , سيكون هذا برهانا على التصديق بالحسنى , وعملا لها , وتكون آثار سورة التكوير قد بلغت مأربها وأدت وظيفتها, فسييسره الله لليسرى , أي أن الله سيرشده لأعمال الخير والطاعات , الموصلة إلى الجنة , حتى يسهل عليه فعلها.
(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8)), فإنه يكون غير صادق في اعتقاده بالآخرة , أي يكون (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9))
وهذا يقول الله فيه: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى(11)) في الجحيم المسعّرة .
وعلى الله الهدى , وله الآخرة والأولى.
لقد وضع القرآن الآخرة في القلوب , وهو يرجحها في (الأعلى)على الحياة الدنيا , وهو الآن في (الليل) يعلم الناس أن الآخرة والأولى كلاهما لله رب العالمين, والآخرة تسبق الأولى في الأهمية:(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12)وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى(13))
فإن انقسم الناس إلى مؤمن بالآخرة , يعطي من ماله, تصديقا بالحسنى , وإلى كافر بها يبخل بماله , فإن هذا الأخير يكون هو الأشقى الذي يصلى النار الكبرى , ثم لا يموت فيها ولا يحيا.(فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى(14)لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى(15)الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى(16))
(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى(17)) الذي لا يكتفى بأنه أعطى من ماله واتقى, ولكنه …(الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى(18)وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى(19)إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى(20))
إن الله يعلمه الإخلاص في العمل , لوجه الله وحده لا شريك له. فلو فعل ذلك , فإن الله يبشره بالرضى , الذي هو هدف أي إنسان في الحياة , أن يرضى … (وَلَسَوْفَ يَرْضَى(21)) الليل
والعطاء هنا يقصد منه بالدرجة الأولى – والله أعلم – البرهنة على أن من صدّق بالحسنى موقن بما عند الله , قبل أن يكون مساعدة لمسكين, وهذا هو الإخلاص .. أساس البناء , الذي عليه يُبنى الفرد المؤمن , نواة الأمة المؤمنة.